الفنانة التونسية غالية بن علي تحاور الوثائقية عن رحلة الميكروفون والكاميرا

حوار: بلال المازني

في العام 1988، فتح مسرح أماديوس في بروكسل أبوابه على مصراعيه لتصعد على ركن منه الفنانة التونسية غالية بن علي لأول مرة

في العام 1988، فتح مسرح أماديوس في بروكسل أبوابه على مصراعيه لتصعد على ركن منه الفنانة التونسية غالية بن علي لأول مرة، ولم تكن قد تجاوزت حينها العشرين عاما. ففي تلك السنة غادرت تونس موطنها الأصلي الذي كان يعيش بوادر رياح تغيير سياسي بعد قرابة عام من انقلاب الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي على الحبيب بورقيبة، لكن رياحا أخرى حملت غالية لتقرر الاستقرار في بروكسل حيث ولدت، وتنشر ما خزنته طيلة أكثر من عقد من الزمن وذلك خلال استقرارها بالجنوب التونسي من أنماط موسيقية وشعرية محلية وموسيقى من مشرق العالم ومغربه.

كانت غالية بن علي غجرية بحق، ولم يكن مظهرها أو رقصها يوحي وحده بذلك، فصوتها حمل أيضا مزيجا من موسيقى التانغو والموسيقى الفرنسية والهندية والسورية والعراقية والمصرية. لكن الفن إذا تلّبس الإنسان فإنه يتملكه، ويتجلّى فيه كل مرة بحال، وأحوال الفن وحالاته عند غالية بن علي كثيرة، فهي الغجرية الراقصة والحكواتية والخياطة والمصممة والكاتبة.

ورغم أن جمهور غالية يعرفها مغنية بالدرجة الأولى، إلا أنها كلما ظهرت على الشاشة كممثلة خطفت الأنظار إليها، وتألقت في أدوارها بشهادة النقاد والجمهور. إنها رحلة فنية ثرية تواكب “الجزيرة الوثائقية” أطوارها مع غالية بن علي في الحوار التالي:

غالية بن علي: المشوار الفني دائما ما يبدأ من العائلة، هي تلك البيئة الخصبة التي تُعلّم الإنسان أبجديات الفن

  • يبدو أنه من الصعب أن نصنف غالية بن علي في خانة فنية بعينها بعد ثراء التجربة التي قدمتها كمغنية وراقصة وممثلة، كيف بدأ المشوار الفني وكيف كانت فيه كل هذه الروافد والتشعبات؟

المشوار الفني دائما ما يبدأ من العائلة، هي تلك البيئة الخصبة التي تُعلّم الإنسان أبجديات الفن وكيف يرى العالم والطبيعة، خاصة إذا ترعرعت في منطقة مثل جرجيس في الجنوب التونسي المليئة بالألوان وصنوف الفن والشعر والغناء، فهناك بدأت تجليات الفن الأولى وخاصة الغناء، إذ كنت متيمة بأم كلثوم وكنت من متابعي قرّاء القرآن الكريم مثل عبد الباسط والطبلاوي.

بعد انتقالي وإقامتي في بلجيكا لإتمام الدراسة وجدتُ البيئة المناسبة على احتراف الغناء، وسجلت ألبومي الأول “هريسة” في العام 2000 مع فرقة تمنا.، وفي العام 2001 بدأت في مشروع كوريغرافي (فن تدوين حركات الرقص) حول الرقص الشرقي في القرن الماضي، وبدأت التجربة تتسع إلى أن قمت بتسجيل ألبوم في سنة 2007 بطلب من الراديو الوطني البلجيكي مع العازف الكبير بيرت كورنيلز، وفي هذا الألبوم تمتزج الموسيقى العربية بالموسيقى التقليدية الهندية. ولا يمكن هنا أن أنكر الدور الذي لعبته الموسيقى في دخولي عالم التمثيل، خاصة أن الحفلات العديدة والركح أمام الجمهور بدأ يصنع في داخلي موهبة التمثيل والوقوف أمام الكاميرا.

من هناك لعبتُ دور مريم في فيلم موسم الرجال لمفيدة التلاتلي في العام 1999، كما لعبتُ في العام 2001 دور راقصة في فيلم سوينغ للمخرج العالمي الكبير توني جاتليف، تلتها تجربة متميزة مع فيلم “على حلة عيني” للمخرجة ليلى بوزيد والحائز على التانيت البرونزي والمهر الذهبي.

 

  • يبدو أن التجربة السينمائية تكللت أخيرا بفيلم “فتوى” لمحمود بن محمود، والذي حصل على التانيت الذهبي كأفضل فيلم طويل، كيف كانت هذه التجربة؟

أنا في العادة لا أحب الأفلام كثيرا، وذلك لأنني لست ممثلة بالأساس، وكل الأدوار التي قمت بها جاءتني بالصدفة، ودائما ما تراودني فكرة أنني لن أقبل الدور في البداية، لكن في كل مرة يكون هناك سبب قوي يجعلني أقبل الدور، فمع محمود بن محمود قبلت الدور من دون أن أقرأ السيناريو، لأنني في الأصل كنت أحب أن أقضي الوقت معه نتناقش لساعات في الفن، وهو شخصية جميلة أحبها وأحترمها، كما أنه موسوعة في ميادين كثيرة، وقبلت أداء الدور في الفيلم لا لشيء إلا لأن أشاركه الفيلم وكواليسه. فوز الفيلم بالتانيت الذهبي منحني شحنة أخرى للتمثيل، رغم أن هناك من وجد أن أفلاما أخرى استحقت التتويج لكنني أحترم موقفهم.

أقولها بصراحة إن السينما التونسية لم تكن بذلك الرواج قبل محمود بن محمود ومفيدة التلاتلي ونوري بوزيد، ولم تكن تصل إلى الناس أصلا، لهذا أحب القدامى في السينما وأعترف بهم كآباء مؤسسين.

فيلم فتوى من الصعب أن تفهمه بسهولة في البداية، ويلزمك بعض الوقت للغوص في الأحداث، فقد شاهدت الفيلم ثلاث مرات في بلجيكا وتونس ومع أناس مختصين وصحفيين وفي كل مرة نكتشف أمرا جديدا؛ وهذا أجمل ما في الفيلم، لهذا أحب الفيلم الذي لا يُفصح عن كل شيء، ويتيح لي كل مرة أن أكتشف فيه شيئا جديدا.

فيلم "فتوى" للمخرج التونسي محمود بن محمود فاز بجائزة التانيت الذهبي لمسابقة الأفلام الروائية الطويلة في الدورة الـ29 من أيام قرطاج السينمائية

  • كيف تقييمين السينما التونسية عربيا وعالميا؟

ترعرعت على السينما المصرية والثقافة المصرية، وذلك لأن مصر فرضت وجودها جنوب تونس؛ المكان الذي عشت فيه طفولتي بأفلامها وإنتاجاتها الثقافية. كانت تونس سينمائيا غائبة وقتها، حتى المسرح لم يكن يصل إلينا للجنوب التونسي. وعندما بدأت السينما التونسية في الانتشار وأصبح هناك إنتاج، كنت وقتها في أوروبا وفرحت كثيرا أن هناك سينما تونسية وأفلاما وحركة، فرائحة بلادي أصبحت تصلني من خلال الشاشة، لكن كنت أعيب على السينما التونسية أنها مهتمة بنقل الصورة التقليدية نوعا ما عن تونس وهي تلك الصورة النمطية المعروفة، لكن الآن السينما في تونس تطورت ونجحت بأن تكون واقعية أكثر مع العديد من المخرجين المتميزين، وأصبحت السينما التونسية اليوم تجعلك فخورا بها، فهي تتحدث بلغة سينمائية جميلة ومفهومة وعالمية، وتتناول قضايا تهم الناس داخل تونس وخارجها.

غالية بن علي: الحضور على المسرح أو الركح والسينما في كل الحالات يجب أن يكون صادقا كثيرا ومن دون أي تكلف أو تصنع

  • كيف ساهم حضورك الركحي في الموسيقى على نحت حضورك أمام الكاميرا؟

الحضور على المسرح أو الركح والسينما في كل الحالات يجب أن يكون صادقا كثيرا ومن دون أي تكلف أو تصنع،  وهذا الصدق في الإحساس برأيي هو مهم جدا في كل شيء نقوم به في المطبخ وفي الشارع وفي المقهى، وفي كل تلك التفاصيل الصغيرة التي نعيشها يوميا، وطبعا على خشبة المسرح أو في دورك في الفيلم أثناء التصوير حتى لا يكون ما تقوم به مصطنعا، لأنه سيظهر على أدائك وأنت تمثل.

وأعتقد أن المشاهد العربي اليوم أصبح من الذكاء ليكون قادرا على تحليل الأداء والغوص في طريقة التمثيل. المسرح يكون أكثر صعوبة لأنك تقف مباشرة أمام الناس، وليس لديك مجال للخطأ أو التراجع، وهنا أعتقد أن الموسيقى والرقص تجعلك تدخل مباشرة في علاقة روحانية أمام الجمهور، وتصقل فيك موهبة الأداء الصادق.

كنت في البداية لا أحب التمثيل لأنني كنت أشعر بأنه كذب وأنك تنتحل شخصية أحد آخر، لكن اكتشفت بعد ذلك أن التمثيل هو استحضار حالات وأمور حصلت معك وأنت تؤديها على المسرح أو أمام الكاميرا، وهذا الاستحضار يجعلك تعيش الدور بصدق.

أنا بطبيعتي أعيش الدور الذي أؤديه أثناء التصوير لدرجة أنني حتى بعد التصوير أظل أعيشه، وصعب جدا أن تظل متقمصا شخصية أحد آخر، فمثلا في فيلم فتوى كنت أتخيل أن ابني قد توفي، وأتخيل كل أحداث الفيلم التي عشتها كل يوم أثناء التصوير وهذه صعبة جدا. فأنا أعتقد أن الفن حالات عديدة كل مرة تتجلى في طريقة، وفي النهاية فإن الموسيقى والسينما هما الحبيبان اللذان لا يفترقان.