وائل حمدي.. لماذا لا يتحول الأدب القوي إلى سينما؟

قبل وقت وجيز نلنا عددا غير قليل من السيناريوهات الأصلية لبعض الأعمال التي ظهرت حديثا، وكان منها نص سيناريو فيلم “هيبتا.. المحاضرة الأخيرة” (2016). وكان ذلك بعد سنوات قرأنا فيها رواية “هيبتا” التي حازت شهرة واسعة، أجبرت كثيرين على قراءتها آنذاك، وبعد 45 طبعة أغرت المنتج باتخاذها فيلما.
صدمتني نسبيا درجة الإتقان التي جعلت السيناريو يعيد خلق الرواية بشكل يكاد يجعلها نصا آخر، وفي الوقت ذاته لم يتخلّ عن شعبيتها. لقد أعاد إنتاجها شعبيا بلا شعبوية ولا استسهال، وأصبح النص هنا أكثر تركيزا ونضجا في السيناريو عن النص الأصلي.
أعاد ذلك في ذهني تساؤل: كيف تحول نصا أدبيا إلى فيلم سينمائي؟ كما جعلني أتتبع خطى كاتب السيناريو وائل حمدي، الذي يعرض هذه الأيام فيلم “6 أيام” الذي كتبه أيضا.
مع الإعلان عن الفيلم الأخير الذي يصلح رواية نوعا ما يمكن أن نفهم أن الرجل ذو سيرة ذاتية مغرية للحديث عن السينما والتلفزيون عموما، إلى جانب المسار الأدبي المشترك خصوصا، فقد كان من أوائل من كتب “سيت كوم” مصريا عربيا بداية من “عالم سمسم”، الذي نال شهرة واسعة لم تنته حتى اليوم، كما شارك في أعمال منها “تامر وشوقية” و”أحمد اتجوز منى” وغيرهم.
بعدها صنع فيلم “ميكانو”، ثم شارك في تحويل رواية “أسامة أنور عكاشة” إلى أحد أفضل الأعمال التلفزيونية التي ظهرت في السنوات الماضية: “موجة حارة”. ثم أعاد تقديم “هيبتا”، ثم “أنف وثلاث عيون” وبينهما الكثير.
ما يجعل وائل حمدي ذا تجربة استثنائية هو مروره الكتابي على عدد من شتى أشكال السينما؛ فقد كتب نقدا في بداية الألفية، وشارك في صناعة تجربة مفصلية للسينما من خلال مجلة “جود نيوز”، كما أعاد تحويل عدد من الروايات بشكل يثبت فهمه للوسيط السينمائي والأدبي.

ومع ذلك، يمكن أن نتحرك في هذا المقال من خلال فكرة رئيسية، تدور حول تحويل الأدب إلى سينما جماهيرية، إلى جانب الأعمال الأخرى بطبيعة الحال.
التقت الجزيرة الوثائقية وائل حمدي على خلفية فيلمه الجديد “6 أيام” للتعرف أكثر على رحلته، لفهم مسارات تحويل الأعمال الأدبية إلى سينمائية وأشياء أخرى.
سنحاول معه فهم الوسيط السينمائي أكثر، ويحملنا سؤال أصيل: كيف يحدث هذا التحول دون فقدان أصالة العمل الفني، الذي قد يجعله ثقيل الاستقبال على الجمهور الواسع، وما الذي يمنع “الأدب القوي” أن يصبح سينما؟
من الأمام إلى الخلف.. “6 أيام” لم يكن استثناء
في عام 2011 اقتبست المخرجة الدنماركية “لون شرفيج” في فيلم “يوم واحد” (One Day) رواية “ديفيد نيكلوس”، الذي أعاد كتابة سيناريو الفيلم مقتبسا من الرواية، فنتتبع قصة فتاة وحبيبها على مدار 18 عاما متواصلا، بالتركيز على يوم واحد فقط كل عام أو أكثر، منذ أن التقيا أول مرة.
بعد سنوات من عرض هذا الفيلم، يشهد هذا الموسم السينمائي المصري عرض فيلم “6 أيام”، وتدور أحداثه حول يوسف وعالية اللذين يلتقيان بعد عدة سنوات من فراق فرضته ظروف قهرية، فتجمع الصدفة بينهما، بعد أن اتخذ كل منهما مسارا مختلفا في حياته.

يتتبع الفيلم قصتهما عبر قصة شديدة الشبه بالفيلم الأجبني من خلال لقائهما السنوي المتفق عليه يوم 19 ديسمبر/ كانون الثاني من كل عام، ونشاهد تغيراتهما في قصة حب مبتورة، لا يفصلها القدر كما لا يكملها.
فيلم “6 أيام” أول روائي طويل للمخرج كريم شعبان مع وائل حمدي، وتبدو غالبية الأعمال التي يشارك فيها وائل حبلى بجوهر إجابة حول فهم الإنسان من قصص الحب التي تشكله وتعيد فهمه لنفسه. تبدو لحظات حبه هي لحظات هويته الأصيلة؛ الثابت الوحيد في عالم يتغير كل لحظة.
ما يجعل فيلم “6 أيام” غير حالم، أو به بعض الأصالة، هي أشياء منها إصراره على الانخراط في عالم غير حالم أو بعيد تماما عن الواقع، فيورط المؤلف أبطاله في صعوبات وتغيرات مؤرقة، لا تجعله خفيف الاستقبال كأغلب الأعمال الشبيهة.
يتأرجح الأبطال في عوالم مختلفة تماما، مغلقة بصريا ومونتاجيا عليهما، وتركز معهما فقط لتقليل التشتيت، حتى أن الموسيقى التصويرية لا تضغط على المشاهد لنزع مشاعره بالقوة.
كل ذلك موظف فقط لكي يجعلنا نتساءل عن ما سيفعلان مع مرور الزمن، فكل شيء يتغير مع الوقت باستثناء حبهما.

لمحات ذكية عن تحولات قاسية في العوالم والرغبات، ونهاية مفتوحة، ويدار كل ذلك في فيلم يقدم نفسه فيلما رومانسيا، ربما تبدو تلك نقطة قوته الكبرى.
قفزة متعمدة من آخر أفلامه إلى أول أفلامه على الإطلاق “ميكانو”، فيقول وائل للجزيرة الوثائقية إن اسم “ميكانو” تحول من “لسه فاكر”، بعد أن وجد عددا غير قليل من الأفلام يحمل أسماء أغنيات. كان وائل يفضل أن يبقى على تسمية أغنية أم كلثوم الشهيرة.
يحكي وائل أن الفكرة جاءت من ملف صحفي كان مقترحا وقت عمله في المجلة. آنذاك وفي عيد الحب، ظهرت لدينا فكرة أن نكتب 14 قصة حب تصلح للسينما.
يقول وائل: ضمن الأفكار التي كتبتها آنذاك فكرة يفقد فيها البطل ذاكرته كل عيد حب، ومنها تطورت فكرة الفيلم، وقتها تحدثت مع كاتب السيناريو الطبيب محمد سليمان عبد المالك، فأخبرني بوجود حالة طبية هكذا حقا، ليست مجرد خيال.
فيما بعد ستبدو تلك الفكرة جوهرا ينتقل مرة بعد الأخرى في أعمال تالية. في الفيلم نشاهد قصة خالد الشهاوي، وهو مهندس موهوب لكنه يُعامل العالم من خلف ستار، بسبب معاناته من فقدان الAll Articlesذاكرة قصير المدى، لكن حياته المنغلقة سرعان ما تتغير حين يقع في الحب، فيعيد ذلك تصور الأشياء في حياته.
بأثر رجعي نفهم كثيرا عن رغبة وائل حمدي في إعادة طرح معضلة فلسفية من قصص مختلفة. هذه المرة التي كانت الأولى، نشاهد بوضوح رجلا فقد حياته القديمة تماما، وغير قادر على صناعة حياة بديلة بسبب ذاكرته، ولا يبدو صعبا تماما استنتاج الحب الذي يشكل هويتنا كما يشكل هوية البطل.
بطل منعزل بشكل واع وغير واع في آن، غير متورط في الحداثة أو العولمة بكل أشكالها، وصولا للاحتفاء بنجاحاته.. ينعم بحياته الهادئة التي قد لا يفهمها الآخرون.

في أحد المشاهد ينصح هشام (الممثل تيم الحسن) حبيبته أميرة قنديل (الممثلة نور اللبنانية) بأن تنسى عمدا كل شيء يضايقها “كل حاحة بتضايقك إنسيها كإنها محصلتش”. تبدو نصيحة ساذجة لولا إيقاعها الصوتي، وصاحبها الذي تبدو حياته مغرية لإعادة فهم النصيحة.
يفهم البطل في “ميكانو” ذاته، مع أن ذاكرته مغدورة بالحب، فقط يمكن لقصة حبه أن تعيد تشكيل آدميته. كان يمكن لفيلم “ميكانو” أن يصبح فيلما حقيقيا يمكن الرجوع إليه بحنين محبب، لولا إخراجه شديد التواضع.
بعد “ميكانو” قدم المخرج محمود كامل عددا غير قليل من التجارب الأخرى مع مؤلفين آخرين، وربما بدا المشترك الوحيد بينها هو القدرة الغريبة على نزع الإيقاع من القصة، فأفلامه تفقد أغلب نقاط قوتها المونتاجية والتصويرية والموسيقية بدرجة كبيرة، وربما من ذلك نسبيا يمكن فهم عدم لفت الانتباه إلى هذا الفيلم.
أنف وثلاث عيون.. “كيلاكيت تاني مرة”
يمر الرجل على عدد من التجارب الأخرى، تلفزيونية وغير تلفزيونية، حتى يصل إلى الفيلم الأحدث “6 أيام” بعد رحلة مغرية في فيلمه الماضي “أنف وثلاث عيون” (2023)، للمخرج أمير رمسيس. يقتبس وائل حمدي هنا الفيلم من رواية تحمل نفس الاسم للكاتب إحسان عبد القدوس، نشرت عام 1972.
قبل “أنف وثلاث عيون”، كان النص الأدبي شديد التواضع، ومع ذلك تحول إلى فيلم كذلك، وهو ما عقّد أمر تحويله. وقد شارك وائل حمدي في أحد الأعمال التلفزيونية التي باتت نقطة مركزية في الدراما المصرية الحديثة، وهو مسلسل “موجة حارة”، الذي خرج في لحظة متحررة فنيا وسياسيا تماما.
فقد كتبه الرجل على شكل مقطوعات متفرقة؛ أي مشاهد لا يعرف كيف ستوظفها كاتبة السيناريو المشرفة مريم نعوم. لقد كان استثناء في كل شيء.

يقول وائل إنه كان مسؤولا عن كتابة خط شخصية سيد العجاتي وزوجته، وربما في ذلك ما يؤكد رقة تناوله فكرة الحب المركب الذي يتوجب عليه المرور بتجربة الخبرة، أو الاختمار الذي يمرره ويجعله يتخطى الزمن.
تدور الأحداث في “أنف وثلاث عيون” حول شخصية هاشم (الممثل ظافر العابدين)؛ وهو رجل أربعيني معروف اجتماعيا، بسبب عمله طبيب تجميل يتعامل مع المشاهير.
يقرر هاشم الذهاب إلى الطبيبة النفسية عليا (الممثلة صبا مبارك)، نتيجة ضغط أخته (الممثلة كريمة منصورة)، بعدما هاجمه كابوس متكرر، يرى فيه يدا تحمل مسدسا في مكان مألوف، لكن لا يرى حامله.
ومما يؤرق هاشم علاقته مع روبا (الممثلة سلمى أبو ضيف)، نظرا لفارق السن بينهما، وهو يرى الأمرين غير مرتبطين، لكنه يكتشف في النهاية أن أزمة علاقته بروبا تبدأ من التعرف على سبب الكابوس.
يقدم وائل حمدي حكاية جديدة وعصرية بناء على الرواية القديمة، تتغير فيها أطراف الصراع، فيكون التركيز داخل هاشم ذاته، من خلال المبتور داخل ذاكرته وتأثيره على قراراته فيما بعد، ولا سيما علاقاته بالنساء، وتصبح روبا حجرا يحرك المياه الراكدة في عقله، ليبدأ رحلته في استكشاف سبب خوفه من العلاقات.
إذا أعدت مشاهدة الفيلمين والرواية بالتتالي للوقوف على نقاط الاختلاف، أو قوتهما وضعفهما، فستجد أننا في العمل الأحدث في فيلم آخر تماما، لا يقتبس من الرواية والفيلم الأقدم، الذي التزم بإعادة تقديمها حرفيا، سوى الخطوط العريضة فقط.
ففي العمل الأحدث نتوقف وقوفا غير عابر أمام خط الطبيب النفسي الذي يلجأ إليه البطل، وتقدم صبا مبارك في هذا الفيلم أفضل أدوارها.
كما نلحظ حوارات ثنائية طويلة بين الأبطال، تصعب مهمة الاستقبال الخفيف “المتوقع”، كما تصعب إعادة كتابته أساسا، فيقف المؤلف هنا ليتورط مع الأبطال والمشاهد في حياة رجل يمتلك كل شيء.

ما هو سؤال فيلم “أنف وثلاث عيون” الأثير؟ يتنقل البطل بين عدد من النساء، رغبة في التحرر والشعور المستمر بذلك. بل أعمق من ذلك قليلا: كيف تبدو العلاقة المثالية التي تصلح في حالة الرجل؟ يبرز وائل علاقته بالفتاة الصغرى، ويجعلها ممرا لفهم نفسه والآخرين، ولماذا بدت هي الحل المثالي أو الرابط الأكبر بين القصص المتفرقة.
في العمل هنا كما في “هيبتا”، يحافظ وائل حمدي على جماهيرية الرواية؛ فكلاهما جاء بأفكار عامة أشبه بأفكار التنمية البشرية بالمعنى الجيد لذلك، أشبه بالدليل للحب. وربما كانا مثاليين للوقوف على شيء أصيل في تجربة وائل حمدي، التي تبدو خفيفة، لكن تحمل في قلبها وجاهة ومشروعا جيدا عن الحب والكتابة والتجربة الأصيلة.
أثناء حوارنا الطويل، يقول وائل حمدي تفصيلة مثالية، عندما أتساءل عن الخط الفاصل الذي يصنع التميز في نقل عمل أدبي إلى عمل سينائي جماهيري بالشكل الأساس أو غيره. يقول: الرواية الجيدة يصعب تحويلها إلى فيلم، فهي الأقل تواضعا على المستوى المكتوب، تحمل ثغرات ومشاكل أكثر إغراء، لإعادة تخيلها لملء فراغات مثالية سينمائيا.
يرى الرجل أن الأدب القوي -أو المتماسك أكثر- يصعب تحويله، ويخلق هذا الحكم مساحات تساؤلات أوسع عن الفصل بين الأنواع الفنية، كما يجعلنا نتساءل في موقع معني بالوثائقي أكثر: هل يمكن تحويل القضايا الشائكة التي نتناول تفصيلاتها وثائقيا في شكل درامي جماهيري؟