“الحرب ساعدت السينما لكنها آذتنا كثيرا”.. الوثائقية تحاور المخرج السوداني محمد كردفاني
ربما يكون قد غامر بمستقبل بناته، فمن أجل شغفه الحقيقي تخلى عن وظيفته الآمنة والمرتب الكبير الذي يناله، لكن تجربته تثبت أن المغامرة كانت محسوبة بدقة، والأهم أنه ما ضاع جهد وراءه مثابر.
نتحدث عن المخرج السوداني محمد كردفاني صاحب “وداعا جوليا”، الذي حقق صدى عالميا كبيرا، ونال إشادات نقدية متعددة، ومع أنه بدأ رحلة عرضه على إحدى أبرز المنصات في الشرق الأوسط وأمريكا، فإن رحلته مع دور العرض السينمائية الأوروبية لا تزال في مستهلها.
التقيناه أثناء الدورة الـ58 من مهرجان “كارلوفي فاري” السينمائي الدولي، الذي انعقد ما بين 28 يونيو/ حزيران إلى 6 يوليو/ تموز 2024، حيث شارك في لجنة تحكيم “بروكسيما”، وهى المسابقة الثانية بالمهرجان الذي يعد المهرجان الأبرز والأهم في وسط وشرق أوروبا.
بمناسبة وجودك هنا -في مهرجان “كارلوفي فاري”- للعام الثاني على التوالي، وبمناسبة أنك هذه المرة عضو في لجنة تحكيم “بروكسيما”، فهل شعرت باختلاف بين الجمهور التشيكي والجمهور في المهرجانات والبلدان الأخرى، لأن بعض كبار النجوم الذين حضروا إلى المهرجان قد أشاروا إلى اختلاف الجمهور، منهم المخرج والممثل المستقل “إيثان هوك”، و”راسل كرو”، و”مايكل كين”، و”فيغو مورتنسن”، و”جوني ديب”، حتى أن بعضهم قال إنه يحضر المهرجان لأجل الجمهور، فكيف ترى أنت الأمر؟
هذا صحيح.. شعوري أن الجمهور هنا لديه حب حقيقي للسينما، بغض النظر عن نوعية الأفلام، سواء كانت طويلة أو قصيرة، داخل المسابقة أو خارجها، وثائقية أو روائية، من أفريقيا أو من أوروبا، هناك دائما تحدي القاعات ممتلئة.. فأنا هذه المرة ضمن تحكيم “بروكسيما”، وأحضر يوميا عرضين على الأقل مع الجمهور، ولقد لاحظت أنه دائما لا يوجد كرسي شاغر في قاعة السينما.
مع تقديم فيلمك الأول، تحققت لك نجومية كبيرة، فالجميع يتحدث عن الفيلم، كيف هو شعورك الآن، هل تشعر بضغط وقلق؟ هل لديك إحساس بوجود مسؤولية كبيرة عليك في اختيار العمل الثاني، أم بماذا تشعر الآن؟
أجل، هناك ضغط فظيع، مع أن بعض الناس يحاول أن لا يشعرك بهذا الضغط، لكنه موجود. ضغط من الجمهور ومن الصناعة ومن الإعلام، لكني أحاول أن أذكر نفسي دائما أنني أصنع الأفلام لأنني أحب هذه التجربة، أحب السينما، فلن أتوقف خوفا من تجربة ثانية قد لا تكون بمستوى التجربة الأولى، أو خوفا من أن لا تنجح، لأن الممتع في هذا الموضوع هو صناعة الفيلم وإنجازه. أدعو ربي أن يقدرني على تقديم الجيد.
هل بدأت العمل على مشروع جديد، أم ما زلت تبحث عن فكرة؟
بدأت الكتابة والعمل على مشروع سيناريو آخر، كذلك بالتوازي أعمل على مشاريع أفلام لمخرجين آخرين.
هل ستكون أنت المنتج؟
أنا منتج مبدع ومطور، فبعد ظهور “وداعا جوليا” وصلتني عدة طلبات لنصوص يريدون العمل عليها، لأن أسلوب الكتابة في “وداعا جوليا” كان لافتا لهم، لذلك يريدون مني المساهمة في تطويرها أعمالهم.
لكن ما فهمته من خلال حوارات سابقة لك أن “وداعا جوليا” لم يكن بهذه الصورة منذ البداية، وأن السيناريو طور عدة مرات، وذلك بعد أن دخل ورشات عمل كثيرة، لعبت دورا مهما في تطوير السيناريو بهذا الشكل.
صحيح جدا، وربما هذا أكثر شيء تعلمت منه، لأن “وداعا جوليا” دخل ورشات تطوير كثيرة جدا، وكانت خبرة كبيرة لي فقد تعلمت تطوير النصوص، وهذه الفكرة لم تكن تخطر على بالي، ولم أكن أعرف معنى تطوير النص، فحينما كنت أعمل على الأفلام القصيرة لم تكن لدي خبرة بهذا المجال، أما في “وداعا جوليا” فكان لدينا متسع من الوقت خلال رحلة البحث عن تمويل، وأثناء هذا الوقت كنا نطور النص.
لاحظت أنك وأمجد أبو العلاء اتجهتما مباشرة للإنتاج، بعد تجربة إخراج الفيلم الروائي الطويل الأول لكل منكما، دون أن تركزا على الاشتغال على السيناريو الثاني الطويل لكما. هل هذا لأنك ترى أن عنصر الإنتاج له الأولوية، أو لأن تأسيس اسمك في خانة الإنتاج السينمائي ربما يسهل لك فتح الأبواب وخوض تجربة الإخراج الثانية وما بعدها؟
وضعنا مختلف بعض الشيء، إنها تجربة خاصة جدا في السودان، ليست لدينا صناعة ولا إنتاج، لدينا مسؤولية وشعور متسائل حول فتح الطريق أمام مخرجين وصناع سينما آخرين لتظهر أعمالهم للنور، لأن شخصين أو ثلاثة لن يستطيعوا صناعة أفلام كثيرة.
نعم علينا أن نواصل اشتغالنا على مشاريعنا، لكننا أثناء ذلك نستطيع فتح الطريق أمام آخرين، مستفيدين من شبكة العلاقات التي أسّسناها، فمثلما سهّل لي أبو العلاء الطريق، وفتح لي أبوابا لم أكن على علم بها، فأنا أيضا أريد أن أساهم في فتح الطريق أمام آخرين، كما نريد فتح الطريق أمام المخرجات اللاتي لديهن مشاريع ونسهل وصولهن.
كتب البعض ينتقد تجربة الأفلام السودانية، قائلا إنها “تطفو” في المهرجانات بين حين وآخر، لكن في الحقيقة ليس هناك سينما سودانية. لذللك اسمح لي بسؤالك: هل تتوقع أن تتمكنوا من خلق تيار سينمائي سوداني؟ لعلك وأمجد أبو العلاء تعملان على هذا، لكن كيف ترون التجربة؟ وماذا تتوقعون منها مستقبلا؟
خلق تيار سينمائي هو الهدف، لكن في النهاية هناك ظروف كثيرة ليس لدينا تحكم فيها، فمثلا موضوع الحرب قد أعادنا إلى الوراء كثيرا جدا، وتأخرنا كثيرا بسببه، ونحن بسبب هذا أيضا نعمل من خارج السودان. هناك أشياء ليست بأيدينا، ومع ذلك فهذا لا يمنع أننا نواصل العمل، فمثلا فيلما “ستموت في العشرين”، و”وداعا جوليا” صُنعا في ظروف سياسية مضطربة جدا، وصعبة جدا.. واستطعنا خلق سينما.
هناك أيضا “حديث عن الأشجار” للمخرج صهيب قسم الباري الذي حصد جائزتين من مهرجان برلين، منهما جائزة الجمهور. وكذلك سارة سليمان بفيلمها “أجساد طولية” الذي عُرض في مهرجان “إدفا”، ونال جائزة الجمهور في مهرجان “مالمو”، وجائزة أخرى في الأردن.
صحيح.. أريد أن أقول إننا نتكيف، ونحاول أن نتواءم مع الظروف.
هل هناك مخرجون آخرون غيرك أنت وأمجد أبو العلاء يحاولون صناعة أفلام؟ فهناك مجموعة من جيل الستينيات والسبعينيات من السينمائيين السودانيين، ممن حققوا نجاحا لافتا آنذاك بأفلامهم القصيرة بمهرجانات دولية، ثم توقفوا مع موت السينما هناك، والآن يعيش بعضهم في مصر، فهل يعملون على صناعة أفلام جديدة، أم كيف تسير معهم الأمور؟
أجل، هناك مجموعة من أساتذتنا الكبار يعملون الآن، ومعهم صهيب قسم الباري، وهناك شباب مثل مروة زين تعمل الآن على فيلمها الثاني، وهو فيلم قصير، وكذلك المخرجة سوزانا ميرغني صاحبة فيلم “الست”، وهي الآن تعمل على فيلمها الطويل. وهناك أناس آخرون يعملون على التيار الثقافي، ليسوا مخرجين، لكنهم يعملون على التيار الثقافي، منهم طلال عفيفي كان عنده مهرجان صفر في إنجلترا.
هل أنت مع السرد السينمائي الذي يتعمد المباشرة أحيانا، أو يهتم بالجوانب التوعوية أي نشر الوعي لخلق تيار ثقافي ما بين الجمهور؟ أم أنك تصر على أن وجود اللغة السينمائية دائما؟
لا أحب المباشرة، لأنها ليست جيدة في السرد السينمائي، ففيها نوع من الفوقية. أرى أن الفيلم الذي يحمل رسالة فيه نوع من الفوقية، وكأنه يخاطب الجمهور من موقع أعلى، فيوجه إليهم رسالة أو نصيحة، وهذا أسلوب منفر للمشاهد.
أنا أحاول أن أبعد عن المباشرة بشكل ما، ثم إنني في النهاية لست متأكدا من الموضوع التوعوي، لأنني أتغير كل مدة، فإذا قدمت فيلما فيه رسالة بغرض التوعية، فقد لا تكون صحيحة لأنني بعد مدة سأتغير، فما يهمني هو التغيير المجتمعي وأثره من خلال النقاش الذي يخلقه الفيلم بعد عرضه، وليس برسالة موجودة داخل الفيلم موجهة للجمهور.
وهل يمكن الفصل بين الرسالة وبين ما يتضمنه الفيلم أو ما يثار من حوله من نقاش بعد عرضه؟ فمثلا لديك رسالة في “وداعا جوليا” لا تطرحها طرحا مباشرا، لكن هذا لا ينفي وجود رسالة لديك، فأنت تتحدث عن العنصرية في المجتمع السوداني، لا سيما العنصرية بين الجنوب والشمال؟
ما فعله “وداعا جوليا” أنه راقب المجتمع وأسباب سلوكه، وكنا نتساءل: لماذا تسير الأمور بهذا الشكل؟ وكان هذا يخلق في بعض الأحيان جدلا، لكن في مرات أخرى كان يخلق حوارا، وهي الحوارات التي يمكن أن تصنع تغييرا أو تسببه.
أعود إلى تعريف “المباشرة”، لأنه في إجابتك تقصد بها الخطابة، وأنا كنت أقصد بها أن الأمور جميعها تصبح واضحة أثناء السرد، فليس بالضرورة أن تتوازى المباشرة مع وجود الخطابة. وأقصد بالمباشرة غياب مستويات تحتية يتاح للمشاهد إدراكها، أو أشياء بين السطور يمكن قراءتها، فأثناء مشاهدتي لفيلم “وداعا جوليا”، وجدتك تشرح كل شيء للجمهور، وكأنك تريد أن تتأكد من أن كل شيء واضح، ولا فرصة للتخمين.
فهمتك. أرى أن التوازن مهم، فكلما كنت مجردا في أفكارك، ستبتعد بعض المسافة عن الجمهور العريض، وحين تكون واضحا تصل إلى جمهور أكبر، بسهولة. لكن في نفس الوقت تبتعد عن جمهور آخر يتوقع منك أن تترك له مساحة ليقرأ ما بين السطور. هذا سؤال مطروح دائما أثناء صناعة الفيلم: ما هو الجمهور المستهدف؟
ليس لدي شيء ثابت، ففيلم “وداعا جوليا” كان موجها لأكبر شريحة ممكنة من السودانيين، ثم العرب، ثم باقي العالم. ولتحقيق هذا الهدف يصعب أن تكون المشاهد تجريدية أو غامضة، فليس مستحسنا أن تكون عميقا جدا، ولا أن يكون الإيقاع متمهلا أو بطيئا، أو مثل سينما الـ”نيش” (Niche).
فقد حاولت صناعة فيلم بأحب لغة إلى الجمهور، بحيث يكون مناسبا وغير ممل للمشاهدين، وفيه عناصر يحبها الجمهور مثل الغناء والموسيقى، وفي نفس الوقت لا يفقد قيمته الفنية. ففي السيناريو طبقات لمن يريد قراءة ما بين السطور، وأرى أن “وداعا جوليا” استطاع أن يحقق هذا، وأن يعرض في مهرجان كان.
لقد طرحتُ هذا السؤال بسبب وجود مشهد تساءلت حين رأيته: لماذا وضعه؟ لأنني بدون هذا المشهد كنت أفهم ما بين السطور مما لم يُقل، فلما ظهر هذا المشهد شعرت أنك وضعته لتشرح المشروح، أو لتضرب سقف توقعات المشاهد أو الجمهور؟ فهل تعرف المشهد الذي أقصده؟
أهو مشهد الطلاق؟
لا.. إنما أقصد مشهد المواجهة بين المرأتين، لأنني حين شاهدت في لقطة سابقة بالفيلم صورة الأب وعليها شخبطات بالقلم، كان طبيعيا أن أفهم أن هذا ليس سلوك الطفل الذي يحب أباه، بل سلوك إنسان غاضب، والغاضب في هذه الحالة هو الأم جوليا التي اكتشفت الخديعة. لا سيما أنك تمهد لاكتشافها بعدة لقطات وهي تفحص الأشياء بالأدراج وتقدم نصائحها لربة البيت. إذن، فمع الخطوط والدوائر بالقلم الحبر التي تكاد تخفي صورة الأب سندرك أن جوليا فهمت الحقيقة، وأدركت مَنْ هم قتلة زوجها، وأنها تقبلت الأمر في صمت، حتى تواصل العمل وتضمن مستقبلها هي وابنها. فهذا كان واضحا لي من بناء المشاهد واللقطات السابقة، وقد استمتعت بها حقا، فلماذا كان إصرارك على خلق مشهد المواجهة؟ لقد كان تحصيل حاصل، كان شعوري أن هذا المشهد أخذ قليلا من جمال الفيلم.
الآن أفكر: بدون هذا المشهد ماذا سيكون الوضع لدى المشاهد، ستبقى أسئلة كثيرة عالقة؟ كيف عرفت؟ هذا أول سؤال يسأله المتلقي، فإذا لم أوضحه سيكون التساؤل من الجمهور: كيف تضع شيئا ولا تجعلني أراه بالفيلم؟ وهذا شيء كبير جدا، وقد ذكرت بأن جوليا تعرف من أول الفيلم، فكيف عرفت؟ لا سيما أننا نراها في المشهد السابق تقول له: “وأنت مالك؟ اطلع بره؟” فقد بدت غير مصعوقة بمعلومة أن هؤلاء الرجال قتلوا زوجها، فإذا لم أشرح للجمهور، فأظن أن هذا قد يثير حنقه أو غيظه.
ثانيا: المشهد ليس عن الشرح، بل مشهد مواجهة عن “الذنب”، ففيه كل امرأة تقول للأخرى “أنت لست بريئة”، وكل واحدة منهما تقول للأخرى أنت مذنبة.
لكن سؤالي هنا أنني كنت أعرف من خلال السرد، ومن التيار التحتي الذي يخلقه تتابع اللقطات، وأفهم أن كل امرأة منهما ليست بريئة تماما.
كردفاني: أتذكر أن الهدف من هذا المشهد، أننا بعد أن اتهمنا بعضنا بأن كل منا مذنب، فكيف سنتصرف بعد ذلك؟ هل سنسامح بعضنا؟ وماذا بعد انقضاء هذه التمثيلية التي صنعناها، هل سيكون لهذه التمثيلية معنى؟ وهل سيكون هناك مستقبل بعدها أم لا؟ أرى أن هذا هو قلب المعنى المقصود به المشهد.
ما نوع السينما التي تحب أن تصنعها؟
أتمنى أن أصنع سينما بنفس الطريقة التي صنعت بها “وداعا جوليا”، وبنفس المدخل الذي أتاح لي فرصة الوصول لأكبر جمهور ممكن، مع الحفاظ على قيمتها الفنية العالية، سواء كانت موضوعات تخص السودان أو العالم العربي أجمع، فربما تكون سينما من دولة عربية أخرى، لكنها موجهة للعالم العربي كله.
هل تقصد موضوعا من دولة عربية أخرى، وليس بالضرورة أن يكون موضوع الفيلم قضية سودانية؟
أرى أن في السودان قصصا كثيرة تستحق أن تروى، ولن أستطيع أن أحكيها جميعا، لكنني أريد أن أحكي بعضها. وهناك قصص أخرى خارج السودان، لا سيما في ظل الحرب القائمة، فلذلك ربما أمارس الإخراج أو الإنتاج في بلد آخر.
هل من السهل العثور على فكرة أخرى في السودان بقوة فكرة “وداعا جوليا”؟
ليس يسيرا، لكنه ليس مستحيلا، ويمكنني أن أقول إنه ممكن جدا، فالسودان زاخر بقصص لا تحصى ولا تعد، وقد يكون “وداعا جوليا” مختلفا لأنه من المستوى السياسي، ويتحدث عن بلدين، وهذا حدث ضخم جدا في تاريخ السودان، وما من أحداث بهذه الضخامة عندنا، ومع ذلك أرى أن هناك قصصا بنفس الأهمية، وقصصا مؤثرة، ليس فقط للجمهور السوداني، بل أيضا لكي تعرض في الدول العربية لكي يعرفوا عننا أكثر.
هل يمكن أن تخرج وثائقيا، أم أن حبك وشغفك أكثر مع الروائي؟
منذ عدة سنوات أعمل على وثائقي لآخرين، ومع أنني أحب الوثائقي، فإن الروائي يشبهني أكثر، وأنا فيه “أشطر”.
أرجو أن تسمح لي بطرح سؤال شرير، فلا شك أن الحرب سببت لكم أذى كبيرا، لكن في نفس الوقت أرى أنها خدمتكم كثيرا، فهناك أفلام جيدة خرجت من السودان، وكان من المحتمل ألا تنال حظها، لكن أجواء الحرب وذلك المأزق الضخم ساعد تلك الأفلام على أن تأخذ مكانها، وتنال وضعية جيدة للعرض في مهرجانات عالمية مهمة، فما هو ردك؟
أكيد، هذا صحيح، وليس هذا فحسب، بل أيضا ساعدنا ذلك في بيع الفيلم، فمن الأشياء التي ساعدت هذا الفيلم أن كثيرا من السودانيين نزحوا إلى مصر، ومع بدء إطلاق عروض الفيلم في مصر كانت صفوف من السودانيين تقف أمام قاعات السينما، وقد بدأنا الخطة بسبع شاشات عرض في البداية، ثم رفعناها بعد ذلك إلى 13، ثم إلى 17، ثم إلى 26 دار عرض. وهذا حدث بسبب وجود السودانيين الذين نزحوا إلى مصر.
نعم صحيح، لا سيما أن مصر بلد مؤهل بالبنية التحتية، وعامر بمئات دور العرض السينمائي القادرة على استقبال الآلاف داخلها.
ما حدث في مصر شجع دول الخليج على أن تتيح لنا فرصة العرض في المهرجانات وفي قاعات عرض كثيرة، وكذلك نتفليكس التي تعاقدت على شراء حقوق العرض، فهذا كله حقق بيعا كبيرا جدا للفيلم.
فلا نستطيع أن ننكر أن الحرب خدمت الفيلم، وساعدته كثيرا، وإن كنت لا أرى أن هذا ساعد الفيلم في المهرجانات، لأن اختيار الفيلم في مهرجان كان وقع قبل الحرب، لأن المؤتمر الصحفي لإعلان اختيار الفيلم ضمن الاختيار الرسمي، كان يوم 12 أبريل/ نيسان، والحرب وقعت بعده بـ3 أيام.
كيف ترى المواهب السينمائية السودانية الآن على الساحة، وهل تتوقع أن تعطي زخما للسينما، وتساهم في تشكيل تيار سينمائي في السنوات المقبلة؟
يعمل محمد العمدة -وهو منتج في “وداعا جوليا”- حاليا على فيلم اسمه “كارت أزرق”، وهو فيلمه الروائي الطويل الأول، ويعمل فيه مع أمجد أبو العلاء، وليست لي علاقة بهذا المشروع، لكنني في قمة الحماس لمشاهدة هذه التجربة، لأنه شاب ذو ثقافة سينمائية منذ زمن، وأنا متحمس له.
وكذلك خالد الوليد الذي كتب معي سيناريو “وداعا جوليا”، وكانت تجربته الأولى في الكتابة، وقد ترك وظيفته ويعمل الآن على فيلم قصير، وأنا متأكد أنه سيكون من الكتاب والمخرجين السودانيين المهمين في قادم الأيام.
أنت أيضا تركت وظيفتك في الطيران وتوجهت للسينما، ويبدو أن تصرفك هذا شجع آخرين، وكأنك صرت قدوة لهم.
أنا تركت وظيفتي منذ 4 سنوات، حين بدأت العمل على “وداعا جوليا”.
أخبرني عن لحظة اتخاذ قرار ترك الوظيفة، هل كانت لديك مخاوف أم أنك كنت متأكدا من أنك سوف تصنع فيلما يحقق صدى؟ هل كان من السهل؟ وما هي الأشياء أو المخاوف التي راودتك؟
طبعا كان هناك خوف كبير جدا، لأنني كنت موظفا في طيران الخليج منذ سنوات، وكنت ذا راتب كبير جدا، وكنت أفكر وأحلم بتغيير المهنة والانتقال للعمل في السينما، وهذا مجال غير مضمون أن يكون لي دخل جيد منه، ولم تكن عندي خبرة به، إضافة إلى كل ما سبق فأنا عندي طفلتان جميلتان (يضحك بسعادة وهو ينطقها)، ولدي مسؤولية كبيرة تجاههما، وأخشى على مستقبلهما.
إذن، فقد اتخذت القرار المغامر في ظل وجود مسؤولية تجاه بيت ترعاه والتزامات نحو أسرتك؟
صحيح، ومع ذلك، لم يكن الأمر بيدي، لأنني كنت مدفوعا بشغف قوي، فلم أعد أستطيع فعل شيء آخر باستثناء السينما، فمنذ بدأت صناعة الأفلام القصيرة وأنا مهوس بفكرة السرد السينمائي، فصناعة الأفلام تسيطر عليّ لدرجة أنني أحيانا أشعر أن ذلك أمر غير صحي، لكنني غير قادر على التفكير في أي شيء آخر سوى صناعة الأفلام.
هل حجب عنك شغفك بالسينما مراودة الخوف لك؟
لا شك أني كنت أشعر بالخوف، وكنت أتساءل: كيف سيكون المستقبل؟ وما زلت أتساءل، حينها كنت أشعر بالخوف كأني ذاهب لأصدم رأسي بالحائط.
هل أخذت هذا القرار بمفردك؟ أعني التحول من المهنة المستقرة الآمنة ماديا إلى السينما حيث المخاطرة بكل شيء؟ هل استشرت زوجتك أو بعض الأصدقاء؟
كان القرار في خلفية رأسي زمنا طويلا، وعندما جاءت فترة العزل والإغلاق أثناء تفشي كوفيد كانت فرصة التنفيذ سانحة، لأن حركة الطيران كله توقفت، وكانت أيام عزلة وحجر منزلي وتسريح للموظفين أيضا، فوجدتها فرصة سانحة وقلت: هذا يكفي.
في منتصف تلك المدة ركبت الطائرة وعدت إلى السودان، وأسست شركة إنتاج، وضعت فيها كل “تحويشة العمر”، وبدأت أشتغل على الفيلم.
حدثني عن تعاونك المستقبلي مع أمجد أبو العلاء، فأنا أتذكر أثناء لقائي به في مالمو -قبيل عرض فيلمكم في مهرجان كان السينمائي- أنه كان متحمسا جدا لك، فهل هناك تعاون جديد بينكما؟
أظن ذلك، لأننا نحتاج إلى بعضنا، فحين نعمل معا يحدث تكامل، أحب جدا أن أكتب لأمجد وهو يقوم بالإخراج، كذلك أحب أيضا أن أقوم بالإنتاج له، ويمكننا بشكل ما أن نتبادل الأدوار.
وهل ما زالت الكتابة تستحوذ عليك كما كان حالك قبل اقتحامك صناعة السينما؟
أجل، ما زلت أكتب الآن، لكني أكتب نصوص سينمائية.
هل مارست الكتابة الأدبية قبل بدء رحلتك مع صناعة السينما؟
كنت أكتب قصصا قصيرة، لكن لم يكن أحد يقرأها (يضحك بسخرية ومرح).
ألم تنشرها قط؟
كنت أجبر أصحابي على قراءتها، وحين أقرأها الآن أدرك لماذا كان يُرفض نشرها.
أرى أنها كانت مرحلة وسببا لاكتشاف نفسك وشغفك الحقيقي.. والآن هل تحكي لنا عن تجربتك في التحكيم بمسابقة “بروكسيما” في مهرجان “كارلوفي فاري”، وهو المهرجان الأهم والأبرز في وسط وشرق أوروبا، وذلك بعد مشاركتك فيه بفيلم “وداعا جوليا” في قسم “آفاق” العام الماضي؟
كانت تجربة التحكيم مميزة جدا، أنا سعيد بها جدا، فلدينا يوميا اجتماع لجنة التحكيم، نشاهد فيه الأفلام ونجتمع لنتناقش حولها، إلى جانب ذلك أسعى إلى مشاهدة فيلم أو أكثر، حسب ما أستطيع، فهي تجربة جيدة جدا ومفيدة جدا لي، لأن فيها اتصالات وإقامة علاقات جيدة مفيدة، لا سيما أن أفراد لجنة التحكيم معي جميعهم أفراد مهمون، وصارت لدي معهم علاقة جيدة.