المخرجة التونسية فاطمة الشريف للوثائقية: مال فرنسا ودعاية إسرائيل يعيدان كتابة التاريخ

حاورتها: د. أمــل الجمل

في بيت يجمع بين السينما والفنون والسياسة نشأت، تعترف أن لقاءها بالسينما غير كثيرا في شخصيتها، وكان لقاء جميلا، ربما هذا اللقاء المزدوج الذي عاشته -في حالة تكاد تكون شبه نادرة- هو ما جعلها تهتم بالذاكرة، وقادها لصناعة أفلام وثائقية تُعيد قراءة تاريخها وتاريخ بلدها، ومن ثم جعلها أيضا تدخل في صراعات داخلية وخارجية مع أطراف فرنسية، خصوصا أثناء إخراج فيلمها الوثائقي “تونس.. الذاكرة اليهودية”، فتكشف لنا بوضوح تام -في حوار حصري- كيف تلعب الأموال الفرنسية والمؤسسات الإسرائيلية دورا خطيرا في لعبة إعادة حكي التاريخ وفق أهواء ورغبات أصحاب رأس المال.

إنها المخرجة التونسية فاطمة الشريف التي التقيناها بمناسبة انعقاد الدورة الثالثة لمهرجان “قابس سينما فن” التي انطلقت واختتمت بنجاح كبير رغم التحديات، حين سألتها عن التحدي الأكبر أجابتني بحماس: أن تكون هذه الدورة حضورية، فمهرجان السينما لا يعني فقط عرض أفلام السينما، لكنه لقاءات في الحياة ونقاشات حول فلسفة الحياة، كلنا اتفقنا حول هذه النظرة.

في دورتنا الثانية كنا أول مهرجان عربي أقام دورة افتراضية عام 2020، وبسبب ذلك كانت العلاقة مع جمهور قابس قد انقطعت، وبصفة عامة فإن كثيرا منا في العالم عاشوا في ديارهم محبوسين، أنا شخصيا كنت أجد صعوبة في الخروج من البيت، كنا نحمي أرواحنا، لكن في الوقت نفسه كنا نفقد طعم الحياة، وكان التحدي بالنسبة لنا أن نقيم نوعا من التوازن في ظل كورونا، وأن نتعامل معها بطريقة جدية ومسؤولة، لكن في الوقت نفسه نستعيد طعم الحياة سويا.

 

  • هل كان من السهل اتخاذ قرار أن تكون الدورة الثانية افتراضية، خصوصا أنكم كنتم مهرجانا وليدا، مع ملاحظة أن مهرجانات دولية كبرى، وفي مقدمتها كان السينمائي، ظل يرفض نحو أربعة أشهر أن تُنظم دورته افتراضيا، وذلك قبل أن يخضع للظروف ولاقتراحات رجال السينما وصناعها؟

فاطمة تضحك بسخرية ظريفة: نحن لم نكن نمتلك وقتا كثيرا، فقط قبل المهرجان بثلاث أسابيع انتشرت كورونا، كان الاختيار أن نؤجل المهرجان عدة أشهر، أو نلغيه للعام التالي، لكن ظهر اقتراح تنظيم دورة الافتراضي بعد أسبوع، ترددنا، خصوصا أننا كنا في شهر أبريل/نيسان، وهو مناسب جدا لنا في توقيته، سواء في علاقته بنهاية السنة السينمائية بالدول العربية أو الأجنبية، حتى لا تصبح الأفلام قديمة جدا.

لكن، أيضا لأننا لا نقيم مسابقة للعرض الأول، لذلك عندنا حرية تامة في اختيار الأفلام. الشباب في المهرجان اقترحوا الافتراضي وألحّوا، أنا لم أكن أحبه، لأن مهرجان السينما يعني أن نتعرف على بعض، ونحكي مع بعض عن الأفلام، ونفكر فيها مع بعضنا. بالنسبة لنا هذه الملابسات كانت مهمة جدا لنا، لكن عندما وجدنا منصة عرض اتفقنا معها، ثم جاءت مرحلة النقاش مع موزعي الأفلام، وانطلقنا.

كانت دورة جميلة، وعرفت المهرجان أكثر للجمهور، لكنها لم تساعد على تحقيق اللقاءات مع الجمهور، خصوصا جمهور قابس، فأهل تونس العاصمة هم اللذين شاهدوا وتفاعلوا أكثر.

 

  • بالمهرجان هناك مجموعة متنوعة؛ أنت كمديرة المهرجان، وكذلك سامي تليلي مجال عملكما هو السينما، وإقبال زليلة من عالم النقد، ثم إلى جواركم فاطمة الكيلاني المهتمة أساسا بالفيديو والفنون البصرية، وكأنه لقاء بين مختلف الفنون. فما السبب وراء الجمع بين فن الفيديو والتشكيل والفنون البصرية عموما بمهرجان سينمائي؟

الفيديو والتشكيل والفنون البصرية كانت على جنب، ففي دورة العام الماضي فكرت فاطمة الكيلاني كيف نجعل أقسام المهرجان متعددة ونقترب من بعضنا، تناقشنا وقررنا أن نتيح الفرصة أمام فن الفيديو، حيث كان معنا إقبال زليلة الذي كان لديه خبرة في السينما وتكسير الحدود بين الأنواع الفيلمية، سواء الروائي والوثائقي والتجريبي وغير ذلك.

أيضا أنا وسامي تليلة أفكارنا متقاربة، وتحدثنا مع التحكيم في العام الماضي بأنهم أحرار في منح الجائزة لأي نوع فيلمي بعيدا عن الأفكار التقليدية، وشجعناهم بأن لا يتقيدوا بضرورة منح الجائزة لعمل روائي.

  • هل تلك دعوة لتجاوز الحدود والجدران بين الفنون؟

قرارنا كان له علاقة بأسلوب التفكير وعلاقتنا بالصورة اليوم، فاستهلاك الصورة صار جزءا من واقعنا اليومي على منصات التواصل الاجتماعي، على يوتيوب ونتفليكس وغيرها، ثم صورة نغماتية، هذا يُشعرني بالخوف كثيرا، أراه نوعا من الفاشية التي ليست واضحة، فعندك ملايين الناس يشاهدون نفس الأفلام، حتى لو كانت أفلاما جيدة.

  • إذن، بالمهرجان تريدون إتاحة الفرصة لكافة الأنواع الأخرى؟

هناك 30 شخصا -أو أكثر قليلا- هم الذين يُقررون على مئات الملايين من الناس ماذا يشاهدون؟ وهذا شيء خطير، ولذلك كان لا بد أن نعطي صورة مختلفة، صورة تجعل كل إنسان يحضر للمشاهدة قد يجد روحه في نوع بصري ما، وقد لا يجد نفسه في نوع آخر.

  • هدفكم إذن حرية الاختيار في المشاهدة؟

هذه هي العلاقة التي كنا نحب أن نبنيها مع المشاهد، بعض الصور تُحرّك فيّ أشياء، وقد لا تُحرّك فيك أشياء والعكس، معناها أن كل إنسان يغذي روحه بما يحب.

تقنية الواقع الافتراضي المُستخدمة بصناعة أفلام في مهرجان “قابس سينما فن”

 

  • هل تعتقدين كصانعة أفلام -قبل أن تكوني رئيسة مهرجان قابس سينما فن- أن تقنية أفلام الواقع الافتراضي يمكنها أن تعيد تشكيل مستقبل السينما؟

سؤالك يحتاج رؤية على المدى الطويل لإجابته، لكن مثلا عندنا في مهرجان “قابس سينما فن” طلبة من مدينة قابس يقومون بصناعة أربعة أفلام، حيث تُختار أربعة مشاريع ضمن قسم الواقع الافتراضي، ويمنح أحدهم فقط الجائزة.

في الدورة الأولى لاحظنا أنهم أخرجوا أفلامهم بالأسلوبي الكلاسيكي، فطورناها حتى يستفيدوا من تقنية الواقع الافتراضي وما يسمح به من إمكانيات التعبير، لذلك في الدورة الثانية نظمنا دورة تدريبية في “كتابة تكوين الواقع الافتراضي”، أي قبل أن يبدأوا إخراج مشاريعهم.

في رأيي، إنه نوع من أنواع التعبير المختلفة، لكنه لن يعوض السينما، فالسينما فن شعبي، قالوا التلفزيون سيقضي على السينما، وقالوا المنصات وغيرها، لكن السينما لن يقضي عليها شيء، هناك فقط تعدد، هناك مخرجون أخذوا تقنية الواقع الافتراضي ووظفوها، والمشكلة الأهم في العالم هي توفير الأموال، والسينما تحتاج للكثير من الأموال.

بوستر مهرجان “قابس سينما فن” الذي يٌعقد سنويا في مدينة قابس التونسية

 

  • هل صدى نجاح دورة هذا العام كان كما توقعت؟ أم زاد عليه؟

فاطمة: لست واعية لهذا الصدى.. أخبريني أنت.

التفاعل بين الناس، الحماس الواضح كفريق عمل ليس مجرد حماس عادي، ليس ثم أناس يقولون نحن نصنع تظاهرة وخلاص.. أقصد أنكم لا تؤدون وظيفة أو دورا حتى تقولوا ذلك، أنتم تفعلونه بشكل حقيقي، بإيمان حقيقي. إحساسي بأن هناك محاولات صادقة في أن تصلوا إلى الناس، ترغبون في تنمية وعي الناس في تلك المدينة التي تعيش ظروفا صعبة، مهمومين بأن المدينة تتطور للأحسن، هذا بحد ذاته ينقل عملكم إلى مستوى آخر.

فاطمة: كلامك جميل، لكن كلمة “الصدق” هي أكثر ما يعجبني، حاولنا أن نخدم بصدق، وكون الصدق يصل إليكم فهذا شيء مهم، بالنسبة للجمهور والناس والمدينة، فنحن لا نعمل لأجل أن ننشر الوعي بين الناس، فالمهرجان ليس بالنسبة لنا دورا توعويا، لأننا لا نعتبر أنفسنا الواعيين والناس غير واعيين. نحن فكرتنا أن السينما لعبت وما زالت قادرة على أن تلعب دورا كبيرا.

أنا في لقاءاتي مع المتطوعين قلت لهم: أنا لقائي مع السينما غيّر لي حياتي، وكان لقاء جميلا جدا، ففي السينما تجد نفسك في كثير من الأفلام، كما تقرأ كتابا، فإنه من الممكن أن يكون عندك تساؤلات تلقاها في كتاب أو فيلم، فيُعطيك طريقة تفكير أو يُحيي تساؤلات بداخلك.

لقد عندي حظ كبير في الحياة التي أتاحت لي هذا اللقاء مع السينما ومع الفن، ونعرف أن السياسات الثقافية في تونس لا تسمح ولا تعطي الفرصة للشباب وللناس أن يكون عندهم مثل هذه اللقاءات. هنا يأتي دورنا، أن نُتيح مثل هذه اللقاءات بين الناس وبين الفن والسينما لكي يبدعوا.

مهرجان “قابس سينما فن” الذي عُقد في ظروف استثنائية تمر بها تونس بسبب تزايد حالات كورونا

 

  • كيف كان شعورك عندما جاء قرار إغلاق دور العرض وتوقف عروض المهرجان قبل اليوم الأخير بعد تزايد حالات كورونا في تونس عموما، وظهور بعض الحالات بالمهرجان؟

أنا كفاطمة عشت أوقاتا جميلة، تعرفت على أناس غذوني في الماستر كلاس مثل طارق تقية، كان وقته مهما، وسيظل معي، وبه جُمل ستظل وتبقى معي، من أجل هذا نصنع مهرجان قابس، ليس من أجل العرض الأول أو البريمير، ننظمه لأجل هذه اللقاءات الحقيقية، أثناءه يغذي بعضنا بعضا ونمارس التفكير مع بعضنا، ونمنح وقت للتعارف فيما بيننا.

كنت ممتلئة بكل هذا ثم جاءت المعلومة قبل اليوم الأخير بالإغلاق.. كان أكثر خوفي على الناس، فمثلا حتى لما قالوا نُغلق القاعات، وافقت، ولم أحاول حتى مناقشة القرار. لأننا فيما مضى عشنا أوقاتا جميلة، ولا بد أن نتعايش مع الكورونا. لكن لما اطمأننت على الناس الموجودة معنا والضيوف، وعرفت أن الإصابات محدودة وفي مجموعة واحدة، هنا بدأت أفيق وأفكر في أن لا ننهي المهرجان عند هذا الحد، ونترك التحكيم يُكمل مهمته ونعلن الجوائز بطريقة بسيطة ومن دون حفل الختام.

  • ما هي أحلامك للدورة الجديدة؟

أحلامي بسيطة جدا، أول شيء الاحتفاظ بالفريق نفسه، هذا الفريق أعتبره الجوهرة، فما يهمني هو العلاقة بين الناس وبعضها. الكل والمنظمون والفنانون. بالأمس كان الظروف صعبة علينا بصدور قرار الإغلاق خوفا من تفشي الحالات، وأنا عشت هذه التجربة في أماكن أخرى، أقصد الاختلاف والتفرق. لكن هنا لم يحدث، الحمد لله خمسة وخميسة.. كان فيه تضامن كبير بيننا، فالاحتفاظ بالفريق أهم شيء بالنسبة لي، الناس أحيانا تروح على مشاريع أخرى، ولا تخدم بذات المهرجان كل سنة، أحيانا.

الأمر الثاني هو مدينة قابس وجمهورها، فهذا العام اخترنا موعدا لم يعجبنا البتة، كان الطلبة عندهم امتحانات، وأشياء أخرى مثل ارتفاع الرطوبة، كنا مضطرين لذلك، لكن الدورة القادمة أتمنى أن تعود لشهر أبريل ولجمهور أهل قابس.

 

  • أشرت إلى اللقاء الجميل بالسينما، كيف وقع؟

منذ صغري بدأت علاقتي بالسينما، فأبي محمد علي شريف كان منتج سينما، وقبل خمس سنين من عمري لم ألتق بالسينما، بعد ذلك أفقت على فيلم يجري تصويره في تونس، وأبي كان أحد المنتجين لفيلم “القراصنة” (Pirates) للمخرج “رومان بولانسكي”، لقد كان إنتاجا ضخما، والطفلة عمرها خمس سنوات كان بالنسبة لها هذا الأمر كالحلم، تروح من محل الملابس إلى محل الديكور، وتصعد على ظهر السفينة، وأول مرة عملت هناك كنا فوقها، كذلك الالتقاء بالممثلين والفريق.

كل هذا عشته بطريقة ساحرة، ومن وقتها أمي ظلت تُذكرني به، ثم وأنا ذاهبة إلى الجامعة كانت تقول لي “من خمس سنين وأنت تقولي أنا رايحة أعمل سينما، لا تقولي مخرجة، ولا كاميرا، تقولي رايحة أعمل سينما، قعدت لك في ذهنك ما غيرتش رأيك”.

  • أنت لم تدرسي السينما في البداية، وإنما تاريخ الفن في باريس، هل كان هناك جزء بمناهج الدراسة متعلق بالسينما، ولماذا دراسة تاريخ الفنون؟

لا لم يكن بالمنهج أي شيء متعلق بالسينما. كان هذا اقتراح أبي الذي كان عنده علاقة قوية مع الفن، كان يقتني كثيرا من الأشياء الفنية، واللوحات الجميلة، إلى جانب الإنتاج.

هو معروف أكثر بلوحات عن تاريخ تونس، جاءت من الخارج والتوانسة، أبي توفي العام الماضي وكان عنده مشروع عمل متحف، وأختي الآن تواصل الدور الخاص بالمتحف بهذه المجموعة المملوكة له، فعلاقته عميقة بالفنون البصرية، وهو قادم من السينما، حيث قال لي “لو عاوزة تعملي سينما لازم تغذي نظرك، لازم تتعلمي تشوفي، ولأجل ذلك لازم تدرسي تاريخ الفنون”. فالتأثر والبداية جاءت من والدي، ومع مشاهدة الإنتاج الضخم الذي لا يعنيني اليوم نهائيا، بالعكس انظري إلى إنتاجنا المتقشف، حتى اختياراتنا بالمهرجان ليس بها من الإنتاج الضخم، لأنني لست معنية به.

 

  • وماذا عن تأثير والدتك؟

كانت أمي خديجة شريف في رابطة حقوق الإنسان ومناضلة، وكانت في المعارضة زمن بورقيبة وبن علي، وكنت أحضر معها وأنا صغيرة، من هنا أخذت الجانب السياسي والتاريخي والذاكرة، عشتُ أشياء في تونس سواء نجحت أو فشلت، لكن المهم أنني عشتها، منها أشياء لم يعد لها وجود لأن التاريخ لم يعطها مكانها، وهذا جزء أعمل عنه.

  • عملت مساعدة مخرج وتصوير مع روائيين أجانب وعرب، وعملت في التصوير والإضاءة، لكن عندما بدأت الإخراج قررت العمل مع الوثائقي؟ لماذا؟ هل له علاقة بالذاكرة والجزء السياسي بداخلك؟

هو قرار خرج بشكل طبيعي جدا، لم أفكر فيه، حيث اشتغلت مساعدة في التصوير والفوكس، كان سبب اختياري لهذا المحل أن الصورة هي أفضل مكان تجعلني أرى المخرج أثناء عمله.

لم يكن لدي فكرة أن أصبح مديرة تصوير، لكن حتى عندما أقرر البدء في الإخراج أكون قد تغذيت من جميع المخرجين الذين تعاملت معهم، معنى ذلك أنه لم يكن عندي نية أن أكون مديرة تصوير، وعندما قررت بدأت بشكل عفوي، لأن الأموال كانت موجودة، وهناك أناس يعرفونني في باريس، وصديقي -الذي أصبح زوجي اليوم هو منتج، وهو الذي يتولى إنتاج أفلامي- قال لي ذات يوم: هناك إعلان عن ورشة عمل تسعة أشهر وأنت عندك فكرة وثائقي، فلماذا لا تكتبين؟

قلت له: أتخبرني وما زال أمامنا خمسة أيام فقط؟

قال: تعالي نجلس لنكتبه، ولن نفعل شيئا آخر حتى ننتهي منه ونقدمه.

وكان مشروع فيلمي “بنت الدار” مع ثريا التي تعمل في بيتنا مع ماما وبابا، والتي تربطني بها علاقة صداقة لليوم، لكن دائما فيه حدود الطبقة الاجتماعية.

 

  • إذن، اختيارك للوثائقي بسبب الذاكرة؟

في اللاوعي عندي علاقة حميمة جدا مع تونس وذاكرة تونس وتاريخ تونس، ومع تاريخ المعارضة، هناك أشياء عشتها، عندما أفكر في جيلي أجد أن الناس لم تكن لها علاقة بالسياسة، بل كان كثير منهم يقولون: “بن علي هو بن علي، سنعيشه وخلاص” أنا لم أكن هكذا.

كنت أعود لدارنا فأجد فيه عشاء واجتماعات، ونقاشات، وحتى عندما كانت تربطني علاقة بشريكي، فكنا حين نقبل بعضنا نخشى استخدام الصورة ضد أمي، وهذا يعني وجود الوعي ووجود الخوف، وهذا كله لعب دورا في تشكيل شخصيتي بطريقة مهمة.

أحد المقابر اليهودية في تونس، والتي لتعود إلى يهود تونس الذين تمتد جذورهم لقرون مضت

 

  • فيلمك الوثائقي الأخير “تونس.. الذاكرة اليهودية”، هو فيلم يحكي عن يهود تونس الذين تمتد جذورهم لقرون مضت والذين لا يتجاوز عددهم حاليا 2000 نسمة يسكن أغلبهم جزيرة جربة.. لكن صناعة هذا الفيلم أدخلتك في تجربة الإنتاج المشترك، وقد نظم مهرجان “قابس سينما فن” مؤتمرا على مدار يومين طرح فيه قضية النظرة الاستشراقية التي قد تتدخل وتؤثر على صناعة الفيلم، خصوصا في ظل التمويل.. فهل عانيت من ذلك؟

بدأت التجربة مع شخص لا أحمل له احتراما على المستوى السياسي والفكري هو “فريديرك ميتران”. جاءني وقال: أتحبي أن تصنعي فيلما عن تاريخ تونس؟

والحقيقة أن الفكرة تعنيني جدا، لكن كان عندي تساؤل عن “فريديرك ميتران”، لأني أعرف أننا سياسيا غير متفاهمين، وأنني لا أحترمه، لذا فكرت كثيرا في الموضوع حتى أعود للصورة وأبحث عن الناس، ثم قلت إن الدكتاتورية هي التي تحكمت في تاريخنا، إضافة إلى بعض البلدان ومنها فرنسا، فمثلا هي التي احتلتنا، وهي التي ما زالت تحكي عليه، وتحكيه بطريقتها.. فأنا واتتني الفرصة أن آخذ هذا المكان وأحكي بطريقتي أنا.. حتى وإن كنت لا أحب التعامل مع “فريديرك ميتران”.

ما يهمني هو المكان الذي سآخذ، خصوصا أنه فيلم عن اليهود، وهم -أي جهة الإنتاج- كانوا يريدون أن يحكوا عنهم بالطريقة التقليدية والصور الشائعة عن اليهود، وكانوا يريدون تعزيز فكرة أن الحداثة في تونس دخلت عن طريق اليهود، وهى فكرة مغالطة تماما، لقد كانوا جزءا من المجتمع التونسي، ولا نستطيع أن نقول أن فئة دينية هي التي جلبت المدنية والحداثة للمجتمع التونسي. هذا الكلام نفسه غير معقول.

في تونس كان يعيش أكثر من مئة ألف يهودي ويهودية، أما اليوم فثمة أقل من 2000

 

  • كيف بدأ النقاش حول الفكرة؟

هو قال إنهم يريدون فيلما عن الثقافة اليهودية، والموسيقى اليهودية، ودورهم في السينما، وأثرهم في المجتمع، فقلت له هذه الفكرة لا تعنيني شخصيا مهما كانت تعجبه، أنا ما يعنيني هو المسألة السياسية والتاريخية، ففي تونس كان هناك أكثر من مئة ألف يهودي ويهودية، أما اليوم فثمة أقل من 2000، اشتغلت عامين أبحث، هو ليس فيلم مؤلف، لكنه فيلم للتلفزيون مُكوّن من مادة أرشيفية ولقاءات، لكن شغلي البحثي والأرشيفي قدّم لي أشياء كثيرة، واكتشفت معه كثيرا من التاريخ لم أكن أعرفه.

  • إذن، هناك تدخلات من الجهات المنتجة منذ بداية طرح الفكرة، فهل تواصل ذلك أثناء العمل؟

شعرت بتدخل من المنتج المتمثل في “تي في 5″ (TV5)، ومركز الصورة، و”فريدريك” وضع ابنه لكنه هو صاحب القرار، ومن كان وراء الفكرة والموضوع. كذلك شعرت إن الصهاينة يسعون لجذب الفيلم إليهم، بينما كان الموضوع تجربة سياسية مهمة بالنسبة لي، كانت فكرتهم أنهم أحضروا مخرجة عربية حتى يستخدموا الصورة النمطية “إنهم أحضروا امرأة عربية”، أي واحدة من أهل البلد لتحكي عنهم.

طبعا فريديرك يُمثل نوعا من السلطة في فرنسا، فله علاقاته مع القنوات التلفزيونية ودوره في تخطيط المشاريع وهكذا، فالسلطة هذه لا أستطيع أنا منازلتها -أو مناطحتها- لأنها أقوى مني، لكن أنا عندي اللعبة كانت واضحة من الدقيقة الأولى، كنت أفهم أنهم يُريدون أن يستغلوني كامرأة عربية فقط، كصورة، وليس لأنهم مقتنعون أو مشغولون بأنني امرأة عربية تُفكر وعندها رأيها وشخصيتها، هذا شيء مختلف.

المعبد اليهودي في تونس

 

  • هل كانت هناك خلافات حول السيناريو؟

حين أنهيت المونتاج الأولي أرسلت لهم الفيلم حتى يُشاهدوا الأرشيف، وانتظرت أن يعودوا إلي حتى أضع التعليق الصوتي على الفيلم، وفجأة اختفت الأخبار منهم، ولم أزل أرسل لهم الإيميلات حتى جاءني الفيلم مع التعليق الصوتي الذي كتبه “فريدريك”. هو الذي كتبه، وغير النص اللي كتبته أنا، ومنها الجزء الذي أحكي فيه عن الاستعمار بألفاظ “الاستعمار الفرنسي”، فقد بدلها هو وكتب “الحماية الفرنسية”.

أيضا بالفيلم كان السبب الأول لرحيل اليهود من تونس هو تخطيط الصهاينة، فاليهود التوانسة الذين خرجوا ذهبوا إلى إسرائيل واشتغلوا هناك، ثم بدأوا يذهبون إلى الدول العربية حتى يستقطبوا اليهود، هذه الحقيقة لم أكن أعرفها، لكنني اكتشفتها أثناء عملي على الفيلم، ففي تاريخ تونس لم يكن هذا معروفا، نحن نعرف أن ذلك وقع في المغرب، لكن ليس في تونس. اكتشفت الحقيقة بعد تدقيق أربع كتب عن هذا الموضوع.

  • هلا أوضحت أكثر كيف تعامل “فريديرك” مع تلك الحقيقة التاريخية؟

من خلال المونتاج يمكنك تمييع القضية، حين نركز أربع عشرة دقيقة علي شيء معناها أن الفكرة تصل أفضل وبقوة، لكنه في وسط الفكرة كان يقوم بوضع صورة عن كيف كان اليهود يعيشون في حلق الواد وأشياء أخرى مما كان يعمل على تمييع القضية، فهو عمل هذا، وغيَّر في المونتاج. كان أول شيء تخاصمنا عليه هو هذا، وقد وصلنا إلى المحامين. لم نصل للقضاء لكن للمحامين.

أحد محلات الجِزارة لليهود في تونس

 

  • كيف تطور الأمر؟

بعد مشاهدتي لما فعل أرسلت له بريدا إلكترونيا أن التعليق الصوتي الذي كتبه غير ممكن، ونحن كنا اتفقنا من أول دقيقة أنني أنا التي سأكتب الفيلم، وذكرته بالبريد “أنه مهم لي أن نعرف أن الفيلم هو لي وليس لك.

لم يقبل “فريدريك” ذلك، وكان عندنا أصدقاء مشتركين اتصلت بهم وأخبرتهم، فرد قائلا: تحمد ربها أنني أعطيتها الفرصة لتخرج فيلما وتكون موجودة.

لقد رد علي بعقلية التعالي هذه، فكان كلامه بالنسبة لي جميلا جدا، لأنه بهذا الأسلوب أعطاني الشجاعة لكي أواصل معركتي بثقة، وهنا تواصلت مع أحد المحامين، والشيء الجميل بالقانون الفرنسي أن الذي كتب الفيلم هو الذي يمتلك الحقوق حتي لو كان العقد غير جيد، فهو بذلك ليس من حقه أن يمثل الفيلم، فهذا كان لصالحي، بعد تواصل المحامين لم أربح كل شيء، غير أن المهم هو أني ربحت قضية التعليق الصوتي، وأما تعبير «الاستعمار الفرنسي» فقد استبدل في المونتاج بتعبير «الحماية الفرنسية»، كما جرى تغيير أيضا فيما يخص شخصيتي جمال عبد الناصر وبورقيبة.

  • ماذا فعل؟

كانت عنده الصورة النمطية الشائعة في العلاقة بشأن المنافسة بين ناصر وبورقيبة، وكيف كان بورقيبة منفتحا على الغرب، خلافا لعبد الناصر. وأيضا قصة أن عبد الناصر هو الذي أخرج كل اليهود من مصر، وهو فيه كلام صحيح، لكن هذه ليست كل الحقيقة، لذلك لا يجب أن تُقال بهذه الطريقة، لأن هذه القضية شديدة التعقيد، وليست بسيطة لكي تُطرح بتلك البساطة التي يطرحها بها “فريديرك”.

ثمة أشياء منها أن عبد الناصر لم يظلم اليهود، وثمة أشياء كان فيها سياسة، معناها كان يجب أن يضع لها إستراتيجيات. القصة معقدة أكثر من هذا، وكان لا بد من مناقشتها بطريقة مختلفة، لذلك أيضا كان من المهم أن أتعرض للمراحل التي مرّ بها اليهود من تونس، المرحلة الأولى وهي خروج اليهود بفعل الصهاينة.

لقطة للباخرة المُحملة بهجرات اليهود

 

  • هل وقع تعديل فيما يخص الخروج بفعل اليهود؟

نعم لقد عدّل فيها بعض الشيء من خلال تلاعب المونتاج، لم يستطع حذفها، لكنها لم تعد بنفس قوة التركيز عليها، في المونتاج الخاص بي كانت أقوى، بينما هو ظل يُدخل أشياء أخرى لتمييع القضية وتشتيت الفكرة، وأنا عرفت فيما بعد أنه فعل الشيء نفسه مع أناس آخرين.

  • وكأن الإنتاج يفرض سطوته وهيمنته؟

حين تتأملين علاقة فرنسا معنا كتونس، وكثقافة عربية وإسلامية، وتتأملين تعاملها مع اليهود؛ ستجدين أن هناك مشكلة، إنها علاقة غير متساوية، إنها منحازة لليهود، وأنا قلت له: لا تحاول أن تجعلني أسقط ما فعلتموه أنتم مع اليهود، وكأن العرب هم الذين فعلوه، العرب تاريخهم بعيد جدا عن ذلك، نعم وقعت مشاكل مع اليهود، ومنها مشكلة فلسطين، لكن لا تحاول أن تلصق بنا تاريخ أوروبا التي قامت بإبادة وقتل ملايين اليهود، فأنت اليوم تحكي لي عن العرب الذين لا يحبون اليهود، وهذا معناه شيء مختلف تماما، أنت في عائلتك أناس خدموا في الجيش الذي قام بالإبادة، وليس في عائلتي نظراؤهم.

إصرار الحبيب بورقيبة على التعليم ثنائي اللغة في تونس

 

  • لكن، عموما هل كان فيلمك مصنوعا بموضوعية؟

هم كانوا يريدون أن تكون القضية العربية تخدم اليهود وتحكي عن الصهاينة، لكنني حاولت أن لا أدافع عن العرب ولا عن اليهود.

في عام 1965 خرج كثير من اليهود من تونس، لأنهم كانوا يعملون مع الفرنسيين، لكن هناك مثال آخر لليهود الذين كانوا يعملون في الحزب الشيوعي، ودخلوا في معارك لاستقلال تونس، هؤلاء كانوا توانسة أحرارا، عملوا أشياء كثيرة لتونس، لكنهم كيهود لم يأخذوا مكانتهم في تونس بسبب أننا عشنا الاستعمار، وكان هناك غل وحقد، من هنا كنت أريد أيضا أن أوضح كيف وقع الظلم على اليهود في تونس.

  • وماذا عن تدخل المؤسسات الإسرائيلية بالفيلم؟

هذه مرحلة أخرى، كانوا يطلبونني من تل أبيب، ويطلبونني من القدس، ويُلحّون بأنه يجب تعديل الفيلم، كثير من الجمعيات أحبوا أن يأخذوا الفيلم، جمعيات يهودية كانت تعمل دعاية إعلامية، وقتها فهمت أنها دعاية إسرائيلية واضحة وممنهجة من الحكومة الإسرائيلية، بمعنى أنهم يريدون أن يضعوا رحيل الفلسطينيين من فلسطين في نفس الدرجة من رحيل اليهود من البلدان العربية. ومن هنا كان فيلمي مهما لهم كعنصر يستخدمونه في دعايتهم.

المخرجة فاطمة الشريف تتناول التاريخ وكيف أثر على حياتها كمواطنة تونسية وذلك من خلال أفلامها

 

  • وأخيرا، ماذا عن مشاريعك السينمائية المستقبلية؟

لدي مشروع أعمل عليه مع زوجي، كله أرشيف، كله صور، وهو كتاب صور، كلها من ذاكرتي، من تاريخي السياسي.

  • هل نعتبره قراءة شخصية للتاريخ من حياتك أنت؟

أتناول التاريخ وكيف أثر على حياتي كمواطنة تونسية، وعندي تحليل هذا التاريخ الذي أحكي عنه، يعتمد على ذاكرتي أنا. كل هذا حسب ذاكرتي أنا.. لماذا؟

لأن التاريخ والسياسة يؤثران على تكوين الشخص، وأثناء ذلك هناك العلاقة مع الاستعمار والعلاقة الآن مع فرنسا، ثم أتساءل كفرانكفونية كيف يكون الخصام؟

بين سنين الثقافات، بمعنى أنني كنت فخورة بكوني عربية تحكي الفرنسية جيدا، لكن الآن أعيش معضلة أن ثمة ثقافة تُهيمن على الثقافة الأخرى، لدرجة وجود صراع، فأنا أحب ثقافتي العربية لكنني لا أجدها، أشعر بالثقافة الفرنسية طاغية أكثر، سيكون الفيلم نوعا من البحث كي أستعيد الثقافة العربية أو أعثر عليها.