أهل القريتين.. فلسطينيون “في انتظار معجزة”

على أنغام أغنية “سنرجع يوما إلى حيّنا” يفتتح المخرج اليهودي “موريس شايوت” المغربي الولادة والهولندي الإقامة فيلمه التسجيلي “في انتظار معجزة”، والذي قطعت الشخصيات فيه من سكان قريتي “كفر برعم” و”أقرت” الفلسطينيتين وعداً على أنفسها بالعودة إلى قراها التي هُجّرت منها، يُشبه ذلك الذي تعد به أغنية فيروز الشهيرة. فهم ومنذ عام 1948 لم يتوقفوا عن محاولات استعادة أرضهم الساحرة الجمال قرب الحدود مع لبنان، والتي تمنعهم السلطات الإسرائيلية من السكن فيها مجددا.
يستعيد الفيلم عبر خط زمني تصاعدي أهم المحطات التاريخية التي مرَّ بها نضال سكان أهل القريتين العرب، فيبدأ من عام 1948 عندما أخرجهم الجيش الإسرائيلي من قراهم بعد أن وعدهم بأنهم سيعودون إليها بعد أسبوعين فقط، لينتقل إلى قرار تدمير القريتين بوحشية ومن دون أسباب من قبل الجيش الإسرائيلي في بداية عقد الخمسينيات من القرن الماضي، وإلى مفاوضات السلام العربية الإسرائيلية في نهاية عقد التسعينيات التي كادت أن تغير من مصير القريتين.
الفيلم يقابل شخصيات من أجيال متعددة منهم من عاش في قريتي “كفر برعم” و”أقرت” عندما كان طفلاً
بموازاة درس التاريخ المستفيض الذي يقدمه الفيلم، يركز هذا الأخير على حياة أهل القريتين التي تتأرجح منذ عقود بين الألم والأمل، ويقابل شخصيات من أجيال متعددة منهم من عاش في القريتين عندما كان طفلاً، وآخرون سمعوا عنهما من قصص الآباء، لكن تعلقهم بهما يكتسب معاني كبيرة وعميقة.
يحفل الفيلم بالمشاهد والحوارات المؤثرة خصوصا تلك التي بيّنت الوجع الكبير الذي يعيش فيه فلسطينيون عرب تعدّوا الثمانين من العمر، بكى بعضهم وهو يتحدث عما تعنيه لهم الأرض الأولى، واستنكروا أن الحكومة الإسرائيلية تسمح فقط بعودتهم الدائمة كجثث ليدفنوا في مقبرة القرية، وهو المكان الذي ما زال وإلى جانب الكنيسة مفتوحاً لسكانها من الفلسطينيين.
عُرض الفيلم التسجيلي على شاشة التلفزيون الهولندي الرسمي، وحصل على قسط كبير من الاهتمام الإعلامي في البلد الأوروبي لبحثه التاريخي المحكم، ولكشفه عن ضحايا مجهولين في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فرغم أن القريتين تقعان جغرافيا ضمن أراضي عام 1948 التي أعلنت إسرائيل قيام دولتها عليها، ورغم أن سكانها اختاروا دائماً الحلول السلمية لاستعادة أرضهم، إلا أنهم اصطدموا بجدار الرفض الإسرائيلي ذاته الذي يمنع ملايين اللاجئين الفلسطينيين من عام 1967 وما بعدها من العودة إلى بلادهم كما تنصّ القرارات الدولية.
وُلد المخرج موريس شايوت في المغرب لأسرة يهودية، وهاجر إلى إسرائيل في شبابه، لكنه عاد وحزم حقائبه وترك الدولة العبرية متوجهاً إلى مدينة نيويورك الأمريكية، وبعدها انتقل إلى هولندا التي يعيش فيها منذ قرابة عشرين عاماً. فيما يلي حوار مع المخرج عن فيلمه “في انتظار معجزة”.

كيف سمعت بقصة القريتين، وما هي الخطوات الأولى التي اتخذتها في التحضير لهذا المشروع التسجيلي؟

كنت أُخطط لعمل فيلم عمّا يُعرف بـ”عرب 1948″، وكنت أبحث عن قصص في هذا الاتجاه. ربما لا يعرف الكثيرون من الذين يعيشون خارج الشرق الأوسط أن هناك تقريبا مليون ومئة ألف عربي يعيشون في حدود الدولة الإسرائيلية، وأثناء بحثي صادفت قصة القريتين التي كنت سمعت بهما من قبل، عندها قررت أن أتوجه إلى المنطقة والتركيز عليهما في بحثي، ومحاولة معرفة لماذا لا يزال أهل القريتين يحاربون الظلم الذي تعرّضوا له بإجبارهم على ترك بيوتهم (وبعد أن وُعدوا من قبل السلطات وقتها أن تهجيرهم من قراهم سيكون مؤقتاً، وبالتحديد لأسبوعين فقط حتى تتحسن الظروف الأمنية) حتى بعد ستين عاماً من تلك الأحداث التاريخية.

الفيلم يحفل بالحوارات المؤثرة التي بيّنت الوجع الكبير الذي يعيش فيه فلسطينيون عرب تعدّوا الثمانين من العمر
ما شَدني في قصة قرية “كفر برعم” بالتحديد، هو أن أهل القرية ولشدة تمسكهم بأرضهم كوّنوا ما يُشبه المجتمع الصغير في القرية رغم أنهم لا يعيشون فيها، إذ إنهم يتوزعون اليوم على العديد من القرى والمدن المجاورة، ويلتقون في قريتهم المهجورة في الأعياد المسيحية الدينية فقط، ويتوحدون حول مكانين في القرية هما الكنيسة والمقبرة.
لا يزال الكثير من أبناء الجيل المتقدم في العمر من قرية “كفر برعم” يأتي إلى الكنيسة أيام الأحد، أما في قرية “أقرت” فإنهم يقومون بالصلاة في الكنيسة مرة واحدة في الشهر. فالسؤال الذي أثارني وقتها لماذا يملك أبناء القرية هذه العلاقة الحميمة مع المكان حيث يختلفون في هذا عن عرب آخرين من الذين هُجروا من أراضيهم ولجؤوا إلى أمكنة أخرى في إسرائيل، هذه كانت الشرارة التي جعلتني أقرر أن أصنع فيلماً عن أهل القريتين. فهناك إجماع سياسي إسرائيلي من اليسار واليمين على ضرورة السماح رسمياً بعودتهم إلى قراهم، وهو الأمر الذي لم يحدث لأسباب غير معروفة.

إذا كان هناك إجماع إسرائيلي بمظلوميتهم، لماذا لا توافق السلطات برأيك على عودتهم؟

أعتقد أن السبب الرئيسي لعدم عودة أهل القريتين هو الخوف مما يثيره ذلك من مطالبات بعودة لاجئين ونازحين فلسطينيين في أمكنة أخرى. هذا رغم أن وضع القريتين يُعد خاصاً، إذ إنهما الوحيدتان اللتان طُلب من سكانهما وقتها أن يتركوهام لأسبوعين فقط، وهناك قرار محكمة إسرائيلي ينصّ على عودتهم، لكن الخوف من مشكلة اللاجئين الفلسطينيين لا يزال قوياً ويمنع إلى اليوم عودة أهل القريتين، الحكومات الإسرائيلية التي تعاقبت على الحكم كانت تخشى ذلك في حالة امتثالها لقرار المحكمة الإسرائيلية، فإن هذا من شأنه أن يفتح الباب عليها في قضايا أخرى. هذا الخوف كان دائماً في تفكير الحكومات الإسرائيلية على طوال العقود الماضية.
هناك اليوم قرى فلسطينية في إسرائيل هُجّر أهلها ومُنحت أراضيها للمستوطنين، لكن مواقع القرى الأصلية حيث كان يعيش سكانها العرب لا يزال فارغاً ولم يتم البناء فيه أو زراعته، وهذه قضية حسّاسة في إسرائيل. هناك إذن هوية خاصة لنضال أهل القريتين، وبالخصوص الجيل المتقدم من العمر من أبنائها، وحتى جيل الشباب في القرية فهو لا يزال مُتمسكاً بهوية قرية آبائه، فالآن مثلاً هناك معسكر صيفي لأبناء قرية “كفر برعم” الشباب، فالآباء يُعلّمون أبناءهم ويحكون لهم قصة القرية، وهكذا يبقى ذكرها. عِناد الناس هو ما أثارني كثيراً في هذه القصة.

كيف أقمت علاقات مع السكان خاصة وأنهم اليوم يتوزعون على أمكنة عديدة، وكيف عثرت على شخصيات فيلمك، وهل كان إقناعهم بالتعاون معك سهلا؟

هناك لجنتان للقريتين، وهما يملكان مواقع إلكترونية وصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت. ما فعلته ببساطة هو الذهاب إلى تلك المواقع والتي وجدت عبرها المتحدث باسم هاتين اللجنتين، وقمت بالاتصال بهما من محل سكني من هولندا، وأخبرتهم حينها بأنني مهتم بعمل فيلم عنهم. بعدها ذهبت إلى إسرائيل وتوجهت إلى قرية “كفر برعم” في يوم السبت وقابلت أُناساً من الجيل الأول من أهل القرية، وعبر هؤلاء تعرفت إلى شخصيات من الجيل الثاني والثالث. زيارتي الثانية للقرية تصادفت مع أعياد الفصح، والتي كانت فرصة لمقابلة معظم أهل القرية حيث إنهم تعودوا أن يذهبوا كل عيد فصح إلى أرض الأجداد للاحتفال هناك.

هل وافق السكان على التحدث معك مباشرة، أم أنهم كانوا مترددين عما يُمكن أن يقوم به فيلم ما تجاه قضيتهم؟

نعم، هم كانوا سعداء بالمشاركة في الفيلم، وهم في الحقيقة لطفاء للغاية. سيكون من الصعب كثيرا العثور على ناس آخرين أكثر لطفاً من سكان تلك القريتين، حيث وصل معظمهم إلى مراتب عالية في التعليم. وعندما كنت معهم شعرت بالألم الذين يحملونه، والحلم المتواصل بالعودة إلى أرضهم وإصرارهم وعدم رغبتهم بالاستسلام، رغم أنهم يملكون حياة مريحة جداً، فهم لا يعيشون في خيم، بل يسكنون في منازل فخمة كثيراً في مدن فلسطينية في إسرائيل.

إقامة الصلاة في الكنيسة في قرية “أقرت” مرة واحدة في الشهر
وعلى الرغم من أن أهل القريتين بنوا حياة لهم خارج القرى التي ولد فيها آباؤهم، لكن لو قلت لهم اليوم أنه من الممكن أن تعودوا إلى قراكم في الغد فإنهم سيعودون جميعا، وسوف يتركون بيوتهم المريحة وحتى يمكن أن ينصبوا خياما ويعيشوا فيها لو تطلب الأمر ذلك.
قصة هؤلاء الفلسطينيين حزينة جدا، أطلقت على الفيلم “في انتظار معجزة” لأنني أتمنى أن تقع “المعجزة” ويعود هؤلاء إلى أرضهم. أتصور أن المعجزة كانت ستحدث في عهد “إسحق رابين” لكن للأسف مرّت الفرصة دون أن يحدث شيء، فـرابين كان قائداً عسكرياً عندما دُمرت بعض القرى في المنطقة، وكان يشعر بالندم على ذلك في سنوات حياته الأخيرة، كما كان من صنف الزعماء السياسيين الذين يحبون أن يجازفوا بقراراتهم.

 بالنسبة لبناء الفيلم، هل كانت عندك أفكار محددة تخص السيناريو قبل الشروع بالتصوير، أم أن بناء الفيلم تشكّل في غرفة المونتاج؟

أردت أن أبيّن في الفيلم المعركة الطويلة التي ما زالت متواصلة للعودة، والحَسَرات التي يملكها سكان القريتين بسبب بعدهم عن مكانهم الأول، ليس فقط للجيل الأول الذي وُلد في القرية والذي يتذكر القرية في أيام عزّها وكيف كانت قبل التهجير، بل للأجيال اللاحقة وللذين وُلدوا بعد دمار القريتين أيضا، حيث إن الصورة التي يملكها هؤلا عن القرى التي عاش فيها أجدادهم مستلهمة من الصور الفوتوغرافية القديمة القليلة المتوافرة.
الذي لفت انتباهي أن الجيل الثاني والثالث درس بشكل ممتاز أكاديميا ويعمل اليوم في وظائف مرموقة وبينهم الطبيب والمهندس، لكنهم وحال وصولهم إلى قريتهم حدث لهم شيء ما، ولهذا أردت أن أعرض في فيلمي أن المعركة لن تنتهي أبداً، وأن الأجيال التالية ستبقى تقاتل بكل الطرق حتى تستعيد حقوقها.

ماذا عن وجهة النظر الإسرائيلية الحكومية، هل حاولت أن تصل إلى شخصيات حكومية لتسألها عن موقفها من هذه القضية؟

لم أرغب في الحديث مع الحكومة الحالية لأنها تتألف من مجموعة من السياسيين الذين لا يمكن أن أحصل منهم على جواب نافع، في المقابل ذهبت إلى زعيم يميني متشدد شغل منصب وزير دفاع في حكومة إسرائيلية سابقة، حيث قال في الفيلم إنه ليس من الإنصاف عدم السماح لهؤلاء الناس بالعودة، كما تحدثت مع وزير العدل في حكومة إسحق رابين، وأكد على الظلم الذي يعيشه سكان القريتين. ما أردت أن أوضحه في الفيلم هو أن اليسار واليمين الإسرائيلي مع عودة سكان القريتين، لكن السؤال لماذا لا يعودون إذن إلى أرضهم؟

تحدثت مع فلسطينيين من أجيال مختلفة، أيّ من هؤلاء كان الحديث معه عن القضية أسهل من غيره، وأيهم يملك علاقات عاطفية أقوى مع قراهم والأرض هناك؟

أعتقد أن الجيل الأول هو الأكثر ارتباطاً روحياً بالأرض، وتشعر عند الحديث معهم بألمهم وعواطفهم القوية، وذلك لأنهم يتذكرون القرية كما كانت عليه قبل تدميرها ويتذكرون الشوارع والبيوت، فمثلاً المرأة المسنة التي ظهرت في الفيلم والتي كانت تحمل حجارة من قريتها في حضنها فهي تمثل نموذجاً للجيل الأول، ورغم أن الحكومة الإسرائيلية عرضت عليهم تعويضات كبيرة بأن تبني لهم قرية جديدة تحمل الاسم نفسه تقع على مسافة ليست بعيدة من قريتهم الحالية لكنهم كانوا يرفضون ذلك تماماً، وكانوا يردون بأن آباءهم وأجدادهم مشوا على تلك الأرض فكيف يمكن لهم التخلي عنها.

الأجيال الفلسطينية على مرّ السنين وطرقهم المختلفة باستعادة حقوقهم
بالنسبة إلى الجيل الثاني فهو أكثر انغماساً بالسياسة، ويحاول عبر طرق مختلفة استعادة حقوقه. وإذا كان الجيل الأول مُستعداً للانتظار حتى تغير الحكومة رأٍيها، فإن الجيل الثاني يُريد عبر العملية السياسية أن يجادل ويتحدى السلطات من أجل حقوقه. أما الجيل الثالث من أبناء القرية فهو بخلاف جيل آبائه،لا يريد أن يخوض معركة سياسية طويلة مع الحكومة، بل قرر العودة فعليا إلى القرية التي جاء منها أجداده. وهذا ما تراه في “أقرت” حيث يعيش بعض الشباب بشكل مؤقت وغير رسمي في القرية. اليوم هناك في أي وقت من السنة من يتواجد في القرية، أحياناً شخص واحد أو بضعة أفراد، لكن هناك دائماً من يعيش في القرية.
هناك تطور جديد حدث بعد عطلة نهاية أعياد الميلاد الأخيرة، إذ بعد معركة طويلة مع السلطات الإسرائيلية وافقت هذه الأخيرة على ربط كنيسة قرية “أقرت” بالتيار الكهربائي، حيث كانت تمنع في الماضي إعادة الخدمات إلى القرية. فأهل القرية الآن لا يحتاجون إلى مولد كهربائي كل مرة يحتفلون أو يدفنون أحد أقاربهم، بل أصبح لديهم تيار كهربائي.

كيف كان الأمر بالنسبة لك على الصعيد الشخصي، بمعنى أن تكون هناك بين أبنية مهدمة مهجورة وكنائس فارغة؟

عندما كنت هناك كانت قضية العدالة الغائبة تلح عليّ كثيراً، كنت أتساءل لماذا لا يُسمح لهؤلاء الناس بالعودة إلى أرضهم وقريتهم، حيث تكاد كل صخرة أو حجر هناك يبكي من الظلم، في “كفر برعم” تشاهد هياكل البيوت ما زالت واقفة، حيث جرى تدمير السقوف والنوافذ فقط، وهذا كان أمراً مؤلماً حقا، فعندما تمشي في الشوارع هناك تستطيع أن تتخيل أن حياة كانت هناك، بالنسبة لي كان الأمر صعباً كثيراً على الصعيد العاطفي.

ماذا على صعيد البحث في الفيلم، هل قمت به بنفسك أم ساعدك به آخرون؟

قمت به بمفردي بشكل عام، لكن بالطبع استعنت بشخصيات من القريتين لمساعدتي. هناك شخص من قرية “أقريت” ساعدني في الترجمة إلى اللغة العربية لأن لغتي العربية ليست جيدة بالقدر الكافي. وهذا الشخص نفسه يستعد لطباعة كتاب كتبه عن صراع أهل قريته لاستعادة قريتهم. أما على صعيد المواد الأرشيفية المُصورة، فقد حصلت على بعضها  من لجان القريتين ومن التلفزيون الإسرائيلي، كما استخدمت بعض المواد عن القضية من التي يضعها ناس عاديون على شبكة الإنترنت.