“أرى نفسي جسرا لتقريب الثقافتين”.. حوار مع المخرجة الفلسطينية الأمريكية شيرين دعيبس

أمسية فلسطينية بحق، فالقاعة العريقة التي تتسع لأكثر من ألف مقعد كانت ممتلئة في مهرجان “كارلوفي فاري” السينمائي الدولي، الذي نظمت دورته هذا العام بين 4-12 تموز/ يوليو 2025.

صفق الجمهور تصفيقا طويلا بعد انتهاء عرض الفيلم، وكان التأثر واضحا على بعضهم، وبدا بعض آخر كأنه يطّلع أول مرة على وجهة نظر مغايرة لما يعرفه عن تاريخ فلسطين.

مهرجان “كارلوفي فاري” 2025

قبل العرض، كانت المخرجة الفلسطينية الأمريكية شيرين دعيبس تقدم لجمهور القاعة فيلمها “اللي باقي منك” (2025)، فرددت اسم فلسطين التي يجهل تاريخها كثيرون، كما قالت، ووقفت مع فريق العمل، ومنهم الممثل الفلسطيني محمد بكري، الذي رفع الصوت هاتفا “تحيا فلسطين” وهو يغادر المسرح.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

هذا هو الفيلم الروائي الثالث الطويل، لهذه المخرجة الكاتبة الممثلة التي تقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، ويأتي بعد “أمريكا” (2009)، و”مي في الصيف” (2013)، وهو لوحة تجسد المقاومة، وصراع البقاء، وتأثير الاحتلال على مصائر 3 أجيال من فلسطين، مثّلها محمد وصالح وعبد الرحمن بكري.

يستهل الفيلم بامرأة تسرد قصة العائلة، وتشهدنا على فصول مظلمة من تاريخ فلسطين في القرن الماضي، بادئة بالنكبة عام 1948، عندما طردت العصابات اليهودية المسلحة أكثر من 700 ألف فلسطيني من ديارهم وأراضيهم.

من فيلم “اللي باقي منك”

كان أحدهم جد هذه العائلة، فتتابع مسيرة حياته وأولاده وأحفاده في رحلة اللجوء بالمخيمات أولا، ثم بالضفة الغربية، ثم المهجر. هذا مع أن العائلة حاولت التسليم بما حدث، وتقبل الأمر الواقع، سعيا للبقاء في أراضيها، لكن إرهاب الصهاينة دفع بها في رحلة شتات لم تنته حتى اليوم.

تركز بناء الفيلم على عيش هذه العائلة قبل قدوم العصابات، وما كانت تتمتع به من حياة مريحة وسعيدة، قبل إجبارها على اللجوء والتخلي عن أملاكها، لتنقلب أحوالها فيما بعد تماما.

يهتم السرد بالإحاطة بظروف العائلة، مبتعدا عن الانغماس في التفاصيل التاريخية، التي عاشتها فلسطين، من أحداث مصيرية كالنكسة وحرب 1973.

وبهذه العائلة، يتبدّى سعي الفلسطينيين للبقاء والحفاظ على الهوية والكرامة، في مواجهة قوى لا قدرة لهم عليها، واحتلال عنيف يستبيح حياة الناس، حتى لو بدوا مسالمين، ومنهم هذه العائلة بالذات.

لكن الجيل الثالث -جيل التسعينيات- سيكون له شأن آخر مع الاحتلال في الانتفاضة. وقد كان جليا اهتمام المخرجة بفيلمها، من حيث تقديم صورة لشعب يحب السلام، كأنها تسعى لملامسة القلوب بعمق، لا سيما من لا يعرفون قضية فلسطين جيدا، ويبدو أنها نجحت في ذلك أمام جمهور “كارلوفي فاري” في العرض الأول للفيلم.

فريق الفيلم في المهرجان

تبدى ذلك في الرسائل الشفهية والكتابية، التي أكد فيها الحضور إنسانية الفيلم، ونجاح مخرجته في فتح القلوب، وتصفية النفوس، وإثارة المشاعر العميقة. وقال بعض من الجمهور إنها التجربة الأقوى في المهرجان، بسبب أسلوب الفيلم الإنساني في تقديم الحب وسيلةً وحيدة لشفاء العالم.

أجرت الجزيرة الوثائقية هذا الحوار مع شيرين دعيبس (مواليد 1976)، بعد عرض الفيلم في قسم “عروض خاصة” بمهرجان “كارلوفي فاري”، وسيكون وسيلة لإلقاء الضوء على الفيلم، وعلى وجهة نظر صاحبته.

قلتِ في تصريح إنك ناقصة العروبة عند العرب، وناقصة التأمرك عند الأمريكيين. متى اكتشفت ذلك؟ وكيف أثرت تلك الهوية المزدوجة على توجهاتك الدراسية والثقافية، وربما السلوكية؟

ولدت في الولايات المتحدة، وأبي رجل من أهل الضفة الغربية، ونشأت في بلدة صغيرة من ولاية أوهايو، وكنت أسعى في طفولتي لأكون أمريكية غير مختلفة عن المحيط الذي أعيش فيه، لكن أثناء حرب الخليج الأولى عام 1991، لاحظت أننا أصبحنا بغتة أعداء، بل إرهابيين.

المخرجة الفلسطينية الأمريكية شيرين دعيبس

فقد أبي الطبيب عددا من مرضاه لأنه فلسطيني، حتى أنهم حوروا اسمه وأخذوا يلفظونه “نازي” بدلا من “نزيه”، كما أتت المخابرات لمدرستنا للتأكد من إشاعة أن أختي هددت بقتل الرئيس الأمريكي.

أيقنت يومئذ أن من المستحيل أن أكون مثلهم، وأخذ ينمو لدي إحساس أنني لم أعد أريد أن أكون أمريكية، بدأت أدرك فلسطينيتي أكثر.

كيف تجلى التغيير في شخصيتك منذ يومئذ؟

صار لدي هاجس في تأمل نظرتهم لنا، وتفسير تصويرنا تهديدا لوجودهم، ثم بدأت أتابع الأخبار، وألحظ ما فيها من أفكار وصور نمطية عنا، وبتّ أسعى لتوضيح الأمور للناس، وكان ذلك عبثا، فأيقنت أيضا أنه لا يمكن لنا العيش من دون سياسة، فهم يدفعوننا دوما إلى قلب السياسة والحدث.

كنت في صغري أكره هذا، ولم أكن أرغب بالالتفات للسياسة، كان الإنسان ما يهمني، لكني أصبحت مجبرة على التوضيح، فلا أحد يفعل. غيّر ما حدث شخصيتي، بل كل شيء.

لقد تغيرت علاقتي مع الناس، عندها قررت أن أغدو مخرجة، وما أنا عليه الآن كان نتيجة ما جرى، واليوم جاء هذا الفيلم ليدرك الناس لماذا نحن لاجئون، وكيف يقع ما يقع.

كيف بدأت علاقتك بفلسطين؟

ذكرياتي الأولى التي علقت بي عن فلسطين هي زيارتي لها وأنا بنت 8 سنين، فقد سافرنا من الأردن إلى الضفة، وعبرنا جسر اللنبي، فأوقفنا الجنود الإسرائيليون 12 ساعة وعانينا كثيرا.

كان إخوتي صغارا من سنة إلى 3 سنوات، وصرخ الجنود على أبي، حتى حسبت أنهم سيقتلونه. هذه التجربة جعلتني أدرك أول مرة معنى أن نكون فلسطينيين.

في فيلمك مشهد قاسٍ مستوحى من هذا الموقف.

تماما، إنه من ذاكرتي.

قلتِ سابقا إنك تشعرين أن ليست لديك حرية كاملة في الحديث عن تجربتك وعائلتك ومجتمعك في الولايات المتحدة، هل تغير ذلك اليوم، وكيف تجلّى التغيير؟

كوني تربيت في أمريكا، كنت أطبق رقابة ذاتية، فلا أحكي بحرية مثلا عن النكبة، كنت أخشى إثارة الموضوع، مع إدراكي أني سأحكي عنه يوما، لم أكن جاهزة يومئذ، ولم أودّ الحديث مباشرة عن قضيتنا في أفلامي الأولى، كما كان علي أن أصنع اسما في عالم الفن، قبل التطرق لقضية صعبة، وإن مهمة كهذه تتطلب إحساسا عميقا بالمسؤولية، ونضجا سياسيا، ومعرفة بكيفية تداول الأمر، ومسّ قلوب الناس بالسرد.

بعد صنع فيلمين شعرت أني بت جاهزة، لكن تغير لدي تقبّل المجتمع، بسبب ما يقع في غزة، وما يظهر من أحداث لم يكن العالم يعرفها، فلم يعد الإنكار ممكنا اليوم، صحيح أن الحكومات لا تغير مواقفها، ولكن الشعوب تفعل. بدأنا نلمس ذلك، وهذا يعطينا أملا، لقد دفعنا ثمنا غاليا لنصل إلى هذه المواقف.

أردتِ أن تروي “قصة فلسطين وكيف وصلنا إلى ما نحن عليه” مع الاستناد إلى حقائق تاريخية، مشروع رواية التاريخ ضخم وشائك وطموح. كيف أتتك الفكرة وقررت العمل عليها، وما مراحل تطوير السيناريو؟

كانت قصص النكبة وما حدث فيها لأناس من الأهل تتناهى إلي منذ زمن، لطالما تمنيت عمل فيلم عنها، وحصل ذلك منذ 10 سنوات.

باغتتني حينها صورة مظاهرة من زمن الانتفاضة قُمعت بالرصاص، تخيلت شابا أصيب فيها ولا نعرف مصيره، ففكرت بعمل فيلم عنه، وبت أفكر بمدخل لهذه القصة، فقبل أن نعرف مصيره كان علينا أن نعرف لمَ هو هنا، وما خبر عائلته، ولمَ كانت لاجئة؟

تغاضيتِ في الفيلم عن مراحل مهمة في التاريخ الفلسطيني العربي، منها النكسة وحرب 1973، وكان يمكن أن تشيري لها سريعا، ما السبب؟

يصعب الحديث عن مجمل ما جرى، فقد بدأ الاحتلال في 1967، ورأيت أنه من الأهم إبداء وقعه على العائلة، وكيف بات من نهاية السبعينيات أكثر عنفا.

الفيلم عن حكاية عائلة، وتبيان تأثير الاحتلال على مجريات حياتها، ومع محاولتي إدخال أحداث تاريخية عدة، لم يكن ممكنا الحديث عنها كلها عند كل جيل. لكن يمكن أن أفعل ذلك في مسلسل تلفزيوني فيما بعد.

مررت سريعا على جانب النضال الفلسطيني، فبدوا مسالمين منتقدين بالكلام فقط، لا سيما في المرحلة الأولى (النكبة ثم النكسة)، إلا في مرحلة الحفيد التي مرت سريعا مع الأسف، مع أن شخصيته شديدة الجاذبية، وأداء ممثله كان لافتا، وكان يمكن العمل عليها أكثر. ما السبب؟

كان الفلسطينيون كرماء صبورين مسالمين، يريدون السلام، ولا أحد يراهم أو يبديهم على هذا النحو لأحقاب عدة، وأنا أردت أن أبين هذا الجانب فيهم، فقد رغبت بإبداء إنسانيتهم، وهذا شديد الأهمية لدي.

فضلتِ التوسع في قضية أخرى، لن نشير إليها حتى لا نحرق الفيلم، ما هدفك من هذا؟

أردت للفيلم أن يكون عالميا، ولا سيما لمن لا يعرفنا، ولا يدرك قضيتنا جيدا، كي يفهمها أفضل، ويشعر بآلامنا ومعاناتنا.

يقودنا هذا للحديث عن الجمهور، فإثارة القضية الفلسطينية شائكة، ويمكن تقسيم الجمهور إلى عربي يعرفها جيدا، وغربي معظمه لا يعرف الحقائق، أو لا يريد. فهل تضعين الجمهور نصب أعينك وأنت تكتبين؟ وإلى من تتوجهين؟

كما ذكرت لك، فقد تربيت في الولايات المتحدة، ولا يمكن أن أتجاوز هذا الجزء مني، فأنا بين ثقافتين، ولا يمكن أن أنجز عملا لا أفكر فيه بالطرفين، لأني الاثنان معا، ووجهة نظري هي الاثنتان معا.

أرى نفسي جسرا لتقريب الجهتين من بعضهما، وأرغب أن أُري أعمالي للأمريكيين، ولكن أيضا للعرب، فمن المهم أن يروا صورتهم على الشاشة، وكذلك قصصهم. ومن المهم لفيلم عالمي أن يجد الجمهور نفسه فيه.

صفق الجمهور التشيكي وغيره في القاعة كثيرا بعد الفيلم، وسالت دموع البعض. كيف كان رد فعلك، وهل توقعت ذلك؟ هل تقولين لنا بعض العبارات التي قيلت لك مثلا؟

لقد شكروني بحرارة، وأكثر ما تردد قولهم إنه فيلم إنساني، يقرب الناس من بعضهم. وقد كتبت لي إحداهن أنها التجربة الأقوى في كل المهرجان، وأني أظهرت بمحبة الطريقة الوحيدة التي نستطيع بها شفاء العالم.


إعلان