“أنا لا أصدق نفسي، إنها جائزة الجمهور”.. مخرجة فيلم “إحكيلي” مريان خوري تتحدث للوثائقية

حوار: محمد علال

“أَنا لا أُصدّق نفسي، إنها جائزة الجمهور يا جماعة، أهمّ جائزة في المهرجان”، هكذا صرخت المخرجة والمنتجة المصرية ماريان خوري فوق خشبة المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية، وذلك في ختام فعاليات الدورة الـ41 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي (من 20 وحتى 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2019)، وهي تحمل بين يديها درع “جائزة الجمهور” المُرصّع باسم الناقد المصري والمدير الفني الراحل “يوسف شريف رزق اللّٰه”.

لقد نجحت مريان خوري في دخول المسابقة الرسمية للمهرجان بفيلم تسجيلي موسوم بـ”إحكيلي”، ومنذ إعلان إدارة المهرجان عن القائمة، ظلّت الأنظار مشدودة باتجاه هذه التجربة الوثائقية، وكيف استطاعت الدخول إلى مسابقة شرسة تضم 14 فيلما روائيا طويلا عالميا.

في اليوم الرابع للمهرجان شدّ المئات من عُشّاق الفن السابع الرحال باتجاه قاعات العرض، وذلك لمشاهدة الفيلم الذي استحق عن جدارة “جائزة الجمهور”، وطرح في الوقت نفسه الكثير من الأسئلة حول واقع الفيلم الوثائقي العربي.

في هذا الحوار الذي أجرته “الجزيرة الوثائقية” مع ابنة أُخت المخرج الراحل يوسف شاهين على هامش مشاركتها في المهرجان؛ تحدَّثت عن الأشكال الجديدة التي يأخذها الفيلم الوثائقي، وكيف تجاوز اليوم هذا الأخير حدود النمطية، ولم يعد ذلك الوعاء الذي يحمل كمّاً من الأخبار والتصريحات.

 

  • كيف نشأت فكرة الفيلم، وما هي نقطة التحوّل الجديدة التي جعلت المنتجة تعود إلى عالم الأفلام الوثائقية؟

أتذكر أنني شاهدت منذ 35 عاما فيلما وثائقيا بعنوان “بيروت.. الفيلم المنزلي الأخير” للمخرجة الأمريكية جنيفر فوكس (صدر عام 1987 بالولايات المتحدة الأمريكية). تناول العمل قصة “غابي بوستروس” وعائلتها، وعندما شاهدتُ هذا الفيلم شعرتُ بأنني أريد إنجاز عمل على هذا النحو، واستمر الهاجس في بالي لسنوات طويلة، حتى خلال فترة عملي مع المخرج الراحل يوسف شاهين منذ عام 1982 كمنتجة مُنفذّة لثلاثة من أهم أفلامه مع “شركة أفلام مصر العالمية”، وهي “الوداع بونابرت” (1985)، و”إسكندرية كمان” (1990)، و”سكوت حنصور” (2001).

لقد كان العمل مع شاهين بالنسبة لي المدرسة الحقيقية لأنني لم أدرس السينما، لكن تعلمتها بفضله حين أعطاني الفرصة ورافقني ووثق بي ومنحني المسؤولية للعمل معه، ورغم ذلك كانت الأفلام الوثائقية حلمي الدائم، وكنت أشعر بأنني من خلالها أستطيع التعبير.

  • بين إخراج أربع تجارب وثائقية والمشاركة في إنتاج أكثر من عشرين عمل روائي طويل متميز منها أبرز أفلام يوسف شاهين، كيف كان التعامل؟

بعد عشر سنوات من العمل مع كبار المخرجين المصريين، بدأت أعمل في السينما الوثائقية بعد رحلة قمت بها إلى “مهرجان كان”، حينها شاهدت فيلم “البلهاء” للمخرج  الدنماركي لارس فون ترايير، وما شدّ انتباهي هو تقنية التصوير والكاميرا الصغيرة التي تم اعتمادها لإنجاز الفيلم. هنا طرحت السؤال “إلى أي مدى يمكن أن ننجز فيلما بكاميرا صغيرة وبسيطة دون فريق كبير جدا، ثم ننجح ونصل بالفيلم إلى العالمية؟”

هذا هو السؤال الذي كان بداية علاقتي الحقيقية مع إخراج الأفلام الوثائقية، والذي وجدته عالما يمكن أن يتحرر من عبء الإنتاج بفضل كاميرات بسيطة بشرط أن يحسن المخرج استخدامها. فالبداية كانت عام 1999 مع فيلم “زمن لورا”، ثم فيلم “عاشقات السينما” عام 2002، و”ظلال” عام 2010.

عندما أشاهد تلك الأعمال الآن أجد فيها أمرا قريبا جدا من فيلم “إحكيلي” الذي أنجزته عام 2019، ففي أفلامي القديمة كنت أختبئ وراء شخصيات أخرى، ولا أريد الظهور أمام الكاميرا لا “في زمن لورا” ولا “عاشقات السينما”.

  • أفلام السير الذاتية لديها مشكلة بين الحقيقة والخيال، وعادة ما ينتهي المخرج عند حدود الصدام العنيف مع أصحاب القصة الأصلية، كيف تعاملتِ مع الحقيقة في فيلم “”إحكيلي”، وهل نُنجز أفلاما من هذا النوع بطريقة انتقائية لنُجمّل تاريخ العائلة؟

بعد “مهرجان كان السينمائي” سافر يوسف شاهين إلى اليابان وقد طلبت منه أن يقتني لي، نفس نوعية الكاميرا التي استخدمها المخرج الدنماركي “لارس فون ترايير” في تصوير فيلم “البلهاء”، وقد اعتمدتُ على تلك الكاميرا لتسجيل لحظات ولقطات ومشاهد عادية مع أفراد العائلة، قمت بتسجيلها كأرشيف عائلي أحتفظ به كأي شخص، إلى أن جاءت فكرة الفيلم الذي كنت أريد إنجازه عن “أمي” (وهو العنوان الأول للفيلم “إحكيلي”)، لكن لأسباب نفسية لم أستطع إنجاز الفيلم بعد رحيلها، ولم أستطع الاقتراب من المادة المسجلة.

في هذا الفيلم لم أحاول أبدا تجميل تاريخ العائلة، بل إن هناك من شاهد الفيلم وخرج وهو غير سعيد، وذلك لأنه شعر بأن يوسف شاهين في الفيلم يختلف عن الصورة التي رسمها له، لقد وجدوا شاهين جديدا، وهناك من وجد العكس، وجانب من الجمهور خرج سعيدا وانبهر بالجوانب الإنسانية التي ظهرت في الفيلم.

لقد اكتشفت أن السينما التي أحبها هي الأفلام الوثائقية التي تُقدّم الشخصيات على واقعيتهم، إذ تجعلهم الكاميرا يقومون بأدوارهم الطبيعية في الحياة كما هي في أيامهم العادية، لكن الفرق عندما نقوم بتحويل المادة إلى فيلم وثائقي متكامل يكمن في كتابة بنية للسيناريو، وليس سيناريو كامل.

نحن بحاجة لتطوير الشخصيات دائما كما نقوم في الأفلام الروائية، وهو الأمر الذي يجب الانتباه إليه في الأفلام الوثائقية، حيث يكون التحدي “كيف تنجز فيلما روائيا بالشخصيات الحقيقية”.

صورة تجمع مريان خوري مع ابنتها

 

  • المادة الفيلمية كبيرة جدا فهي حصاد سنوات، كيف عملتِ على مونتاج تلك المادة للخروج بفيلم وثائقي جيد؟

بدأت أولا بمرحلة التجميع والتطوير التي أخذت مني فترة ثلاث سنوات، وكانت البداية بترجمة المادة إلى اللغة العربية، وعندما أُصبت بوعكة صحية كان المرض هو مُحفزي لإنجاز الفيلم أكثر، بالإضافة إلى مشاركة ابنتي في العمل كشخصية محورية.

حاولت أن أنقل تلك الأجواء، وطبعا لأن علاقة أي أم بابنتها يسودها الودّ؛ فإن هذا ما جعل الحوار جيدا وصادقا يكسر الحدود دون تحضير ودون سيناريو مُفصل ودون حواجز، وهو ما ساعد الفيلم الوثائقي لكي يتعمق في الشخصية بشكل تلقائي، فمن خلال الحديث نحلّ المشاكل ونناقش المواضيع.

  • لماذا جاء الفيلم على شكل يشبه فيلم اعترافات حول تاريخ العائلة، وعلاقتها بمئة عام من السينما المصرية؟

ليست اعترافات لكنها غوص في الأرشيف عبر الزمن، وفهمٌ للشخصيات الموجودة التي كانت محيطة بي، مع الأخذ بعيد الاعتبار المسافة التي تفصل بين وقت تسجيل المادة الفيلمية وزمن إنجاز العمل والمونتاج.

عندما قرّر يوسف شاهين منحي مجموعة هامّة من أرشيف العائلة المُصوّر؛ شعرت بأنني أُرغمت فعلا على إنجاز فيلم وثائقي، لكنه لم يكن مقتنعا بالفكرة، فقد كانت له وجهة نظرة مختلفة -وربما حازمة جدا- تجاه فكرة الأفلام الوثائقية من هذا النوع، فهو كان يقول “الفيلم الوثائقي منطقة شائكة، ودائما ستواجهين فيه صعوبات ومشاكل”.

لم يكن شاهين متحمسا للموضوع، ولم يكن يشجعني على إنجاز الفيلم لكن إحساسي وصله، وكان يعلم أنني أريد إنجاز فيلم عن أخته التي هي والدتي.

صورة ليوسف شاهين

 

  • هناك مقولة يُرددها أبرز صُنّاع الأفلام الوثائقية تقول إن “الإنسان بمجرد أن يقف أمام الكاميرا يتحوّل إلى ممثل حتى لو كان الفيلم وثائقيا”، فما هو أسلوبك للتحرّر من تلك القاعدة؟

أريد التحرّر من الطريق القديمة في إنجاز الأفلام الوثائقية، وفي اعتقادي أن هذه الأفلام لا يجب أن تُنجز بالطرق الكلاسيكية من ناحية السرد، وإلا أصبحت “أفلاما معلوماتية”.

هنا الفرق في الموجة الجديدة التي تركز على تقديم أفلام وثائقية حقيقية لأشخاص يقومون بأدوارهم الحقيقية في الحياة، وهو ما ستجده في فيلم “إحكيلي”، فكل شخصية من أفراد العائلة لها حضور أمام الكاميرا تجعلك تشعر أنه يُمثّل، لكنه في الحقيقة ليس كذلك، وهو ما يجب الانتباه إليه، والمخرج الذكي هو مَنْ يستطيع أن يُفجر تلك الطاقة أمام الكاميرا دون أن يقوم بتدريب الشخصيات، أو التعامل معهم كممثلين محترفين.

  • ماذا عن حضور يوسف شاهين في الفيلم، كيف تعاملتِ معه؟

حضور يوسف شاهين مثل حضور باقي الشخصيات، فقد حرصت على أن لا يطغى على الفيلم كي لا يتحول العمل إلى عمل عنه، فأنا لم أنجز فيلما عن يوسف شاهين، وهذا الأمر احتاج عامين من المونتاج، وقد أنجزت أول نسخة للفيلم عرضتها على 30 شخصا من فئات مختلفة، شباب وناس كبار ومخرجين ومقربين، وأناس لا يعرفوننا من أجل معرفة هذه الجزئية.

لقد حذفت عددا من المشاهد التي كانت تخص يوسف شاهين، كنتُ أشعر أن العمل يجب أن يكون متوازنا بين الشخصيات لإبراز الجوانب الإنسانية، وهو ما جعلني أحكي عن والدي الذي كان يعمل في السينما، وهو شخصية قد لا تكون معروفة بالنسبة للعامة، لكن هي حلقة مهمة جدا، والتحدي هو كيف نقوم بنقل مشاعر مختلفة وحكايات مختلفة في قالب واحد.

أنا مهوسة بالأرشيف وأحبه جدا، وحاليا نحن نفكر بتشييد متحف لأرشيف يوسف شاهين يستفيد منه أي شخص، وهذا المتحف سيكون في القاهرة، لأن المادة الأرشيفية في النهاية طَيِّعة، وكل مخرج بإمكانه أن يقدم عملا مختلفا من المادة الأرشيفية نفسها.

ماريان خوري فوق خشبة المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية وهي تحمل بين يديها درع “جائزة الجمهور”

 

  • ما رأيكِ في واقع الفيلم الوثائقي في مصر مقارنة بالفيلم الروائي؟

الأفلام الوثائقية صعبة جدا، وهذا ما ألمسه في أقرب المقربين منّي على غرار شقيقي المنتج “جابي خوري” الذي لم يقتنع إلى الآن بأنني أنجز أفلاما، فبالنسبة له الفيلم الوثائقي غير مربح، وبالنسبة لي فهي سينما جيدة أحبها لأنها تقدم شيئا مختلفا تماما، أما بالنسبة لجابي فالوثائقي ليس السينما التي يريد العمل فيها، وهي سينما غير تجارية وصعبة الإنجاز وتحتاج إلى وقت طويل، وبالنسبة لي هي سينما يمكن لعدد كبير جدا من السينمائيين أن يعملوا فيها، لكن بشرط أن يقعوا في حبها، ويراهنوا على كسر القوالب القديمة المعروفة في تصميم الأفلام الوثائقية، وذلك كي لا تصبح أفلاما معلوماتية فقط.

بشكل عام يمكن القول إن السينما المصرية تُعاني من أزمة عنيفة جدا، رغم أن السينما التجارية لا تزال حاضرة بفضل الجمهور، لكن بالنسبة للسينما المستقلة والوثائقية فهي تُعاني أكثر، لأنه لا يوجد دعم حقيقي لأصحاب مشاريع الفيلم الأولى، وهذا الأمر لن يتغير إلا من خلال الدعم أو التمويل عن طريق أشكال أخرى، فحتى الإنتاج المشترك لن يحلّ الأزمة، بينما صناديق الدعم الأجنبية من الصعب الحصول على دعم منها.

لقد كانت لي تجربة فريدة مع صندوق الدعم الفرنسي “سي أن سي”، والذي موّل جزءا من إنتاج فيلمي الوثائقي “ظلال”، وكان الأمر شاقّا جدا وغير سهل، لهذا قررت أن لا أعتمد على أي دعم لإنتاج فيلم “إحكيلي”.