المخرج المغربي حكيم بلعباس للوثائقية: “القصص التي أحكيها هي قصص تسكنني”

حاوره: أيوب واوجا

“سأعطيكم ثلاثة أسابيع لتسافروا فيها لمنطقة التصوير، لن تطلعوا على أي سيناريو أو قصة، لديكم فقط عدة تعليمات، وهي أن تكتشفوا المكان وتتشبعوا بهواء المنطقة ومياهها وبالأخص سكانها، وسنلتقي بعد انتهاء المدة، ونقرر هل سنصور الفيلم أم لا”.

كانت هذه التعليمات التي قالها المخرج المغربي حكيم بلعباس لممثلي فيلمه “محاولة فاشلة لتعريف الحب”، والتي ظهرت في المشاهد الأولى من الفيلم. فابن مدينة بوجعد وسط المغرب -الذي يقطن بشيكاغو ويُدرّس السينما بجامعتها- لا يهتم بالسيناريو بقدر ما يهتم بالإنسان وبالتفاصيل، وبنقل المُشاهد لعوالم تغيب عنه.

إن سينما حكيم بلعباس ترتكز على التجريب والنبش في الموروث الثقافي، وذلك من خلال أعمال تنفلت من التصنيف، وترسم لصاحبها مسارا خاصا ولمسة مميزة. وبالرغم من أنه يعيش بشيكاغو، فإن أفلامه ارتبطت بمدينته الصغيرة بوجعد وسكانها، وعن هذا الارتباط بالتفاصيل الصغيرة ورؤيته للسينما كوسيلة للحكي يدور هذا الحوار مع حكيم بلعباس.

مشهد من فيلم “عرق الشتا” للمخرج المغربي حكيم بلعباس

 

  • نلاحظ في أعمالك أنك تهتم بالهامش، وتسلط الضوء على جماليات المنسي والمهمل، ما السبب الذي يجعلك تركز على التفاصيل غير المرئية في المجتمع المغربي؟

لأكون صريحا معك أنا لا أعترف بمفهوم الهامش، وذلك لسبب بسيط، وهو أن اعترافي بالهامش يعني ضمنيا اعترافي بوجود طبقة أخرى معاكسة للهامش تعيش ظروفا أفضل ويدور العالم حولها.

ما هي إذن الشروط التي تجعلك تعتقد أنك لا تنتمي للهامش؟ ما هي أفق تطلعاتك التي بنيت عليها هذا التصنيف؟ رصيدك البنكي؟ لون بشرتك؟ كلنا هامشيون مهما بلغت نفوذنا وممتلكاتنا.

أنا لا أهتم بمسألة المقارنات والتفريق الطبقي، فالهامش بالنسبة لي هو المركز، وبدلا من تصنيف عملي أنه يهتم بالهامش، فإنني أُفضّل أن أقول إنه يهتم بالجانب الإنساني، بمعنى آخر ما يهمني أكثر هو الشرط الإنساني، وأحلام الناس وآمالهم.

حينما يسألني البعض عن السبب الذي يجعل أفلامي تدور حول البسطاء، أتساءل مع ذاتي حول مفهوم البساطة أصلا، فالبساطة بالنسبة لي هي ذلك الوقار الذي أراه في الوالدين وكبار السن، البساطة في هؤلاء الناس هي شموخهم.

لقد أرسلت لك لقطات من فيلمي القادم الذي يدور حول قصص أشخاص يُعتبرون بسطاء بالمفهوم الرائج، هؤلاء الناس عظماء في مفكرتي.

 

  • لا يوجد أبطال في أفلامك، فأنت تصنع أفلاما بلا بطولات، وتتمرد على مفهوم البطل السينمائي، ما سبب هذا الاختيار؟

لقد كرّست السينما مفهوم البطل الذي ينتصر في نهاية الفيلم، لكن بالنسبة لي البطل الحقيقي هو اللابطل. فكرة اللابطل في السينما ظهرت مع الموجة الجديدة التي انطلقت في السينما الفرنسية في الستينيات، وأيضا مع أفلام الواقعية الجديدة.

في أفلام الأخوين “كوين” لا يوجد مفهوم البطل، بل مجرد أشخاص عادين يجدون أنفسهم في ظروف أكبر من قدراتهم، فالمهم في أفلام الأخوين “كوين” هو كيف يتعامل الشخص العادي مع الظروف الصعبة بغضّ النظر عن النهاية، وهذه هي فكرتي أنا أيضا حول مفهوم البطل.

تتكرر معي في المشاهد التي أصورها خارجيا والتي تستوجب وجود ممثلين ثانويين (كومبارس) صراعات مع طاقم التصوير، فالطاقم الذي يعمل معي يستغرب من اهتمامي بتفاصيل هؤلاء الممثلين بذريعة أنهم غير ضروريين في المشهد، لكنني أرى العكس، فأنا دائما أعتقد بأن حكاية الشخص الذي صنّفناه كشخصية ثانوية قد تكون أهم من حكاية شخصيتك الرئيسية.

لذلك فإنني دائما ما أحاول استحضار حقيقة مفادها بأن الجميع بطل قصته وبأننا كلنا نحاول فقط تجاوز يومنا من خلال كفاحاتنا اليومية.

مشهد من فيلم “أشلاء” يظهر فيه والد المخرج حكيم بلعباس وانعكاس المخرج حكيم في المرآة

 

  • يصعب تحديد نوعية أفلامك، فهي مزيج فريد من الوثائقي والروائي، لقد صنعت لنفسك أسلوبا سينمائيا خاصا بك، لماذا تتمرد على الفوارق بين المتخيل والوثائقي؟

ما دمنا تكلمنا عن الواقعية الجديدة في السينما، فإنني أقترح تسمية هذا المصطلح بالحقائق بدلا من الواقعية، فأنا أرى بأن هناك فرقا بين الواقع والحقيقة، فبالنسبة لي الحقيقة أهم، فهي مبنية على وجهات نظر.

كل شيء مُتخيّل، وفي بعض الأحيان أفضل المتخيلات هي اللامتخيلات. إنني أرى بأن القوالب السينمائية تخدعنا لأنها تنمط أفكارنا وتنقص من الحرية الإبداعية.

دعنا نعود لأفلام الأخوين “لوميير” التي نقول إنها أول الأعمال السينمائية في التاريخ، مثلا فيلمهم الذي يصوِّر خروج قطار من المحطة، أو خروج عمال من المعمل، هل هي إذن أعمال وثائقية أم مُتخيلة؟ لا نستطيع الإجابة عن هذا السؤال، وهذا ما أحاول العودة إليه بأفلامي.

بالنسبة لي، لا يهم ما تحكيه لنا في أفلامك بقدر ما يهم كيف تحكي لنا ذلك، يمكنك أن تحكي أي شيء، وبأي طريقة تريد.

 

  • تهتم كاميرتك بالبساطة والروتين اليومي للمغاربة، فكيف إذن تنجح في إدارة الممثل بأفلامك؟ هذا إن كانوا ممثلين في الأصل، فأبطال أفلامك في الغالب لا يمثلون، وإنما يجسدون حياتهم فقط، فكيف تنجح في إقناع أشخاص بسطاء بالظهور أمام الكاميرا؟

هي فقط مسألة ثقة، لأنك لا تتحايل على هؤلاء الناس بغرض استغلالهم، إن أردتُ من شخص أن يُعطيني الفرصة لأحكي قصته، فعلي أن أتقرب منه حتى يتقرب هو الآخر مني.

إن كان الشخص كتابا مفتوحا، فعلي أنا أيضا أن أكون كتابا مفتوحا، هذه هي مُسلّماتي التي لا أتنازل عنها لأنها مسألة أخلاقية، فالثقة هي العامل الأساسي في تعاملي مع الممثلين، سواء أكانوا محترفين أم لا، فأنا لا أتعامل مع الممثل بل أتعامل مع الإنسان.

مثلا في فيلم “عرق الشتا” قرّر الممثل أمين الناجي أن لا يُطالع السيناريو ويكتفي بأن نتحدث معا عن القصة، فوافقت على الأمر لأنني لا يمكن إلا أن أكون سعيدا إن قرر ممثل ما أن يعمل بحدسه أكثر من التزامه بالنص. فأنا علي إقناعه بأن أحسن نوع من التمثيل هو في غياب التمثيل، فتعريفي للتمثيل هو أن يعيش الإنسان حالة حقيقية لظرف مُتخيّل، أن يبحث عن الحقيقة في حدث مُتخيّل.

أرتاح في التعامل مع ممثلين ليسوا محترفين، لأنهم ينصتون بشكل جيد لكون التمثيل تجربة جديدة لهم تجعلهم منبهرين ومتشوقين للاستماع وتلقي التوجيهات، أعتقد بأن جوهر التشخيص هو الإنصات الجيد والتفاعل.

لم يعانِ الممثل أيوب في فيلم “عرق الشتا” من أي صعوبات في التشخيص لأنه كيان حقيقي، أما أنا فقد عانيت في التأقلم معه، فالناس تراه مجرد طفل يعاني من متلازمة داون، لكنه في الأخير بطل الفيلم لأنه صادق وحقيقي.

أما عن إدارة الممثلين بأعمالي فأترك دائما مجالا للصدفة والارتجال، لأنني أعتقد أن الممثل يُعطي أفضل ما لديه عندما تترك له هامشا من الحرية، لا أؤمن بتقييد الأداء بتعليمات محددة، لأنني لا أعلم ما قد يقع إن تركت الممثل يؤدي الشخصية دون قيد.

إن أعدنا تصوير المشهد أكثر من ثلاث مرات دون الوصول لما أريد، فإنني أدرك أن هناك خللا ما وأحاول تداركه، فأفضل أداء للممثل يظهر في المحاولات الأولى لتصوير المشهد، تلك هي الفترة التي يكون فيها الممثل تحت ضغط الدهشة والتوتر. بالنسبة لي، العمل كله يحوم حول إيجاد لحظة الحقيقة في السلوك الإنساني.

المخرج حكيم بلعباس رفقة ممثل فيلم “عرق الشتا” أيوب خلفاوي

 

  • في أفلامك يتكرر اهتمامك برمزية الماء، فهل هذا الاستعمال يخدم حبكة الفيلم أم هو مجاز تبحث به عن قراءات أخرى موازية؟

نحن ككائنات بشرية نتكون من الماء أكثر من أي عنصر آخر، ولدينا دائما ارتباط فطري به، ليس لدي جواب محدد لسؤالك، لأن وجود الماء في أفلامي نابع من ارتباط وجداني به، ولا أبحث من خلال إظهاره أن أُوصل رسالة محددة.

لماذا الماء إذن؟ لأن هناك ارتباطا يمسّ إنسانيتنا بالماء، إن رأيت رضيعا يستحم فسترى أنه لا يقاوم ولا يبكي، ذلك هو الارتباط الذي أتحدث عنه.

 

  • ما دمنا نتحدث عن الرمزيات، نود أن نشير إلى أن أفلامك لا تكاد تخلو من التركيز على المقدسات والتكثيف الرمزي، من خلال تركيزك على اللون الأخضر المرتبط بالأولياء الصالحين والأضرحة، وكذلك طقوس الحناء، وعدة صور بلاغية آخرى تؤسس هويتك السينمائية. فإلى أي مدى تأثرت السينما الخاصة بك بالأساطير، وما هي الدواعي الفنية وراء استعمال العادات والتقاليد المغربية؟

الجميل في التقاليد أنها مرئية، وإن كانت مرئية فهذا يعني بأنها تحمل عدة معاني، ولهذين السببين أهتم بالتقاليد؛ أنها مرئية ولها معنى.

ما دُمتَ ربطتَ اللون الأخضر بالأضرحة، فأنا أجزم لك بأنني لم أفكر في الأمر أبدا من هذا المنطلق، أتذكر أن مديرة تصوير فيلمي “خيط الروح” وهي سيدة أجنبية سألتني إن كنت أعني باللون الأخضر الدين الإسلامي، فقط لأنها ربطت هذا اللون بعلم السعودية. هذه هي السينما، مليئة بالتأويلات والقراءات المرتبطة بخلفية كل فرد.

في فيلمي المقبل الذي يشارك فيه خيّاط الحي الذي ترعرت فيه، هناك مشهد طبع ذاكرة طفولتي وأعدت تجسيده في الفيلم، وهو عن الجلالب التي كان الخياط ينشرها أمام محله لتجف، سألني البعض إن كنت أرمز بذلك للصليب، هذا أمر مضحك لأن الأمر متعلق فقط بجلابيب خياط الحي، لكنه شيء جيد لأنه يفتح عوالم أخرى لدى المتلقي لم تكن تعنيها أنت في فيلمك. أما بالنسبة لمسألة الأساطير، فنحن نستعملها في حياتنا كوسيلة لإمساك المعنى ولتبرير ما لا يمكن تبريره.

 

  • في أعمالك تهتم دوما بالتصوير في مدينتك الأم التي غادرتها مبكرا لدراسة السينما في أمريكا، هل اختيارك التصوير بمدينة “بوجعد” عائد لإحساس داخلي بالذنب تجاه وطنك الأم، وذلك لرحيلك المبكر عنه، فأنت الآن تحاول التعويض؟

بجعد بالنسبة لي هي بمثابة “تشينشيتا” (أكبر استديو تصوير بإيطاليا: Cinecitta) بالنسبة للمخرج “فيديريكو فيلّيني”، إنني أختارها ببساطة كل مرة لأنني أعرف الجميع هناك، وأدرك أنني لن أعاني في التصوير واختيار الأمكنة، لأنني أحفظها وأحفظ سكانها عن ظهر قلب. أتمنى يوما أن أحوّل “بوجعد” إلى أستوديو تصوير عالمي، وذلك لأنها تمتلك كل المقومات لذلك.

أؤمن أيضا أن أي شيء نحكيه يحتوي على لمسة من سيرتنا الذاتية، فالمخرج يحكي قصة واحدة طيلة حياته بطرق متعددة.

 

  • في كل فيلم من أفلامك نجد شيئا من حكيم بلعباس فيه، كأنك تحاول حكي قصتك الشخصية عبر أفلامك، فأين تبدأ حياتك في أعمالك وأين تنتهي؟

القصص التي أحكيها هي قصص تسكنني، ففي كل مرة أحاول التنفيس عن قصة عبر مشاركتها. فنحن لا نستطيع الفرار من سيرتنا الذاتية، رغم قدرتي على تصوير قصص غير مرتبطة بي، وسبق أن قمت بذلك.

أتساءل معك إن كان فيلم “محاولة فاشلة لتعريف الحب” يحتوي على جزء من سيرتي الذاتية، ربما نعم، فشخصية مصطفى في فيلم “علاش البحر” تكرر عبارة “اللهم البحر”، وذلك للتعبير عن سخطه ورغبته في الرحيل، في بعض الأحيان أجد ذاتي في هذه العبارة أيضا.

 

  • تُدرّس حاليا السينما بجامعة شيكاغو، هل تعاني في شرح الأجناس الفيلمية لطلابك وأنت لا تعمل بها، وتحاول ما أمكن التمرد عليها؟

طلبتي ينتمون إلى جنسيات مختلفة، وخلفياتهم العرقية والفكرية تؤثر في أساليبهم، مثلا إن جاءك طالب من أمريكا اللاتينية وهو مُطلع على روايات “غابرييل غارسيا ماركيز” فلن تحتاج معه لإعادة تعريف الأجناس السينمائية.

في التدريس أعتمد على أسلوب خاص يكون فيه الطالب مصدر العملية الدراسية ونقطة انطلاقها، فأول ما نركز عليه هو أن يعرف الطالب حكايته الشخصية أولا، والتفتيش عن ذاته. إذ أطلب منهم البحث عن صورة عالقة في أذهانهم مرتبطة بحياتهم الشخصية، تلك الصورة تكون في الغالب مرتبطة بالطفولة، ومن خلال وصفهم أحاول الربط بينهم وبين أعمال سينمائية عالمية، أي أننا نعكس المعنى التقليدي للتعليم عوض تدريس مادة تاريخ السينما، حيث نترك المجال للبحث عن الذات وإسقاطها على الأعمال السينمائية، ونرى إن كان الطالب سيجد ذاته في أعمال “سكورسيزي” أو “كوستاريكا” أو “كيروساوا” إلخ..