المخرج فرج معيوف.. حديث عن السينما الليبية التي تنفض غبار الإهمال
![](/wp-content/uploads/2025/01/%D9%81%D8%B1%D8%AC-%D9%85%D8%B9%D9%8A%D9%88%D9%81-%D9%8A-1735735349.jpg?resize=770%2C513&quality=80)
إن المتأمل في تاريخ السينما الليبية ومسارها يمكنه أن يلاحظ تكثيف النشاط والإنتاج السينمائي في السنوات الماضية، في محاولة لتجاوز سنوات الغياب والقطيعة التي أثرت على القطاع، كما أن هناك مساعي جادة على المستوى الفردي والمؤسسي، لتحريك عجلة السينما داخل البلاد، بمبادرات لتحفيز صناع الأفلام، وإقامة مهرجانات سينمائية دولية في مدن مثل بنغازي وطرابلس.
لقد ظلت السينما الليبية مخلصة لواقعها، وسعت مع محدودية إنتاجها إلى توثيق مراحل مهمة من تاريخ البلاد، وتحولاتها السياسية والاجتماعية، وتعقيداتها التي ألقت بظلالها على السينما وأثرت سلبا عليها، فما من بيئة حاضنة وداعمة للسينمائيين لتطوير أفكارهم وإنتاجاتهم، بسبب انعدام قاعات عرض الأفلام، مما أدى إلى فقدان كثير من الفرص، مثل تلك التي جاءت بها فيلمي المخرج السوري مصطفى العقاد “الرسالة” و”عمر المختار”.
![](/wp-content/uploads/2025/01/فرج-معيوف-1735728105.jpg?w=770&resize=770%2C1155)
لكن النهضة الحالية تبعث الأمل في تثمين هذه الجهود واستمرارها، لإحياء السينما الليبية من جديد، وإبرازها على الساحة الدولية، مما يعزز حضور الثقافة الليبية، ويسهم في تطوير هذا الفن في البلاد، ويسعى الجيل الحالي من السينمائيين الليبيين إلى تجاوز كل التحديات، بما في ذلك نقص التمويل، من خلال تقديم أعمال وأفكار نوعية، تبرز إمكانيات الشباب الذين لم يستسلموا للظروف الصعبة.
من هؤلاء المخرجين الذين تلقوا تكوينا في مالطا ومصر، نذكر فرج معيوف الذي برز بأعمال وثائقية وروائية، منها: “ثورة طفل” و”سجون العذاب” و”أثر” الذي أُنتج عام 2023، وفيلم “205”، وقد حصدت هذه الأعمال المستقلة عدة جوائز، وعرضت في مهرجانات الهند والأقصر وهولندا والعراق وعنابة والبحرين.
وفي هذا الحوار الذي أجرته الجزيرة الوثائقية مع المخرج الليبي فرج معيوف، سنتعرف أكثر على موضوعات أفلامه وقدرتها على تجاوز حدود البلد، مع عرض لواقع القطاع السينمائي في ليبيا، بكل مميزاته وإمكانياته وتعقيداته أيضا.
تقترب في أفلامك من الواقع في محاولة لطرحه وفهمه فهما أعمق، وتختار مواضيع لا أظنها طُرقت من قبل، مثلا ما تطرحه في وثائقي “ثورة أطفال” عن مدى إسهام الأطفال في الثورة الليبية سنة 2011، هل تتمه بفيلم ثان عن حادثة حقن الأطفال الليبيين بفيروس الإيدز؟
نعم صحيح، في أفلامي الأولى تطرقت إلى مواضيع مهمة وحساسة جدا، منها الثورة الليبية عام 2011، أردت أن أواكبها بطرحها بطريقة مختلفة، بعدما اتضحت ملامحها أكثر، ففكرت في عرض جانب غير مرئي مما كان يحصل.
وبحكم أن الكل شارك في الثورة الليبية من الأطفال والشباب والمسنين، قلنا لمَ لا نركز على دور الأطفال وإسهامهم في الثورة، وهو ما وقع، فقد فتح فيلم “ثورة طفل” المجال لمجموعة من الأطفال من جميع أنحاء ليبيا، وتعمدت الانتقال بين المدن الليبية، لتمكينهم من التعبير عن أحلامهم وطموحاتهم، وما يريدون من هذه الثورة التي تعني لهم المستقبل.
وقد تضمّن العمل شهادات مؤثرة، عن أطفال فقدوا حياتهم في بدايات الثورة، برصاصات طائشة أطلقتها كتائب القذافي في ذلك الوقت.
![](/wp-content/uploads/2025/01/فيلم-أثر-1735728089.jpg?w=770&resize=770%2C329)
وتوقفتُ في فيلمي الروائي عند قضية أثارت الرأي العام الليبي والعالمي، ألا وهي قضية حقن الأطفال بفيروس الإيدز (نقص المناعة البشرية)، وقد راح ضحيتها مئات الأطفال في ليبيا، وكان هناك اتهام صريح لنظام القذافي، لأنه كان له يد في هذه الجريمة الوحشية.
بعد التركيز على الأطفال وقصصهم خلال الثورة أو أثناء حكم القذافي، انتقلتَ لاستعراض معاناة الجنود الليبيين في فيلم “أثر”، الذي ظهر أن فريق عمله كان ليبيا تماما.
نعم فيلم “أثر” صناعة ليبية بامتياز، فكل أعضاء الفريق كانوا من ليبيا، سواء التصوير والموسيقى التصويرية والتمثيل والمونتاج. وهذا الفيلم كان نتيجة لتحضير جيد واهتمام دقيق بالتفاصيل، مما أتاح لنا تقديمه بالشكل المطلوب، الذي يعكس الكفاءات والقدرات الموجودة في ليبيا.
أردتُ الانتقال في هذه التجربة الجديدة إلى موضوع آخر، واخترت الحديث عن معاناة الجنود الليبيين في ساحات القتال، فهم وقود الحرب وأبطالها الحقيقيون. فقد مرت ليبيا بمراحل صعبة من الانقسامات السياسية والتدخلات الأجنبية، وكان من واجبنا -نحن السينمائيين- توثيق هذه المرحلة من تاريخ ليبيا، تكريما لهؤلاء الشهداء والأبطال الذين قاتلوا من أجل أمن ليبيا واستقرارها.
![](/wp-content/uploads/2025/01/فيلم-أثر-س-1735728482.jpg?w=770&resize=770%2C424)
عُرض الفيلم في عدة مهرجانات، منها مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية، ومهرجان عنابة للفيلم المتوسطي، ومهرجان نواكشوط السينمائي الدولي، ومهرجانات أخرى خارج القارة الأفريقية، في البحرين وهولندا والعراق.
وقد نال جائزة أفضل موسيقى تصويرية في مهرجان ليبيا السينمائي، وهو إنجاز نفخر به، وأتمنى أن نكون قد وفقنا في نقل صورة واقعية عن معاناة الجنود الليبيين، وأن يكون هذا الفيلم خطوة مهمة في ترسيخ هذه المرحلة المهمة من تاريخ ليبيا في الأذهان.
بما أنك تصف فيلم “205” بالتحدي الأكبر، فأين يكمن التحدي في هذا الفيلم؟ هل الأمر مرهون بالجانب الفني والتقني، أم طبيعة الموضوع المطروح؟
كان فيلم “205” تحديا كبيرا لدي، لأنه يتناول قضية معقدة ومؤلمة، فهو يسرد قصة الشباب الليبيين الذين اقتُلعوا من مدارسهم، ثم زُج بهم في ساحات القتال، أثناء الحرب الليبية التشادية في الثمانينيات. هذا الموضوع حساس لأن أحلام هؤلاء الشباب تبدلت تبدلا مأساويا، رحلة مدرسية تحولت إلى ساحات القتال، بدلا من صفوف الدراسة.
يعكس الفيلم مدى الألم الإنساني الذي خلفته هذه الأحداث، فربما يكون العالم عالما بوجود الحرب بين ليبيا وتشاد، ولكنه يجهل كثيرا من القصص المؤلمة التي خلفتها هذه الحرب، مثل اقتلاع الشباب من حياتهم العادية، والزج بهم في صراعات لا تعنيهم من الأساس.
![](/wp-content/uploads/2025/01/فيلم-205-1735728111.jpg?w=679&resize=679%2C960)
قصة الفيلم قاسية في حق الإنسانية، وقد أردت أن أوثق به مرحلة معينة من تاريخ ليبيا، فاخترت هذا العنوان، تخليدا لعدد الطلاب الـ205، الذين اقتيدوا من مدرستهم إلى المعركة، ثم قُتل أغلبهم لعجزهم عن حمل السلاح.
إن من واجبنا -معشر صناع الأفلام- أخلاقيا وإنسانيا أن نوثق مثل هذه القضايا والمسائل.
إلى أي مدى ترى أن أفلامك قد تساعد في توضيح الأحداث التاريخية في ليبيا، وإزالة الضبابية التي غطت بعض الحقائق، لا سيما أنها تقدم منظورا من داخل ليبيا؟ ثم كيف تقيّم استيعاب الجمهورين العربي والغربي واستقبالهما لأفلامك؟
عُرضت أفلامنا في مهرجانات دولية بفرنسا وهولندا وإسبانيا ومالطا وإيطاليا، وكانت لها ردود أفعال مفاجئة، فكثيرون كانوا يظنون أن ليبيا مجرد صحراء واسعة، ولكنهم اكتشفوا التنوع الثقافي والمناخي الغني الذي تمتاز به بلادنا.
نسعى دوما لجعل أفلامنا تعكس البعد الثقافي والجمالي والتنوع في التنفيذ والمواضيع، فقد كانت ليبيا مجهولة لدى كثير من الناس خلال أيام حكم معمر القذافي، والآن أصبحت صورتها أكثر وضوحا وصوتها أكبر صدى، فأفلامنا عرّفت الآخرين على سينمانا وقضايانا ولو تعريفا بسيطا، في انتظار طرح المزيد من المسائل والتعمق فيها أكثر.
![](/wp-content/uploads/2025/01/فرج-معيوف-رفقة-1735728095.jpg?w=770&resize=770%2C578)
ومن خلال الأسئلة التي تطرح علينا -نحن صناع الأفلام الليبيين- نلاحظ مدى جهل البعض بما يدور في بلدنا من أحداث وتحولات، فكثير من الناس متعطشون لمعرفة المزيد عن السينما الليبية وموضوعاتها، التي تروى من وجهات نظر وزوايا شتى، لا سيما مع تباين الأفكار وتعددها.
كيف توازن بين مهمات الكتابة والإخراج والتوزيع، سيما وتوزيعها هو الحلقة الأكثر تعقيدا؟
مشكلتنا في ليبيا أننا نعتمر أكثر من قبعة، فعلى سبيل المثال، في كل الأفلام التي أخرجتُها كنت أنا من كتب السيناريو، نظرا لقلة كتاب السيناريو المحترفين، وفي بعض الأحيان كنت أضطر للعمل في تخصصات أخرى، بسبب نقص التقنيين.
مهمتي -بصفتي مخرجا- لا تنتهي عند تنفيذ الفيلم، بل تبدأ بعدها مرحلة البحث عن توزيع للعمل وتقديمه للمهرجانات، وهذه العملية تعتمد أساسا على العلاقات المهنية التي نبنيها، لأننا نفتقر إلى موزعين محترفين.
هذا التداخل بين المهام يرهقنا كثيرا، ويزيد الأمور تعقيدا، ولكنه جزء من التحدي الذي نواجهه -نحن صناع الأفلام- داخل ليبيا، ومع ذلك نسعى دائما لتقديم أفضل ما لدينا.
هل سيكون فيلمك القادم الذي تكتبه حاليا قريبا من أفلامك السابقة، أم ستتناول مواضيع جديدة تُحدث انتقالة في مسارك الفني، لا سيما وأن ليبيا توفر بيئة غنية وخصبة تاريخيا وثقافيا وتراثيا؟
يحمل كل فيلم خصوصياته ورؤيته، وأنا أسعى دائما للتعامل مع قضايا جادة ذات بُعد وتأثير إنساني. قد تتشابه بعض أفكار أفلامي، لكن لكل فيلم قصته الفريدة التي تميزه. فالفيلم القادم الذي أعمل عليه الآن قد يتناول مواضيع جديدة لم أتطرق إليها من قبل، مع الحفاظ على النهج الإنساني العميق.
![](/wp-content/uploads/2025/01/المخرج-فرج-وهران-1735728085.jpg?w=770&resize=770%2C647)
أحرص على أن تكون أفلامي مرآة تعكس هذه القضايا، وتساهم في تسليط الضوء على شتى جوانب تاريخنا وثقافتنا، أتطلع إلى أن يكون الفيلم القادم تجربة جديدة ومميزة، تضيف إلى مساري الفني، وتمنح المشاهدين فرصة لاستكشاف مواضيع جديدة من خلال عيون السينما.
كيف تتعامل السلطات في ليبيا مع موضوعات أفلامك، هل تواجهها بتضييق أم تجد حرية في طرح القضايا التي تؤمن بها؟ وكيف يتفاعل الجمهور الليبي مع أعمالك في ظل غياب قاعات السينما؟
منذ ثورة 2011، أصبحت لدينا هامش حرية أكبر، يسمح لنا بالتطرق لقضايا الشأن الليبي تطرقا أوسع، وقد مكننا هذا الانفتاح من طرح موضوعات مهمة ومعقدة، من دون كثير من القيود الرسمية، وبصدق، فإن أغلب أفلامي تُعرض في المهرجانات السينمائية الدولية.
ليست لدينا دور عرض كافية في ليبيا لتقديم أعمالنا للجمهور المحلي، ونلجأ أحيانا لعرضها في قاعات المراكز الجامعية والثقافية، فالجمهور الليبي متعطش لأي مبادرة سينمائية ويرحب بها، لكن مع الأسف محدودية البنية التحتية تعوق وصولها المباشر لجميع المشاهدين، لذا فإننا نسعى لتعويض ذلك من خلال عرض الأفلام في الأماكن المتاحة، وتنظيم عروض خاصة كلما سمحت الفرص والظروف.
هذا التحدي ليس بالأمر السهل، ولكنه لا يقلل من إرادتنا في توثيق واقعنا وقصصنا، وتقديمهها للجمهور بأفضل طريقة ممكنة، سواء داخل ليبيا أو خارجها، ونرى أن السينما وسيلة قوية للتغيير والتأثير في الآخرين، ولذلك نواصل العمل بجد وتفان لتحقيق هذا الهدف، ونعمل بجد لإيصال صوتنا وقصصنا للعالم.
برأيكم، ما المرحلة التي تستحق التوثيق أكثر؛ فترة حكم القذافي، أم ما بعده، أم المرحلة الحالية التي تشهد تحولات استثنائية على الصعيدين السياسي والاجتماعي؟ مثلا تداولت وسائل الإعلام حديثا خبرا عن فرض الحجاب على الليبيات ومنع الاختلاط وتفعيل شرطة الآداب، فكيف يمكن للتنقيب في الماضي أن يساعد في فهم الحاضر؟
كل مرحلة من تاريخ ليبيا تحمل في طياتها أحداثا وتجارب تستحق التوثيق، فمرحلة حكم القذافي كانت مليئة بتحديات وتحولات سياسية، ألقت بظلالها على الواقع الليبي، وتوثيق هذه المرحلة يمكن أن يساعد في فهم كيفية نشأة الدولة وتطورها، وكذلك الأسباب التي أدت إلى زوال حكم القذافي.
أما مرحلة ما بعد القذافي، فقد شهدت فيها ليبيا تحولات كبيرة، وانتقالا إلى مراحل جديدة من الحكم والسياسة، هذه المرحلة تستحق التوثيق، لأنها تمثل بداية جديدة ومحاولات لإعادة بناء الدولة، مرورا بالتحديات التي واجهتها ليبيا في هذه المرحلة، كالصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية. هي مواضيع مهمة يجب تسليط الضوء عليها.
أما المرحلة الحالية فتشهد تحولات غير مسبوقة، منها فرض الحجاب على الليبيات، ومنع الاختلاط، وتفعيل شرطة الآداب، وهي تحولات تعكس التغيرات الاجتماعية والثقافية التي تمر بها البلاد، وتستحق التوثيق لفهم تأثيرها على المجتمع الليبي.
نعم التنقيب في الماضي قد يساعد في استيعاب الحاضر، وفهم الأسباب التي أدت إلى الوضع الحالي، فهناك عدة قضايا شائكة ينبغي أن يعالجها سينمائيو ليبيا بموضوعية، وأن تدعمها الحكومة لتسليط الضوء عليها، فالسينما يمكن أن تكون أداة قوية لتوثيق التاريخ ونقل القصص والتجارب التي مر بها الشعب الليبي.
إلى متى يمكن الاعتماد على السينما المستقلة والمحاولات الفردية للصمود والاستمرار، وتعزيز مشاركة ليبيا في المهرجانات الدولية، والحفاظ على طموحات سينمائييها؟
كانت البدايات تعتمد اعتمادا كبيرا على المبادرات الفردية والتجارب المستقلة، لكن يجب أن نتطلع إلى مستقبل يضم هيئات سينمائية قوية، وصناديق دعم، ومرافق عرض.
فمن خلال مهرجان بنغازي الذي أقيم في شهر ديسمبر/ كانون الأول 2024 المنصرم، نُظم ملتقى لصناع الأفلام الليبيين، حضره أكثر من 46 فيلما ليبيا، وفي هذا الملتقى اتُّفق على تأسيس جمعية للفنانين والسينمائيين الليبيين، وتهدف أساسا إلى تشكيل مجتمع سينمائي قوي، يمارس ضغطا على وزارة الثقافة والوزارات المعنية في الحكومة الحالية، لبناء حياة سينمائية حقيقية في ليبيا، يتضمن ذلك صناديق دعم، وقاعات لعرض الأفلام في شتى المدن الليبية.
نحن بحاجة إلى أن تصبح هذه الفكرة واقعا ملموسا، والظرف الحالي مثالي ومناسب لتبني مشاريع جادة، بدل الاعتماد على التجارب الفردية التي تتطلب موارد وإمكانات كبيرة.
فالسينما قوة مجتمعية ومشروع جاد، وللنجاح في هذا المسعى نحتاج إلى بيئة حاضنة تشمل الدعم المالي والتدريب، وتوفير البنية التحتية اللازمة، وإقامة المهرجانات مثل مهرجان بنغازي، وتشييد دور عرض متعددة، والاستمرارية في الإنتاج.
ألم يحن الوقت للتفكير في حلول مستدامة وسياسات جادة لتمويل الأفلام وتطوير القطاع، وإنشاء هيئات وهيكلة سينمائية قوية، ما دام المورد المالي موجودا ومتوفرا؟
لتحقيق نهضة سينمائية حقيقية في ليبيا، لا بد من اتخاذ عدة خطوات رئيسية، تساهم في بناء هيئات وهيكلة قوية لصناعة السينما، ففي بلد ذي موارد ضخمة، ينبغي أن تُرافق هذه الإمكانيات إرادة سياسية قوية، تؤمن بدور السينما والفن في التوعية والترفيه، وتسليط الضوء على القضايا المهمة، بالإضافة إلى رفع ثقافة وكفاءة المجتمع.
وحاليا فإن وزارة الثقافة وهيئة السينما غير معنيتين بدعم صناعة الأفلام، مع ما نبذل من جهود، فتاريخ ليبيا في صناعة الأفلام الروائية الطويلة محدود للغاية، لم يتجاوز عددها 6 أفلام خلال عهد القذافي.
بالإضافة إلى الحلول التي تحدثنا عنها، يجب أن نفكر أيضا في إرسال بعثات للمخرجين الليبيين للخارج، لزيادة كفاءتهم وقدراتهم الإنتاجية، فللسينما دور مهم في بناء المجتمع، لا سيما في المرحلة الانتقالية التي تمر بها البلاد.
![](/wp-content/uploads/2025/01/مصطفى-العقاد-2-1735728075.jpg?resize=770%2C513)
ومع تكاثر التحديات فهناك بوادر أمل، منها مثلا ميلاد مهرجان ليبيا السينمائي، الذي أقيمت دورته الأولى حديثا، ويعد لبنة أساسية وبداية أمل للسينما الليبية، ويشجع على إطلاق المزيد من المشاريع.
ولكن يجب العمل وفق سياسة متوسطة أو طويلة المدى، تضمن استمرار المهرجان وتطويره، فإقامة المهرجان تعكس استقرار ليبيا، وتبرز المؤهلات الكبيرة والإمكانيات الهائلة، التي تملكها البلاد في مجال السينما.
شهدت ليبيا إنتاج أفلام بارزة، منها “الرسالة” و”عمر المختار” للمخرج مصطفى العقاد، وهذه التجربة كانت مصدر إلهام لكثير من السينمائيين الليبيين، ومع ذلك يبقى التحدي الأساسي في تحويل ليبيا من مجرد موقع تصوير إلى بيئة حاضنة للأفكار والمشاريع السينمائية؟
تزخر ليبيا بمواضيع وثائقية وروائية ملهمة جدا، ولكن تحقيق هذا الطموح يتطلب بناء بنية تحتية سينمائية قوية تحتضن هذه المشاريع، ففيلما “الرسالة” و”عمر المختار” قد أسهما إسهاما كبيرا في تسليط الضوء على القدرات السينمائية في ليبيا، فقد استُخدمت كافة الكفاءات والإمكانات التقنية المتوفرة لتنفيذهما.
ومع ذلك فإن الإنتاج نُسب للمخرج الراحل مصطفى العقاد والشركة المنتجة للفيلم، وليبيا اليوم لا تملك الحقوق الأدبية ولا الفكرية لهذه الأعمال، ولا حتى نسخة منها باسمها، مع أنهما صُوّرا على أرضها.
هل ترى أن ليبيا أضاعت فرصة ثمينة في أن تصبح منارة سينمائية في المنطقة بعد تجارب العقاد؟
كان يمكن لليبيا أن تصبح مركزا سينمائيا بفضل المعدات المتطورة المتاحة في ذلك الوقت، ولكن سياسة معمر القذافي كان لها رأي آخر، والحصار الذي فرض عليها جعل ليبيا معزولة، وأدى إلى تراجع السينما الليبية.
ومع كل هذه التحديات، يبقى الأمل قائما في استعادة الزخم وتطوير صناعة سينمائية متينة في ليبيا، ويتطلب ذلك دعما مستمرا وإرادة قوية، لتجاوز العقبات وبناء مستقبل سينمائي مزدهر، مثل الكثير من الدول العربية.
![](/wp-content/uploads/2025/01/المخرج-الراحل-1-1735728079.jpg?resize=770%2C512)
ليبيا ذات تاريخ سينمائي مشرف، فأول عرض سينمائي فيها كان سنة 1908 في سينما فوتوغراف بباب البحر بطرابلس، كما أن أول فيلم روائي ليبي كان للمخرج عبد الله الزروق الذي يعد رائد السينما الليبية، وهو من أهم الأسماء التي لا تبخل بتوجيهاتها على السينمائيين الشباب، إلى غاية يومنا هذا.
رصيد السينما الليبية حتى الآن 6 أفلام، منها “عندما يقسو القدر”، و”أحلام صغيرة”، و”الشظية”، وأكثر من 600 فيلم وثائقي، ولليبيا رصيد ومكوّن من الأفلام المهمة قبل الثورة، وتتطلع للمزيد من المكاسب.
ونحن نسعى لجعلها في مصاف الدول الرائدة سينمائيا، الأحلام مشروعة وممكنة بعودة السينما الليبية، وقد يأتي اليوم الذي نتدارك فيه كل ما فاتنا من فرص.
أشعر بأن جيلكم ذو وعي كبير بأهمية الصورة والسينما عموما ودورهما، فنجد هذا الجيل يبادر بالإنتاج ويهتم بتكوين وتطوير نفسه، فهل هذا الوعي ناتج عن هامش الحرية الذي أصبح لديكم بعد التخلص من النظام السابق الذي وفر إمكانيات ضخمة لأفلام عالمية، ولم يدعم السينما المحلية، وضيّق الخناق على صناعها؟
نعم هناك صناع أفلام مستقلون مهمون في ليبيا، منهم مهند الأمين، وأسامة رزق، ومحمد المصلي، ويوسف الجيلالي، وغيرهم كثير. هؤلاء المخرجون يتشاركون حب السينما، وتجاربهم جاءت من شغفهم وحلمهم بإعادة إحياء السينما الليبية، فلديهم تطلعات وأفكار لطرح قضايا أصبحت مخفية عن المجتمع العربي خصوصا والدولي عموما.
بحث هؤلاء المخرجون في الخارج عن فرص لتطوير قدراتهم، وإيجاد تعاون مشترك، وإقامة مشاريع مستقلة، والانفتاح على الآخر، وقد تُوجت مساعيهم بحصول بعضهم على دعم وشراكة إنتاجية لأفلامهم، وتلك ثمرة الجيل الجديد الذي تحرر بعد ثورة 17 فبراير/ شباط، مما أتاح لهم الفرصة للتطوير والتغيير، وإعادة السينما الليبية، بعدما اختفت سنوات كثيرة، كما أن الثورة الرقمية مكنت السينمائيين الشباب من تقديم أعمالهم.
ومع هذا يجب الإقرار بالفراغ الكبير في المشهد السينمائي الليبي، نتيجة غياب المعاهد المتخصصة، فهناك معهد سينما في طرابلس، ولكن هذا لا يكفي ولا يلبي الطلب المتزايد، بل ينبغي إنشاء معاهد في مدن أخرى، وأنا مثلا من مدينة البيضاء التي تبعد عن العاصمة بأكثر من 1000 كيلومتر.
على ذكر المخرج أسامة رزق الذي يعد من الأسماء البارزة التي أثّرت في الساحة العربية بأعماله الدرامية الناجحة، في رأيك كيف يمكن أن يؤثر احترافه على مستقبل السينما والدراما الليبية، لا سيما وقد وصلت أفلامه لمهرجانات مهمة كأيام قرطاج السينمائية؟
نعم، المخرج أسامة رزق يحقق الآن خطوات مهمة ومتميزة على المستوى العربي، وينتظره مستقبل واعد، وقد يتمكن من إيصال السينما الليبية للعالمية، كما فعل مخرجون عرب آخرون مثل محمد كردفاني بفيلمه “وداعا جوليا”، وأمجد أبو العلاء بفيلمه “ستموت في العشرين”، وعمرو جمال بفيلمه “المرهقون”، وأمجد الرشيد بفيلمه “إن شاء الله ولد”.
حصل أسامة رزق حديثا على فرص إنتاجية مهمة، وهو يستحقها بفضل اجتهاده وإبداعه، فقد نقل الدراما الليبية من البيئة المحلية إلى آفاق أوسع على الصعيد العربي، ونجاحاته ليست وليدة الصدفة، بل هي نتيجة لاحترافية عالية وعمل دؤوب من فريق متميز.
كثير من الفنانين الذين تعاملوا معه يشيدون باحترافيته، وهذا الاحتراف سينعكس إيجابيا على مستقبل السينما والدراما الليبية، أعماله التلفزيونية والسينمائية حققت شهرة واسعة، ووصلت إلى مهرجانات مرموقة مثل أيام قرطاج السينمائية.
وأتمنى أن تكون تجربة أسامة رزق ونجاحه دعامة قوية للسينمائيين والمخرجين الليبيين، وأن يكون لهذا النجاح انعكاس طيب في المستقبل، أنا متأكد أن نجاحه وتألقه سيفتح الأبواب لغيره من المبدعين الليبيين.