“نساء الجناح ج”.. حوار مع المخرج حول كواليس وظروف السينما المغربية

حميد بن عمرة

يعد فيلم “نساء الجناح ج” للمخرج محمد نظيف ثاني فيلم طويل له، وقد عرض بمهرجان القاهرة 2019، ويدخلنا هذا الفيلم فورا في رواق السينما السيكولوجية، وفي خلسة الليل الذي يغطي بسدوله أسرار نساء يرتسم هاجس الحرية على ملامحهن.

إنهن أربع نسوة قررن التصدي لحصار الزمن الذي يعشن فيه بمستشفى الأمراض النفسية، كل امرأة بفصل وقصة تتكامل وتتقاطع فيها الأسباب والعقد، وهن أسماء الحضرمي وجليلة التلمسي وإيمان المشرفي وريم فتحي في الأدوار الرئيسية، أربع ممثلات تتكامل وجوههن وأجيالهن في البحث عن مخرج حتمي من كابوس العزلة.

قبل الدخول في حوار مع المخرج والممثل والمنتج محمد نظيف تفرض بعض التساؤلات ذاتها حتى نضع الفيلم في سياقه السينمائي الحالي، فهناك موجة مغربية لعدة أفلام نسوية أو نسائية ظهرت على الشاشات المغربية، كانت النساء فيها هن البطلات ولا يختفين بكتف الرجل البراق الذي اعتاد احتلال الإطار بشكل دائم.

فهل يأتي فيلم محمد نظيف كرد على فيلم نبيل عيوش “الزين اللي فيك” (2015) الذي تدور قصته حول أربع عاهرات، أم يأتي برؤية درامية تختلف عن الفيلم الكوميدي “الحاجات” (2017) من إخراج محمد أشاور؟ ويعتمد هو الآخر على أربع شخصيات نسائية لكنهن في سن متقدم يقمن بتكوين عصابة تحاول استرجاع حقهن المبتور بطرق غير قانونية.

هل التوجه السيكولوجي أكثر استقطابا للجمهور من الفيلم الهزلي ” الحاجات”، ومثيرا للفضول أكثر من سينما التابوت “الزين اللي فيك”؟ ليست هناك أي علاقة بين الفلمين المذكورين لأن سيناريو محمد نظيف كتب في نسخته الأولى عام 2013 بعدما زارت زوجته أحد أقاربها بمستشفى الأمراض النفسية وتأثرت بحالته.

 

راية النسوية.. تساؤلات من صميم الفيلم

اختار محمد نظيف أربع قصص لكل حكاية منها وجه ولكل وجه فصل، فصل الطلاق وفصل العزاء وفصل الاغتصاب وفصل الانتظار، لا يتستر الفيلم على الواقع النسائي ولا يطعن فيه، وإنما يفتح لهن إطارا يخرجن فيه في حميمية وفضاء حر لم يتعود الرجال عدم السيطرة على حدوده، فليست كل امرأة تدخن وكل شابة تخرج من مقهى وكل جميلة تطوف بالليل في سيارتها عاهرة.

فهل المخرج الممثل عندما يدخل حميمية الجنون مع شخصياته يحاول بهذا التدخل والتقرب منهن أكثر عوض اتخاذ العدسة كدرع والاكتفاء بترصد حركاتهن فقط، أم أنه يريد بهذا الحضور في دور الطبيب النفسي أن ينافسهن في حريتهن، أم أننا أمام محاولة لا شعورية لمراقبتهن حتى لا يفلتن منه؟ ليس حبا في السيطرة عليهن بل خوفا عليهن من محالك ومهالك الليل.

هل يثبت بهذا الدور أنه السند والحامي لشخصياته، وبالتالي يعرض على جمهوره رايته النسوية بكل فخر؟

كل هذه الافتراضات تصب في بحر واحد وهو حب المرأة، لكن هل “نساء الجناح ج” في الأصل امرأة واحدة متعددة الشخصيات، أم أنه جعل من الاكتئاب عنصرا دراميا يلاحقهن في حياتهن، هل يحاول الطبيب النفسي (المخرج) ملاحقة الاكتئاب مثلما يلاحق مفتش الشرطة المجرم في كل ركن؟

صورة تجمع بطلات فيلم “نساء الجناح ج” اللواتي جمعهنّ الاكتئاب لتتحول صداقتهن إلى مفتاح لحل مشاكلهن

 

طغيان الطابع الليلي.. هاجس التخلص من سلطة الشارع الذكوري

يطغى الطابع الليلي على سردية الفيلم ليخيم عليه الأسلوب البوليسي إلى حد كبير، لأن كل امرأة تحاول فك عقدة بأظافرها وأسنانها، وكل منهن تشعر بالوحدة رغم قربهن وتماسكهن في كتلة واحدة، لأن طبخة السيناريو تحمل في توابلها السردية موضوعات لا تتداول كثيرا في السينما العربية وخاصة المغاربية.

يحاول الفيلم بحياء تقديم تشخيص لموضوعات تخمرت تحت الجلد دون تجريد شخصياته من هويتهن، حتى وإن كان الاكتئاب هو المحور الظاهر في القراءة الأولى للفيلم فإن نبضه الساكن والسري هو تحرر المرأة من طقوس الشارع الذكوري، لأن النساء لا يردن منافسة الرجال وإنما أن يعتبر الرجال وجودهم من دون المرأة طريقا يتجه إلى الفناء الحتمي.

يُستحسن مشاهدة الفيلم من هذا المنظور والبحث مع شخصياته عن طرق تقرب الرجل من المرأة، لأن محمد نظيف لا يقدم وصفة صالحة لكل حالة يمكن شراء دوائها من أي صيدلية، فالعنف ضد النساء ليس حمى يمكن تخفيضها بحقنة، وإنما هو عنصرية ينشأ عليها الذكر، ولا يمكن استئصالها كمسمار صدئ بأي مطرقة.

ليس فيلم محمد نظيف نسويا بل نسائيا، لأنه يحب المرأة ويعرف قيمتها الإنسانية، ولا يحاول هنا بانحيازه لحساسية النساء مغازلة جمهور نسائي، بل يريد أن ينزع الغشاء عن حدقة الرجال كي يحررهم من عنفهم. وهنا تُحاور الجزيرة الوثائقية المخرج والممثل والمنتج محمد نظيف لمعرفة كواليس وظروف السينما المغربية:

 

  • تعيش السينما المغربية فترة خصبة كما ونوعا، ما الذي تسعى لتقديمه لهذه الموجة الجديدة السينمائية العربية والأفريقية؟

ما زالت السينما المغربية في أول خطواتها، لا نتحدث عن المغرب كقطب لتصوير الأفلام الأجنبية منذ الإخوة “لوميير” إلى يومنا هذا بل عن رؤية سينمائية مغربية تنظر وتتعامل مع واقعنا الحالي، نتحدث عن سينما تنتج إنتاجا مغربيا للمغاربة قبل كل شيء، وتعكس حياتنا اليومية.

تعود الجبهات الأولى للسينما المغربية إلى بداية السبعينيات أيام إنتاج فيلم سهيل بن بركة “ألف يد ويد” وفيلم “الأيام” لأحمد المعنوني وفيلم “ابن السبيل” لعبد الرحمن تازي، لكن الدفعة القوية التي انطلقت بها السينما المغربية هي تأسيس المركز الوطني للسينما المغربية الذي يدعم الفيلم ماليا في كل مراحله، وذلك في رغبة سياسية تسعى لمساندة السينما والتقدم بها.

أنا شخصيا كمخرج ومنتج وممثل أصب كل طاقتي في هذا الاتجاه مع جيل متحرر من الفكر الاستشرافي ويحلم بسينما جريئة ومجددة، سينما تتمحور حول هوية وصورة مغربية أصيلة.

المخرج والممثل المغربي محمد نظيف يُشرف على تصوير مشهد نهاري من فيلمه الطويل “نساء الجناح ج”

 

  • كيف تفسر كل هذا التنوع شكلا ومضمونا في السينما المغربية؟

إن العامل الأول والضروري هو مسؤولية الدولة وتعاملها مع المهنة بجدية وحرفية، فالسينما صناعة توفر يدا عاملة وتجني عملة من خلال الأفلام الأجنبية المصورة بالمغرب، يساعد هذا الجانب في تأطير المهنة وتكوين يد عاملة محترفة تحتك بالخبرات العالمية، كما يرفع هذا التعامل مع أجود صناع السينما الغربيين من مستوى الخبرات المحلية، لكن من دون تكوين داخلي لا يمكن أن يكون المغرب بلاطا يستقطب السينما العالمية، كما لا يمكن أن يكتفي المغرب بتثمين كل هذه الأفلام الأجنبية نقديا فقط، بل من الضروري أن يكون صانعا لسينما شخصية تعكس توجهه الثقافي والفكري.

إن منهج العمل جعل القطاع خاضعا لقوانين دقيقة تحمي العامل والمنتج والفيلم في آن واحد، فلا يمكن أن تأخذ تصريحا للتصوير إن لم يكن بطاقمك عدد معين من الحرفيين المغاربة الحاصلين على بطاقاتهم المهنية، لأنه لا يمكن للمخرج أن يحصل على دعم مادي إن لم يكن بحوزته بطاقة مهنية.

أما الجانب الآخر لتقدم السينما المغربية فهو حرية التعبير رغم ما يمكن اعتقاده لكون الإنتاج يعتمد أساسا على مساعدة الدولة، لأن اللجنة التي تتعامل مع موضوعات السيناريوهات مستقلة تماما، وتتكون من مثقفين وحرفيين يجري تعيينهم لسنتين مما يشجع سينما المؤلف بتنوع اتجاهاتها، فيخلق جوا تنافسيا بين المخرجين يدفع للإبداع والتفرد، وهذا التنافس له واجهة سنوية وهي مهرجان السينما الوطنية بمدينة طنجة.

لقطة من كواليس تصوير فيلم “نساء الجناح ج” في مستشفى الاضطرابات النفسية في مدينة الدار البيضاء المغربية

 

  • هل رصيدك المسرحي والتمثيلي في أفلام الآخرين خبرة تستغلها أثناء تعاملك مع الممثلين في أفلامك، أم أنك تدخل في تنافس غير معلن معهم؟

كل ما تعلمته من خشبة المسرح ومن المخرجين الذين مثلت لهم أضعه بين يدي الممثل الذي أريد تصويره، فأهم شيء يدخل في اختياراتي هو الثقة المهنية أكثر من الشهرة، إذ يستقطبني الممثل الذي يغوص في أعماق الدور ولا يبخل بأي جهد لإعطاء الصورة المبتغاة، أحب الممثل الذي يتحول إلى سند ورفيق، وليس من يمثل وينظر إلى الساعة في يده.

  • هل الإنتاج والإخراج في آن واحد يسمح لك بالعمل بحرية أم يجعلك خصما وحكما؟

تقمص الشخصيتين شاق وليس في متناول الجميع، لكن للضرورة فوائد وأضرارا، فأن تدير الجانب المادي البيروقراطي وتفصل في المسائل الفنية في آن وحد يتطلب عقلين منفردين، ويستوجب أن تكون سريع الانتقال في الفكر البراغماتي إلى الفكر الإبداعي.

عندما تكون أنت منتج فيلمك تتجنب أن يتحول الفيلم إلى سيناريو ينفذ دون إبداع ولا تخشى الإقدام على توجه سينمائي قد يتردد كثيرا عند البدء فيه منتج غيرك، وقد تمر سنوات بين الفكرة الأولى وبين إيجاد الدعم الكافي والميزانية المناسبة للخروج بالفيلم إلى الشاشة، لذا قد تفقد المنتج في الطريق لأنه يتعامل مع عدة أفلام وفيلمك قد لا يكون ذا أولوية في برنامج إنتاجه.

الممثلة أسماء الحضرمي زوجة المخرج محمد نظيف، والتي مثّلت في فيلم “نساء الجناح ج” دور مريضة نفسية

 

  • في فيلمك الثاني “نساء الجناح ج” تكون النساء فريقا متماسكا، أين نشأ هذا التوجه النسوي الذي تدافع عنه؟

الجذور قديمة ترجع إلى المدرسة التي لا تفرق بين الإناث والذكور والتعلم في إطار خال من مركبات النقص بين الأنثى والذكر كما ساهم في هذا الانفتاح التكوين المسرحي بجمعيات يسارية اعتمد التدريس فيها على فكر عادل يجعل الأنثى والذكر شريكين يكمل بعضهما الآخر، وليسا نظيرين متنافرين.

إن الأم مدرسة حنونة لكن بشخصية قوية فكانت أول بذرة حب، لكن علاقتي بزوجتي الممثلة أسماء الحضرمي رسخت قناعتي بأن المجتمع الذي لا يحترم المرأة سيتقدم في مساره وهو أعرج، ولا خلاص إلا بحرية المرأة.

  • هل تحظى زوجتك حين تمثل في أفلامك بامتياز خاص، أم أن العلاقة الشخصية تزول فورا بمجرد البدء في العمل؟

إننا نعرف بعضنا منذ أيام الدراسة بالمعهد العالي للفنون الدرامية، لذا تجدني لا أكتفي بما أعرفه عنها، بل أدفعها لاكتشاف جوانب لم تستغل بعد من إمكانياتها، لقد تعلمنا الفصل بين العلاقة الحميمية والمهنية.

ففي المسرح الذي اقتسمنا فيه الخشبة مرارا يكون الممثل بشكل يجعله يفصل بين العلاقة الشخصية وبين الدور الذي يؤديه، لأن عين الجمهور حادة ولا يسمح لك بإعادة اللقطة، ليست أسماء ممثلة فقط بل درعي ومغفري وقارئتي الأولى وناقدة لاذعة، لذا هي من يسمح لي بالتقدم بشكل سليم.

صورة تجمع بطلات فيلم “نساء الجناح ج” أسماء الحضرمي وجليلة التلمسي وإيمان مشرافي

 

  • هل يساعد المخرج الآخر على معرفة ذاته من خلال الأدوار التي يمنحها له؟

يقود المخرج الممثل لاكتشاف قدرات قد يجهلها لكن العكس يحدث أيضا، فالمخرج له قابلية التعلم ربما أكثر من غيره لأنه يستعمل كل أدوات الآخرين. تسمح العلاقة بين الممثل والمخرج بالتنقيب على قلب الدور ولا تكتفي بالملامح الخارجية، فالمخرج يتابع عملية تأثيث الشخصية ويساهم في غربلة الدور من الحركات التي قد تثقل تأديته.

قد يدفع بالممثل بعدم الاكتفاء بالإلقاء وإنما يتقمص الشخصية إنه يسمح للمثل أن يكتشف طرقا شخصية غير معبدة تسمح باختصار المسافة والوصول إلى التمثيل الأكثر صوابا، ليس المخرج رفيق درب الممثل فقط بل يطمئنه ويسانده.

  • الحجر الصحي الذي تتطور فيه شخصيات فيلم” نساء الجناح ج” يصادف ما يحدث عالميا الآن.

الفرق بين شخصيات الفيلم والوضع الراهن هو أن الشخصيات بالفيلم لا يلتزمن بالبقاء بالمستشفى ويخالفن قانونه الداخلي بالخروج خلسة منه ليلا، يخرجن لأنهن بحاجة لترتيب وضعهن والانتقام من حالات معينة، وخروجهن يعرضنهن كل مرة لخطر ذاتي وخطر وعلى الآخرين، لذا يشعرن بالأمان أكثر داخل المستشفى مثلما نعيش حاليا هذا الحجر الصحي.

 

  • هناك موجة لعرض الأفلام عبر الإنترنت كيف ترى هذا التوجه؟

لقد رفعت الحجاب عن فيلمي الأول “الأندلس حبي”، لكنه فيلم تم استثماره، لكني لا أستطيع إهداء الفيلم الأخير لأن العقد مع المركز الوطني للسينما ومع القناة المغربية الأولى لا يسمح بذلك، لكني لا أرفض إن تم ذلك من خلال منصة عالمية.

  • أتعتقد أننا سندخل في فترة أفلام داخلية تتمحور حور الحجر الصحي فقط؟

يتعود المشاهد بسهولة على مشاهدة الأفلام من منزله، فمن المؤكد أن المنصات التي تبث عالميا ستعرف ازدهارا لا مثيل له غير أني لا أفقد الأمل في قاعات السينما، الأهم أن نحافظ على الرغبة في إنتاج الأفلام.

  • هل ستتجه نحو الإنتاج التلفزيوني لضمانه بثا وتوزيعا مؤكدا، لأن الحجر الصحي قد يتكرر حتى بعد انتهاء هذه الفترة؟

ليس بوسعي التكهن لكنني أبقى متمسكا بحلم السينما أكثر من الشاشة الصغيرة دون رفض استعمالها لكن بعد التوزيع في القاعات.

يُذكر أن محمد نظيف مثّل بين 1995 و2019 في أكثر من 20 فيلما طويلا، وبين عام 1986 و2005 في 14 مسرحية كان في بعض منها المخرج والكاتب. وأسس عام 2008 شركة “أومان للإنتاج” بالمغرب والتي من خلالها أنتج فلمين من إخراجه هما “الأندلس حبي” و “نساء الجناح ج” وكذلك أنتج أفلام مخرجين من فرنسيين كفيلم “الرحل” للمخرج “أوليفي كوسماك” وفيلم “تازكا” للمخرج “جان فيليب غود”.