“هذا الفيلم مُهدى لأرواحهم”.. حوار مع عريب زعيتر مخرجة “يلا باركور” القادم من غزة

على هامش فعاليات مهرجان برلين السينمائي الدولي في دورته الـ75، كان لنا حوار مع المخرجة الفلسطينية عريب زعيتر وأحمد مطر، بطل فيلمها الوثائقي “يلا باركور”، الذي شارك في قسم “بانوراما” بالمهرجان، وحصد المركز الثاني في تصويت الجمهور على أفضل فيلم وثائقي في المسابقة.

تدور أحداث الفيلم عن شباب فريق الباركور داخل غزة، عن محاولاتهم للشعور بالحرية، وعن صعوبة التنقل، والهوية، والحرب، والحياة الطبيعية التي لم تكن طبيعية يوما ما لأهل غزة.

أهلا بك في الجزيرة الوثائقية، أيتها المخرجة الفلسطينية عريب زعيتر، كيف تصفين فيلم “يلا باركور” للمشاهدين؟

شكرا على استضافتكم.

السمة الكبرى في الفيلم هي الانتماء، ويحكي أيضا عن البعد، ويتناول أيضا موضوع الهوية؛ ماذا يعني أن أكون ذات هوية فلسطينية ولم أعش في هذا البلد؟ فأحيانا كنت أشعر أنني دخيلة، حتى تعرفت على أحمد من غزة، وصرنا نتعرف معا على الهوية والانتماء، ومعنى كلمة “فلسطينية”.

المخرجة الفلسطينية عريب زعيتر

في هذا الفيلم عدة طبقات، ولكن تطغى عليه لعبة الباركور وممارستها في غزة، وما جذبني في البداية للحوار مع الشباب الذين يمارسون اللعبة في غزة هو الباركور نفسه وموقعه في غزة.

فغزة مكان محاط بالحواجز، ومكان معدوم من الحرية، لكن الباركور يتخطى الحواجز، ويسمونه بالإنجليزية “الجري الحر”، فهي رياضة الحرية. كلها طبقات داخل الفيلم وأريد أن أرى الانطباع الذي ستتركه على من يشاهده، وهل ستلمس إحدى الطبقات المشاهد أكثر من الأخرى.

متى بدأت تصوير الفيلم، وكيف أثرت الحرب على المنتج النهائي الذي شاهدناه؟

تواصلي مع الشباب في غزة كان خلال حرب طويلة دارت رحاها في غزة، وقد تعرفت على الشباب بعد رؤية فيديو منهم يمارسون الباركور أمام انفجار داخل غزة.

ثم بدأنا التصوير بعد ذلك في 2015، ثم لما خرج أحمد من غزة إلى السويد، أصبحت لدي قصة أستطيع تتبعها، ومع الوقت تغيرت حياته في السويد، وأصبح الحوار أكثر طبيعية بلا افتعال، وعندما جاءت 2023 عاد إلى غزة لزيارة أهله، وظننا أنها ستكون نهاية سعيدة، لزيارة أهله بعد غياب 7 سنوات.

اللقاء الأول بين عريب زعيتر وبطل فيلمها الشاب المغامر أحمد مطر

بعدها صارت الأحداث (طوفان الأقصى)، وشعرنا أننا سنكون بلا مشاعر، وسنفقد التواصل الحقيقي مع غزة، إذا لم نتناول الأحداث الحالية، فأخذ الفيلم منحى آخر.

فما يحدث في غزة الآن لا نستطيع الابتعاد عنه، وكان أكثر ما أتخيله -طوال الأحداث في غزة- هو صورة أمي التي توفيت منذ زمن، لكني أتذكر أنها كانت تتأثر بحدوث أي شيء في فلسطين، وصرت أراها طوال الوقت، ففكرت أن يصبح الفيلم كأنه رسالة إليها.

ننتقل للشاب الفلسطيني أحمد مطر، في الفيلم تحدثت عن رؤيتك لبحر غزة أول مرة وأنت ابن 9 سنوات؟

أتذكر أنني لم أرَ البحر طفلا قبل بلوغ 9 سنوات، فقد كان الاحتلال مسيطرا على المناطق المطلة على البحر، وكانت حكرا على المستوطنين، وفي نفس التوقيت كان المعبر مفتوحا، وكان لعائلتنا فرح في مصر، فعبرنا المعبر وسافرنا إلى مصر، فرأيت النيل أول مرة، وكانت أول مرة أرى فيها شريانا مائيا كبيرا، ألا وهو النيل المصري، كنت سعيدا بهذا.

“يلا باركور” في مهرجان برلين السينمائي

ولما عدت إلى غزة ورحل الاحتلال كنا في عام 2005، أتذكر الفرحة لدى الجميع، كل الناس، كل خانيونس -منطقتي- ذهبت إلى البحر، وحينها رأيت الفرحة في عيون الناس، أتذكر كل شيء في هذا اليوم، وأتذكر يوم اصطحبني والدي أنا وإخواني لزيارة البحر، يومٌ لا أنساه، يومها شعرنا أننا أحرار، حين رأينا بحر غزة.

وأنت يا عريب، نشاهد في الفيلم اشتياقك لفلسطين، وحكايات أمك عن المدن الفلسطينية وارتباطك بها، وعلى الجانب الآخر يجد بعض شباب الباركور ملاذا آمنا في أوروبا، كيف ترين هذا التباين؟

السؤال صعب وتصعب إجابته. وقد حاولت أن أجيبه في الفيلم بالتعبير عن هذا التباين، فقد أكد لي أحمد موضوع الهوية، وأخبرني بأنني فلسطينية، وبدأنا نعمل معا على التصوير والأرشيف، وأصبح يعرض لي غزة من مكانه.

في نفس الوقت، كان يريد أن يخرج من هناك، وهذه اللحظات جعلتني أشعر بغصة.. كنت أتساءل لماذا يريد أن يخرج من هذا المكان الذي أريد بشدة أن أصل إليه؟

عريب زعيتر وأحمد مطر

فهمنا في الفيلم الأسباب التي دفعته للخروج، فقد كان دائما يحكي أنه إن استطاع الخروج والعودة فلن يبقى بالخارج، لكنه عاجز عن الخروج من غزة والعودة إليها، فالحركة محدودة للغاية، والخيارات لديك أن تظل مسجونا كما أنت، أو أن تحاول الخروج لإيصال صوتك، وهذا ما فعلت أنا وأحمد في نفس الوقت.

وهناك عامل آخر هو “الإثارة”، فقد كان يريد أن يرى العالم الخارجي، ويريد أن يتعلم ويعرض مواهبه للعالم، وربما لم يكن يعرف معنى أن يكون بعيدا عاجزا عن الرجوع، فهذا هو التوتر، حين يكون الشباب متحمسين للخروج ورؤية العالم، ومع مرور الزمن، يطغى الحنين على الحماس الذي كان بالبداية.

وأنت يا أحمد، كيف ترى العالم الآن وأنت تعيش في السويد، وكيف تشعر حين ترى أهلك في غزة؟

أرى الناس في السويد أحرارا، يستطيعون السفر أينما يريدون، يستطيعون رؤية أهلهم في الوقت الذي يريدونه، يمكنهم مثلا الانتقال من السويد إلى أمريكا، ويمكنهم الدراسة زمنا هناك، ثم العودة لزيارة أهلهم، إنهم أناس أحرار.

أما أنا فقد عشت في غزة، وكنت أريد أن أعود إليها بعد ذهابي للسويد، لكن الأمر كان صعبا للغاية، فلقد خفت من العودة إلى غزة واحتجازي فيها مرة أخرى.

شباب مغامرون من غزة يمارسون رياضية الباركور الخطرة

فلقد حاولت أكثر من 5 سنوات أن أسافر، قضيتها في التقديم على التأشيرة، واستقبلت دعوات من الخارج، لكن التأشيرات كانت تُرفض، والمعابر مغلقة، كنت لهذا مترددا أن أعود لغزة لرؤية أهلي، كنت أريد العودة لرؤيتهم لكني كنت خائفا، واستغرقت 7 سنوات لكي أعود لرؤية أهلي، لكني تجرأت.

لقد كنت أيضا خائفا من الاحتجاز في هذا المكان مرة أخرى، لكن أهلي هناك وأريد العودة لهم، وكان الخيار الوحيد هو الانتقال من هذا المكان، لبناء مستقبل في بلد آخر، يمكنني الانتقال فيه، وأحاول إيصال صوتي للعالم.

وأنت يا عريب، هناك الآن دعوات لمنح الفلسطينيين مكانا آخر للحياة فيه، دعوات تأتي حتى من الرئاسة الأمريكية، وأنت على الجانب الآخر تشتاقين لهذا المكان الذي ضربته إبادة وحروب عدة خلال سنوات قليلة، ومات فيه آلاف من البشر، وهُجر ملايين، كيف ترين هذا المشهد مع اشتياقك الذي رأيناه داخل الفيلم؟

أشعر أنني لا ينبغي أن أجيب سؤالا يخص أهل غزة الذين يعيشون فيها، لكن أحمد هو جزء مصغر، كأننا نصنع لقطة مقربة لقصة شخص طموح، يفتش عن فرصة للخروج من غزة. قد يكون هذا حال شباب كثيرين في غزة، لا أحد يستطيع أن يلوم إنسانا في دمار كامل على أنه يريد الخروج.

لكن الموضوع ليس هنا، الموضوع أن هذا الإنسان إذا خرج ستبقى عالقة في ذهنه أسئلة الهوية؛ من أين أتى، وما أصوله، وأين تربى؟

أحمد مطر في معبر رفح باتجاه السويد

هذا مكانه حتى لو خرج، حتى لو أراد الخروج ليرتاح قليلا من الدمار الذي عاش فيه زمنا ما، صعب أن يخرج ويُستولى على مكانه، لأنه أراد أن يخرج من الدمار الذي يحيط به.

فرؤيتي للموضوع من بعيد هي أنه إذا كان الهدف هو إخلاء غزة والاستيلاء عليها، فهذه جريمة قطعا. لكن إذا خرج أحمد والشباب بحثا عن فرص بالخارج،  فهذا حقهم، لأن حال غزة حاليا لا يصلح للحياة.

حضرت في برلين بفيلمك الوثائقي المشارك في قسم بانوراما. وفي العام الماضي كان فيلم فلسطيني آخر في نفس المسابقة، وهو فيلم “لا أرض أخرى” الذي وصل لترشيحات الأوسكار، وفاز بأفضل وثائقي في أوروبا وفي المهرجان، واحتُفي به احتفاء كبيرا، وحاول المهرجان أن يحميه لأنه هوجم بشدة في ألمانيا، كيف كانت مشاعرك حين اختير الفيلم في مهرجان برلين، وهل تخشين رد فعل هجوميا أو سلبيا داخل ألمانيا، الدولة التي تدعم الاحتلال بشدة؟

كانت مشاعري مختلطة، كنت أتساءل: هل من الصحيح أن أشارك مع أن الفلسطينيين تُساء معاملتهم في هذا المكان، أم من الصائب أن نصنع ضغطا ثقافيا وننسحب؟

شاركت أيضا تخوفاتي مع الفريق، ممن ظهروا في الفيلم، وهي قصتهم أكثر مما هي قصتي، وقد شارك أحمد في هذه النقاشات، فاخترنا أن هذه المنصة التي مُنحنا هي منصة مهمة في نهاية الموضوع، هل ننسحب من هذه المنطقة ونتركها لقصص الطرف الآخر؟

الباركور رياضة خطيرة يمكن أن تتسبب بالأذى الجسدي الحقيقي لممارسيها

من الخطأ أن نسحب الفيلم، ونضيع فرصة حكي قصتنا لأكبر شريحة ممكنة من الناس، ففي النهاية مهرجان برلين معروف بكثافة حضوره، وبأنه من أكبر المهرجانات في العالم، فقررنا المشاركة في المهرجان وعدم الانسحاب منه.

أما عن التخوف من ردة الفعل، فقد صنعنا الفيلم، وردة الفعل إذا صارت فمن الواجب مواجهتها، وأجد أن برلين عموما ليست المكان الوحيد المسيء للفلسطينيين، فهناك دول أخرى كثيرة تسيء بنفس الشكل، ومن الممكن أن يكون أكثر.

نحن في ظرف لا نُحسد عليه، وقصصنا صعب خروجها بسبب الهجوم علينا، لكن بنفس الوقت من المستحيل أن نتوقف عن سرد قصصنا.

مع نهاية الفيلم نجد أن بعض الشباب المشاركين فيه قد استُشهدوا في حرب الإبادة، هل قصدت إنهاء الفيلم بهذه اللقطة، بهذا الإهداء؟

نعم هذا مقصود تماما، تحدثنا عن قرارنا بأن تدخل أحداث غزة داخل الفيلم، كان ذلك بسبب الفقدان الذي نعيشه، حينما كنا نعمل على الفيلم كنا نسمع أن بيوت بعض الشباب قد هُدمت، بيوت لطاقم التصوير تهدم، وأرواح تهدر، فكان متعمدا تماما أن يكون هذا الفيلم مهدى لأرواحهم.


إعلان