“أعد نفسي للمساهمة بأدوات المرحلة القادمة”.. الوثائقية تحاور مدير مهرجان الأفلام السعودية
عقد كامل مر على “مهرجان أفلام السعودية”، يشي ببوادر حركة فنية بدأت ملامحها حتى قبل الانفتاح الحالي الذي تشهده المملكة، ويجعل تجربتها حتى الآن مؤشرا على مدى ما وصلت إليه الصناعة السينمائية هناك.
حرصت الجزيرة الوثائقية في هذه الدورة تحديدا، على الإحاطة بالسياق العام للواقع الفني السعودي، من خلال الحوار مع أرباب الصناعة السيبنمائية في المملكة.
امتدت هذه الدورة ما بين 2-9 من شهر أيار/ مايو الجاري، وقد تمخضت عن ثمانية أفلام طويلة، وعشرات الأفلام الوثائقية والدرامية القصيرة التي صنعها الشباب السعودي، وهي تجاربهم الأولى في مسارهم الجديد، ليوفر هذا المهرجان نافذة عرض ضرورية لأعمالهم التي لم تكن لترى النور.
التقينا أحمد الملا -مدير المهرجان- لنقف على تجربة المهرجان ونتلمس ملامح المرحلة التي وصلت إليها السعودية، ونبحث معه ما وصلت إليه الصناعة بالورقة والقلم من غير شعارات حماسية.
عمل الملا في إدارة عدد من المؤسسات الثقافية ومستشارا في أخرى مثل الجامعات، والنادي الأدبي، وجمعية الثقافة والفنون، والأندية الرياضية، ومراكز ثقافية سعودية وعربية.
يقول “قدمت ما رأيته في كل منها حسب طبيعة وإمكانيات كل مؤسسة، وأعد نفسي للمساهمة بأدوات المرحلة القادمة، التي نرى بوادرها مضيئة وواعدة بازدهار ثقافي وفني على مستوى السعودية”.
إلى جانب شهرته الواسعة وسط مثقفي السعودية أدبيا وسينمائيا، يقدر الملا وضعية الحوارات التي تُجرى معه، أحيانا في إطار تجربته الشعرية التي قدّم من خلالها أربعة دواوين، وأخرى للسينما التي صنع من خلالها مهرجان السعودية للأفلام الذي بدأه تجمّعا ثقافيا للمشاهدة، ثم طوّره.
القوانين والتشريعات التي تحتاجها الصناعة
سألته في البداية عن فكرة عروض الأفلام على جمهورٍ عام، في نادي المنطقة الشرقية الأدبي عام 2005، حيث انطلق برنامج أسبوعي عنوانه “مساء كل يوم أحد”، لعروض الأفلام العالمية المختارة، ومن ثمّ التجارب السعودية وصولا للدورة الأولى في 2008. فأجاب بأن أكبر مشكلة “طبيعية” ما زالت موجودة على طول هذه الفترة هي أنه ما زال تنقصنا بعض القوانين والتشريعات التي تنقص هذه المهنة، لوضع الأساسات للصناعة، ربما هي قادمة نوعا ما، لدينا بعض المصاعب الطبيعية، لأن المجال جديد نوعا ما على المدينة. لكننا في النهاية نحتاج إلى سوق مستقر كي يمكننا الحكم عليه. ويؤكد تحديدا أنه في النهاية أخطر شيء يحتاج المهرجان إلى وجوده هو الاستدامة.
ويشير في مثال إلى تذكر مهرجان دبي السينمائي، الذي وصل إلى مرحلة كبيرة من الشهرة، ونُسي بمجرد توقفه، يقول “لذلك، كان حرصنا الأساسي هو الاستدامة من خلال تمويل المهرجان لنفسه، ولديه استثمار يمكنه أن يصرف على المهرجان، فالمهرجان بدأ في خطة تستطيع المساعدة في ذلك، بمشاركته مع جمعية السينما التي أنشأت سينماتك، بكلفة اقتصادية عالية، ووُضعت لها خطط لمدة عشر سنوات من الآن، ويمكن من خلالها ضخ أموال للمهرجان بزيارة هذا السينماتك والاستعانة بخدماته، وهذه الاستثمارات التي تقدمها مع الجمعية، مثل الموسوعة السعودية للسينما، التي تضخ كل دورة عددا غير قليل من الكتب، يمكنها توفير بعض العوائد المادية”.
ويتوقف قليلا قبل أن يؤكد على شيء مؤسس بالنسبة للجميع في الداخل: أن مهرجان الأفلام السعودية مرآة للإنتاج الفني السعودي، ويمكن له عكس اللحظة التي وصل إليها الصنّاع، فكل دورة كانت تحمل النضج النسبي الذي تعلّمه الصانع السعودي، إذ كل دورة مضت كانت أقل نضجا من الدورة التي تليها، لذلك كان هذا شيئا إيجابيا تماما في المستوى الفني لكل دورة، واليوم لدينا في المهرجان أفلام الصنّاع الأولى، أي أن لدينا أشخاصا درسوا وجرّبوا ثم بدأو بداية قوية تصلح للعرض في المهرجان.
وبالسؤال حول سياق اختيار الأفلام، يقول الرجل إنه يكون من خلال عدد من الصنّاع الذين يملكون لائحة نوعا ما، وبتطبيق المعايير المختلفة الكمية والكيفية، يُختار من بينها، ويُعطون خريطة العرض المتاحة التي تُبنى عليها التصفية فنيا وزمنيا بالتوزيع بين الأفلام للوقت والتاريخ.
أما بخصوص سوق الإنتاج في مهرجان الأفلام، فيحيل الملا الشراكة إلى “إثراء”، الشريك الأساسي في تحديد إيجار الموقع وبناء المكان الذي تحتاجه الشركات المختلفة.
وبينما استمعت الجزيرة الوثائقية إلى ملاحظات بعض الصنّاع السعوديين الذين لم يستطيعوا المشاركة من ارتفاع سعر الحضور في السوق نتيجة ارتفاع سعر الإيجار بشكل كبير، يبرر الملا هذا الأمر بأن على الشركات التي تشارك في المهرجان أن تمنح أيضا بعض المشاريع الموجودة دعما ماديا وخدماتيا. فإذا كانت الشركة لا يمكنها استئجار ذلك، فربما لا يمكنها المساعدة في هذا الأمر، الذي هو الهدف الأساسي من السوق أساسا.
المكان الحقيقي والمجاز الفني في رؤية الملا
ينطلق المهرجان من مدينة بعيدة وصغيرة نسبيا هي مدينة الخُبر الواقعة بالمنطقة الشرقية، بعيدا تماما عن مركزية الرياض التي تبتلع أغلب الفعاليات الفنية السعودية.
وقد كان هذا المكان الصغير محطة الحب الأولى التي حركت الملا للتفكير في إقامة المهرجان أساسا، لذلك بدا فهمها والوقوف على محورية المكان ذاته جزءا من فهم السياق الذي يتفاعل من خلاله المهرجان الأهم للداخل السعودي.
وفي سياق الحديث عن المكان، فالملا مهوس بالحديث عنه في خطابه الشعري عموما، فيرى أن المنطقة الشرقية التي خرجت منها كل الدورات منذ الدورة الأولى في 2008 في منطقة بسيطة، ثم انتقاله منذ الدورة الخامسة إلى مركز “إثراء” الكبير كان نقلة كبيرة للمهرجان، وأصبح أكثر ثقلا، وقد أصبح هذا المكان بالنسبة له شاهدا على مساحة تطور ملموس للجميع.
يقول الرجل إن المهرجان بدأ بفريق متطوعين للعمل من داخل هذا المكان، وقد أصبح هؤلاء الآن متفرغين للعمل. وبينما يرى كثيرون أن المهرجان يصعب خروجه بدون أحمد الملا، يقول هو إنه أصبح في المهرجان فريق محترف كفاية للعمل بدونه.
رقابة أكثر تفهما
أما هيئة المرئي والمسموع التي يمكن النظر إليها من خلال الرقابة، فلا تزال جديدة، تتفاعل مع الأعمال بشكل جيد نوعا ما. يقول الملا فيما يخص الحديث عن الرقابة: يمكن التأكيد على أن سقف الرقابة قد ارتفع تماما، وأصبح متقبِلا لأشياء كانت ربما لا تقبل في السابق داخل السعودية، وحتى على المستوى الأدبي، فقد كان هناك عدد من الكتب التي تُمنع، واليوم لم يعد ذلك يحدث بنفس الشكل. وحتى لو كانت أفلام المهرجانات لها نوع معين من الجمهور، فإنه لم يُمنع أي فيلم من أفلام المهرجان حتى الآن.
وفي الوقت ذاته، يرى الملا أنه لا يزال هناك بعض القيم التي ينتبه لها رقابيا، وهذا موجود في العالم كله، لكن المهم أن يكون لديه مساحة تجريب أكبر.
وفي السياق الإنتاجي والمعرفي يرى الملا أنه يمكن البناء على التجارب الجديدة، فقد أصبح للسعودية سنويا أكثر من فيلم، والموسوعة السعودية مستمرة كذلك في النشر طوال العام، لإثراء المحتوى العربي.
أندرغراوند محلي يسعى للعالمية
ثمة شيء ملفت تماما يمكن الختام من عنده في سياق هذا الحوار عموما، يخص فيلم الافتتاح الذي يحمل من المعنى المتحقق والمجاز ما يجعل الحديث عنه هنا والآن شديد الأهمية، وهو فيلم “أندرقراوند” (Underground)، وهو من إخراج السعودي عبد الرحمن صندقجي، وقد عرض فيه أفكارا ومشاعر لموهوبين يؤدون أنواعا مختلفة من الموسيقى (الروك والجاز والبلوز).
ويجمع “أندرغراوند” بين عدد من صناع الموسيقى السعوديين الذين بدأوا مشروعهم الموسيقي بمفردهم دون تعاون خارجي، أو حتى ثقة فيما يفعلونه ومدى نتائجه، وقد واجهوا المجتمع من منطقة منبوذة نوعا ما، واستطاع عدد منهم فرض هذه المساحة وإعادة اكتشافها مع الجمهور مرة أخرى.
لذلك، وفي نهاية هذا الفصل، لا يبدو من المبالغة أن نقول إن “صناعة السينما في السعودية”، ما زال ينقصها أشياء، لكنها تتحقق وتسابق الزمن لعملها، لتتحول من “أندرغراوند” محلي إلى “أندرغراوند” عالمي. فمعها رجل يكتب الشعر ويخاف من صناعة فيلمه الخاص، وقد اكتفى بقرض دواوين شعرية: كان آخرها ديوان “يا له من يومٍ هائل” الذي قال إنه آخر مساره، يتوقف عن الكتابة في اللحظة التي تتحرك فيها السعودية فنيا أدبيا وسينمائيا أكثر من أي وقت مضى، وهي مفارقة يمكن أن تخلق الكثير من الأسئلة، حول رجل تحرك وقت الركود، وعطّل حركته مع حماس الآخرين، ويقف مع مهرجان يبدو مرآة السعودية الحقيقية، ومتابعته تضعنا أمام النتائج الحقيقية التي وصلت إليها البلاد، دون ضجيج.
يقول الملا في قصيدة:
سأموتُ بشَعْرٍ طويلٍ
ولحيةٍ كَثَّةٍ بيضاء
في مغارةٍ عالية
فلا حاجة إلى كَفَن
أو قبر.
كان الرجل أثناء الحوار على الهيئة والوصف ذاته تقريبا، لكنه مفعم بالحياة، شعلة نشاط يتحرك في كل مكان بالمهرجان، ويحاول إلى جانب الآخرين بناء صورة فنية مغايرة عن الفن، والسعودية كلها بمعنى ما، كي لا يقف في مغارة وحده، وربما ذلك تحديدا ما يحتاجه كي يبقى حيا، ولديه ما يقوله، مثل السعودية الجديدة.