المخرج التركي نوري جيلان.. قهوة الريف التركي برائحة الأدب الروسي

حاوره: أيوب واوجا

يفتتح المخرج التركي نوري بيلج جيلان فيلمه “مناخات” (Iklimler) بمشهد يُلخص رؤيته الإخراجية والأسلوب الطاغي على أعماله، وهو مشهد لزوجين يتنزهان معا، ففي حين يبدو الزوج منهمكا في تصوير المكان واستكشافه؛ تنظر إليه زوجته من بعيد وتتوجه إليه لتحضنه وتبتسم، ثم تبتعد إلى مكان قريب وتتحول ابتسامتها لبكاء.

يظهر زواجهما بأنه زواج سعيد ظاهريا، إلا أن هناك مشكلة مخفية وفراغا بينهما، هذه المسافة والفوارق بين العلاقات الإنسانية هي محور سينما المخرج التركي نوري بيلج جيلان، فقد تأثرت أعماله بمحاولات الكاتب الروسي “دويستويفسكي” لسبر أغوار النفس البشرية وفهمها.

وُلد نوري جيلان سنة 1959 بمدينة إسطنبول التركية، وانتقل للعيش وهو طفل رفقة أسرته في مدينة تركية صغيرة قرب بحر إيجه بإقليم الدردانيل، هذه المدينة التي حضرت في كل أفلامه فيما بعد، كما صور فيها أعماله السينمائية.

بالرغم من تخرجه كمهندس كهرباء من جامعة بوغازيتشي، فإن ممارسته للتصوير الفوتوغرافي منذ طفولته أعادته للمسار الأكاديمي في جامعة معمار سنان لمدة سنتين في قسم التصوير والسينما.

وهنا تُحاور الجزيرة الوثائقية المخرج التركي نوري بيلج جيلان، ليُحدثنا عن رؤيته الإخراجية وعن السينما التركية.

 

من لندن ونيويورك إلى جبال الهيمالايا.. صراع اكتشاف الذات

عن التفافه على الهندسة الكهربائية ودراسته التصوير ثم العمل في ميدان السينما، يقول نوري جيلان: في الواقع لم يكن حولنا الكثير من الفنون من غير السينما، لذا لم يخطر ببالي أنني سأصير فنانا عندما أكبر، وفي الجامعة بدأت أفهم أنني لست الشخص المناسب للهندسة، وكنت أمارس التصوير الفوتوغرافي منذ كنت ابن 15 عاما باعتباره فنا لا مجرد توثيق للذكريات، لكن رغبتي في أن أكون صانع أفلام جاءت في وقت متأخر عن ذلك، لقد بدت كحلم بعيد المنال بسبب ضعف الإمكانيات.

بعد تخرجه من الجامعة، بدأ نوري جيلان رحلة لا نهاية لها في اكتشاف الذات، حاملا معه سؤالا وجوديا حول ما الذي يريده في الحياة؟

بحثا عن الجواب، انطلق نوري جيلان هائما في العالم، فكانت البداية في لندن حيث عمل كنادل، ثم انتقل إلى نيويورك مكتفيا بالعيش وحيدا ومشاهدة الأفلام.

في مرحلة من حياته، اكتشف نوري بأن الجواب عن أسئلته ربما لا يوجد في الغرب، فقرر الانتقال للعيش في الهند ثم جبال الهيمالايا، وهناك شعر بشوق شديد يناديه للعودة لتركيا.

المخرج التركي نوري جيلان رفقة فريق عمله خلال تصوير فيلمه “سبات شتوي”

 

من الجيش إلى السينما.. “رحلة متحركة لا نهاية لها”

في تركيا اشتغل نوري جيلان في الجيش التركي، مبتعدا ظاهريا عن مجال السينما بخطوات عديدة. ويقول عن هذا الاختيار: لقد كانت فكرة جيدة، لأنه لم يكن علي اتخاذ أي قرار، لأنه كان شيئا مثل الأمر المفروض، والأمر الواجب جيد في بعض الأحيان، وكانت سنواتي في الخدمة العسكرية هي الأكثر إفادة لي لأنني قرأت الكثير من الكتب، وفي الوقت نفسه كنت أحاول العثور على إجابة لسؤال ماذا سأفعل في الحياة؟

في ذلك الوقت قررتُ أن أصبح صانع أفلام، لقد اطلعت في تلك الفترة على كتاب للمخرج “رومان بولانسكي”، واكتشفت بأن صناعة الأفلام قد تكون مناسبة لشخصيتي، لأن السينما قريبة من الفن، فهي رحلة متحركة لا نهاية لها، فمع كل فيلم نعيش حياة جديدة، وحياة “بولانسكي” بدأت من الصفر إلى القمة، حياته ملهمة وتشجعك على خوض غمار السينما.

 

“لقد سكنت عقلي هذه القصة لأكثر من 15 سنة”.. تجسيد المسرح الروسي

اكتشف نوري جيلان ذاته وسط الأدب الروسي ورواده الذين يسبرون أغوار النفس البشرية في المواقف العادية، وعبر المشاهدة المتكررة لأعمال المخرج الروسي “داركوفسكي”، وتكونت لديه رؤية إبداعية جعلته ينتمي لرواد السينما التأملية والبطيئة، من أمثال المخرج المجري “بيلا تار” والإيراني “عباس كيارستمي”.

وعندما قدم جيلان للعالم فيلمه “سبات شتوي” (Kiş Uykusu) سنة 2014، ظهر جليا تأثره بالأدب الروسي، عبر إعادة تجسيد شخصيات مسرح “أنتون تشيخوف” (كاتب مسرحي روسي) لتتأقلم مع المناخ التركي، ويرصد تفاعلاتها مع الحياة الرتيبة الممتلئة بالفقر والطبقية والهوة الشاسعة بين شرائح المجتمع.

وعن الفيلم يقول نوري جيلان: في فيلم “سبات شتوي” أعدنا تجسيد قصة لـ”تشيخوف” اسمها “الزوجة”، لقد سكنت عقلي هذه القصة لأكثر من 15 سنة، لكن لم تكن عندي الثقة اللازمة لخوض غمار تصويرها، وفجأة بدأت مع زوجتي كتابة سيناريو مقتبس منها، وأنهيناه في ستة أشهر، لقد كان تحديا صعبا أن أنجز فيلما يستند إلى حوارات فلسفية، فالسينما لا تحبذ في العادة هذا الثقل الفكري، كنت خائفا، لكن في الوقت نفسه كنت بحاجة لهذا الخوف، فعندما تخاف من شيء تبذل مجهودا أكبر، لأن غياب الخطر يصيبك بالكسل.

 

“ثلاثة قرود”.. صدع المسافة في العلاقات العائلية

يُعتبر الصدع الناجم عن المسافة الجسدية أو النفسية بين الشخصيات هو المفتاح الأبرز لجميع أفلام جيلان، فدائما ما تلتقط كاميراته المشاعر غير المعبر عنها بين شخصيات أفلامه، والمسافة التي تفصل بينهم.

يقول جيلان عن هذه الرؤية الإخراجية: أفلامي هي عن المشاعر التي يصعب التعبير عنها، وأحاول التعبير عن غير المعبر عنه على نحو ما.

في فيلمه “ثلاثة قرود” (Üç Maymun) نتعرف على أسرة متصدعة، فالأب مسجون والابن عاطل عن العمل، والأم متورطة في علاقة غير شرعية لمساعدة الابن كي يحصل على وظيفة. في هذا الفيلم يركز جيلان على مشكلة غياب التواصل بين أفراد الأسرة، هذا الفراغ والمسافة التي ستؤدي لانهيارات أسرية في الفيلم.

 

تقنية الصمت.. مرآة المشاعر الإنسانية في السينما

لإظهار المسافة بين البشر، يعتمد نوري جيلان على تقنية الحوارات المشبعة والعميقة للتعبير عن مشاكل شخصياته، وعلى تقنية الصمت الطويل عن طريق مشاهد غارقة في الصمت والفراغ تُذكرنا بسينما “بيلا تار”، حتى في المشاهد التي من المفروض أن تكون حيوية كتحقيق في جريمة قتل في فيلمه “حدث ذات مرة في الأناضول” (Bir Zamanlar Anadolu’da)، لكن نوري جيلان اختار أن يجعلها صامتة.

هذه التقنية تُذكرنا بالخلفية الفنية لنوري جيلان الذي اشتغل في السابق كمصور فوتوغرافي، وتبين كذلك مدى تأثر نوري جيلان بمخرجه المفضل “أندري تاركوفسكي”.

الصمت في أعمال جيلان صورة للطموح والخيبة والأحلام المتلاشية، فالصمت يستطيع إيصال أحاسيس شخصيات أفلامه دون الحاجة لأن تنطق بكلمة، وذلك من خلال زاوية التصوير والإطارات ووقفة الممثل التي تنجح في تجسيد إحباطاته.

في جوابه على سبب حبه لتصوير مشاهد الصمت، يجيب نوري جيلان: الأفلام التي أحبها أكثر من غيرها هي الأفلام التي مللت منها خلال المشاهدة الأولى، لكن مع الوقت بدأت بالإعجاب بها، في المشاهدة الأولى أحيانا أغادر السينما في منتصف العرض، لكن لاحقا تبدأ بالاشتغال في روحي، وأشاهد الفيلم في سنة أخرى وتأثيره يكون عظيما.

 

“شجرة الكمثرى البرية”.. طموح جامح في الريف التركي الهادئ

في المشاهد الختامية لفيلم “شجرة الكمثرى البرية” (Ahlat Ağacı)، ينقل لنا نوري جيلان عبارة على لسان الأب لابنه عن شجرة الكمثرى البرية التي يقول عنها إنها دائما ما تكون وحيدة وغير متسقة مع محيطها وغير مهندمة الشكل أيضا، في إسقاط على ما يحس به بطلا الفيلم.

يحكي الفيلم قصة الشاب سنان الذي يحلم بأن يصبح روائيا، لكن يبدو بأن مساره قد كُتب له من قبل في أن يصير معلما بمدرسة ابتدائية مثل أبيه الذي اقترب من سن التقاعد.

تسلط الكاميرا الضوء على طموح بطل الفيلم الشاب سنان، طموحه في الخروج من القرية للمدينة، وطموحه في أن يصير كاتبا ناجحا، وطموحه في الزواج، وفي الخروج من حالة الفقر.

يعتمد الفيلم على ثنائية الحوارات المطولة وجمالية الصورة، موثقا بذلك خريف الريف التركي وشتاءه، لينقل لنا رتابة وهدوء الحياة بالريف التركي ومشاعر أبطاله بخلفية موسيقية للفنان “سيباستيان باخ” من عزف الفنان “ليوبولد ستوكوسكي”، ويقطعها نوري جيلان كلما اقتربت من الذروة، فهو يكتفي فقط بالمقدمة ليقربنا مما تحس به شخصيات الفيلم في بحثها عن التحرر وطوق النجاة الذي قد لن يأتي.

نوري جيلان يستلم جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان عن فيلمه “سبات شتوي”

 

السعفة الذهبية.. جوائز في المهرجانات الدولية

أخرج نوري جيلان لغاية الآن عشرة أفلام استطاع بها تحقيق عدة جوائز عالمية، كالجائزة الكبرى لمهرجان كان عن فيلمه “بعيد” (Uzak) سنة 2003 وفيلمه “حدث ذات مرة في الأناضول” سنة 2011، والتتويج بالسعفة الذهبية عن فيلمه “سبات شتوي”، إضافة إلى جوائز أخرى يطول ذكرها، فقد استطاع جيلان طيلة مساره المستمر أن يُوصل صوت الريف والمجتمع التركي المعاصر، بمزيج من روح الأدب الروسي، صانعا لنفسه نمطا سينمائيا يغوص في الذات البشرية وتعقيداتها.

يتحدث نوري في مهرجان كان بعد عرض فيلمه “ثلاثة قرود” قائلا: دائما ما أدهشني ذلك التعايش داخل روح الإنسان بين حبه للسلطة وقدرته على الغفران، واهتمام تلك الروح في الوقت نفسه بالأمور الأكثر قداسة، وفي نفس الوقت بالأمور الأكثر بساطة، وبالحب وبالكراهية.