“النسور الصغيرة” تُحلِّق بعيدا

 
أمـل الجمل 
 
    لسنوات كان يبحث عن نفسه، عن عمل يُحبه ويرتبط به. كان الآخرون – ومنهم والده – يصفونه بالكسول الذي لا يحب العمل، ويتهرب من تحمل المسئولية. أوشك على تصديقهم فقد كانت ثقته بنفسه ترتكز على أرض غير راسخة، ربما كان يشعر بها تميد من تحت قدميه أحياناً. لم يكن راضياً عن نفسه أو عن حياته، أو عن والديه، كان يشعر بأنه يستحق حياة أفضل ووالدين آخرين، وهو ما يفسر لماذا كان يُنقب في حياة أصدقائه وعلاقتهم بآبائهم. 
    هكذا بوضوح وثقة يُقدم محمد رشاد نفسه في أول تجاربه الوثائقية “النسور الصغيرة”، بجرأة يحكي عن أخطائه، عن عيوبه من وجهة نظره. ينتقد نفسه، يكسر الحواجز بينه وبين والده بعد أن كان كليهما غير راض عن الآخر، يستدعي من الطفولة مشهداً مع الأب ظل محفوراً في ذاكرته بسب الإحساس السلبي الذي تركه، أخذ يقارن بينه وبين الآخرين بشكل صريح أحياناً وبصورة متوارية أحياناً أخرى، ليس بهدف إظهار نفسه لكن بحثاً عنها وتنقيباً فيها، وأثناء تلك المحاولة يلجأ إلى خيارات فنية بعينها، ويبتكر لغة بصرية لها دلالتها وخصوصيتها.
 
   مع ذلك، ورغم ما سبق، لا يخلو عمله من بعض نقاط التي قد تؤخذ عليه، لكن اللافت في الأمر أنه أثناء مناقشته لن يظلّ متشبثا بخياراته، لن يدافع عنها بعند واستماتة، ستجده يُنصت إلى وجهة نظرك بعقل مفتوح، يتقبل الحوار والنقد، يشرح وجهة نظره في تلك الخيارات، والصعوبات التي واجهته. كان هذا انطباعي الأول عن المخرج الشاب محمد رشاد – أحد مؤسسي شركة الإنتاج السينمائي المستقل “حصالة” التي أنتجت فيلم “الخروج للنهار” – عندما التقيته لأبدأ معه حواراً للجزيرة الوثائقية عقب مشاهدة فيلمه “النسور الصغيرة” في عرضه العالمي الأول بمهرجان دبي السينمائي الدولي الثالث عشر ضمن مسابقة المهر الطويل، ولأٌدرك لماذا تحمست له المخرجة الجسورة هالة لطفي فاتخذت قرارها بإنتاج الفيلم .. 
 
– طبعا فيلمك فيه جرأة، لكن لماذا لم تخطو أبعد من ذلك، وتحفر أكثر فيما يخص العلاقات؟ 
 بالنسبة لي أنا قلت ما أستطيع أن أقوله، لأني، فعلا، لا أعرف شيئاً بيني وبين والدي أبعد من هذا يُمكن أن أقوله.. ربما عندي أشياء أبعد من ذلك، لكن ما بيني وبين أبي أعتقد أنى وصلت لآخره.. بالنسبة للشخصيات الأخرى؛ أنا كنت أحاول “أنكشهم” وأعتقد أني استخرجت منهم ما يكفي.. أعتقد، وأكيد هناك جزء منهم مخفي، فهم مثلهم مثل أي شخص يتم تصويره يخفون شيئاً، أكيد لأنه مهما حصل، ومهما الإنسان قام بالبوح أعتقد سيظل فيه جزء لا يُخبره، ولا يحكي عنه. لكن بالنسبة للشخصيات كان هناك درجات، أعتقد أن بعض الشخصيات قالت أكتر من شخصيات أخرى، هناك شخصيات اعترفت أكثر. 
 
– الآباء كانوا أكتر قدرة على البوح؟
الآباء كانوا أكثر قدرة على العطاء ..
 
 
– شعرت أنهم كانوا أكثر قدرة على البوح بسبب إحساس بالذنب يتملكهم، وكأن لديهم رغبة في التحرر والتخلص من هذا الإحساس بالتطهر منه. 
ولأن الإنسان لما يصل لمرحله متقدمة من العمر – أعتقد في رأيي أنه – يشعر وكأن الأمر لم يعد مهماً، ولم يعد يفرق معه مسألة الكتمان من عدمها. إضافة لما سبق وذكرت؛ أن هناك إحساس أو رغبة لدي بعض الشخصيات في أن تقول وتخلص، فأحد الشخصيات كان يقول: “أنا لازم أعترف بده  دلوقتى” أثناء حديثه عن إحساس بندم فيقول: “ودى أول مرة أقولها.. والواحد لازم يعترف بده”.. فيمكن هناك حاجات لم تُقل، والسبب كما أعتقد إن كل فيلم فيه شخصيات تقف أمام الكاميرا تُحاول أن تقول شيئاً وتُخفي شيئاً.
 
– أنت لكي تستخرج أشياء أو حاجات كثيرة من أعماق أي إنسان لابد أن تقترب منه لفترة طويله حتى تلتقط أشياء وتفاصيل لها دلالتها، ثم أثناء الحوار معه تستخدم بعضها أو كلها لتفتح له باب للحكي، أو تستفزه للحكي وكأنك تحفر للداخل عميقاً، فُتخرج منه الأشياء المدفونة… فأنت اقتربت منهم إلى أي حد، وما طول الفترة؟ 
تقصدي الأبناء ولا الكبار؟
 
– الأولاد، لأن الآباء قالوا قدراً كافياً ومُرضياً من المكاشفة ..
بسام تقريبا بدأت التصوير معه من سنة 2012، رغم إني لم أُوظف بالفيلم إلا التصوير الأخير. سلمى لم أصور معها كثيراً مثل بسام. كنت أقترب منها خارج الفيلم ضمن شلة الأصدقاء، لكني كنت جزء من ذلك، كنت أرغب في أن أظل محتفظ بالمسافة بيني وبين سلمى حتى أستطيع أن أقول لها أنى كنت أتوتر منها بهذا الشكل وأن تظل هذه المسافة موجودة بيني وبينها وقت التصوير.
 
– لكن هل تعتقد أن هذه المسافة كانت لصالح الفيلم؟! فأنا شخصياً شعرت بتلك المسافة ليس فقط في الصورة ولكن أيضاً فى التعبير، بمعنى أنني شعرت بوجود مسافه بينكما وأنك لم تكن قريباً منها، وبتالي لم تكسر الحاجز بينك وبينها حتى تستطيع أن تستخرج معظم ما بداخلها فيما يخص علاقتها بوالدها والذي قد يُفيد الفيلم.  
ممكن يكون عندك حق في بعض الأشياء، ولا أريد أن أكون الشخص الذى يدافع عن فيلمه طوال الوقت، أُريد أن امتلك القدرة على تقبل النقد، ولا أريد أن أكون شخص عنيد، لأنه في النهاية – وطول الوقت – يواجه المخرج اختيارات فنيه متعددة، والاختيار يعني بالضرورة خسارة شيء آخر، لذا كنت حريص على أن أحافظ على المسافة بيني وبين سلمى حتى أبنى جزء من علاقتي بها؛ ربما أكون في سبيل هذا قد خسرت شيء آخر، والعكس صحيح، إضافة إلى أنني لم أكن أريد أن أستفز أحداً لكي يقول ويحكي، وأيضاً في رأيي أن الشخص لما يُهزم يُصبح أكتر قدرة، أكتر حبا، أو أكثر رغبه أن يقول ويعترف أنه هُزم مثلما فعل الآباء، وهذا جعلهم مفتوحين أكتر ناحيه الاعتراف. لكن حين يعيش الشخص في مرحله أنه سيهزم يبدأ في المكابرة.  
 
– لو كنت كسرت هذه المسافة وقربت أكتر من سلمى هل كان هذا سيمنعك إنك تخبرها بإنك كنت تشعر بالتوتر منها؟! في تقديري أنه ربما وقتها كان الاعتراف سيتم بطريقة أكتر سهوله، أو ربما هناك شيئاً لم أفهمه؟!
لأنه حتى تلك اللحظة من تصوير الفيلم كنت أتوتر منها، طبعاً الآن نحن أصدقاء أكتر.
 
 
– لكنك بالفيلم أخبرتها أنك لم تعد تشعر بالتوتر منها؟! 
  صحيح، لكن في نبرة صوتي لايزال هناك شيء مختلف عن باقي الفيلم، واضح جدا التردد الذي أقول به الكلمات، واضح جداً إننا لايزال هناك حواجز لم نكسرها بشكل كامل، لدرجه أني لما كنت أقف أمامها وأتكلم معها حتى تلك اللحظة من التصوير كنت أشعر أنها أقوى منى وهذا كان واضح في أدائي الصوتي وأنا أخبرها به، هكذا أعتقد. 
 
– طبعا كان واضح، وواضح أيضاً في أسلوب التصوير فأنت أولا وضعت الكاميرا على مسافه بينك وبينها، وثانيا زاوية الكاميرا أثناء التصوير كانت منخفضة قليلاً كأنك لازلت تتطلع إليهما، وأنهما بالنسبة لك في مرتبة ليست متساوية معك. 
بالضبط.. هذه هي اختياراتي..
 
لكن الغريب أنك التزمت بهذا الأسلوب حتى النهاية، حتى اللقطة الأخيرة لبسام بقيت الكاميرا في نفس الوضعية.. فهل أنت في آخر الفيلم لم تشعر بأنك متساوي معهما، فعلاقة كل منهما بوالديه لم تكن كما كانت في خيالك، وهى في تقديري تعاني ارتباكات وتوتراً لا يقل عن ارتباك علاقتك بولدك فلماذا لم تُعدل من زاوية التصوير قرب نهاية الفيلم، حتى لو اضطررت لإعادة التصوير، أم أنك لم تكن مقتنع أنكم أصبحت على نفس المستوى؟!
 أصل أنا جزء من الفيلم، فلا أستطيع أن أُخرج نفسى أو إحساسي منه.   
 
 ألم تشعر بأنك تصالحت مع نفسك بعد الفيلم؟! 
والله، أنا كنت متخيل إني تصالحت. أعتقد إن الاعتراف كاملا يجعل الإنسان يتصالح، فأنا أعتقد ان نهاية الفيلم ليست التصوير، حقيقي والله، نهاية الفيلم عندما يراه الناس وحينها لا يهم شيء آخر، فالعملية تكتمل بعرضها، فانتهاء التصوير لا يعني نقطة ومن أول السطر.
 
 طبيعي، بدليل أنك طرحت على بسام سؤال عن الهزيمة وعن إمكانية أن يحاكمكم أو يُقيمكم أبنائكم في المستقبل؟
طبعا وهذا ما أفترضه أننا وصلنا لمرحله – أنا وهما – ونقطه واحدة، أننا مشتركين ونواجه مصير واحد بغض النظر عن كل ما فات، ونحن الثلاثة لدينا رغبه في أن نخلع عباءة الآباء. يمكن بسام أدركه قبلي، لكني أنا أيضاً قلت حان الوقت لكي نخلع العباءة ثم ينتهى المشهد بـ”المانيكان” العاري الذي يتم غسله بالماء، لأني قررت خلع العباءة، ولا أُريد أن أكون ممثلاً، لا أريد أن أعيد السيناريو مرة أخرى، ولست خائف من إعادة سيناريو شخص آخر، لكني أريد أن أخلق السيناريو الخاص بي. هذا كله أثناء التصوير كان في ذهني، ويشكل رؤيتي بنهاية تصويري معهم، لكن ربما ملاحظتك لها علاقه بأني حتى نهاية تصوير الفيلم لم أكن قد تخلصت تماماً من كل شيء، وربما حتى تلك اللحظة لم أتخلص كاملا، ربما. لأن التخلص والتصالح لا يتم بسهوله، صحيح أنا تصالحت مع والدي، لكن حتى الأمس ظللت أتذكر كلمته أنني شخص يهرب من المسئوليات، وأنا ذكرت هذا بالفيلم ضمن الخاطرة الثانية، لكني اكتشفت من ثلاثة أشهر أنني شخص لا يقوم بدور نحو الأسرة فبدأت أقوم بدوري نحوهم  منذ ثلاثة أشهر وذلك برغم أني أنهيت مونتاج الفيلم من قبل هذه الفترة. 
 
– وما هي اللحظة التي فجرت بداخلك هذا الإحساس بالمسئولية؟
 عندما شاهدت أولاد أختي يكبرون وليس لي دور تجاههم، أو في حياتهم، فقلت لنفسي “لو لم يكن لي دور مع بابا أو أخوتي في الفترة الماضية، فلماذا لا يكون لي دور في حياة أولاد أختي، وهذا الشعور مرتبط بالفيلم، لأني اعترفت به وبأني شخص يتهرب من المسئولية فلازم أُقومه، لان التقويم ليس بهذه البساطة.  
 
– أكيد طبعا، الادراك مرحله وإنك تحاول تحقيق وتنفيذ ما أدركت مرحله ثانيه، وقد تنجح وقد لا تنجح.  
ففكرة أنى كنت أبني معهما العلاقة أثناء التصوير وأنا لازلت في مرحله توتر هذا احتمال وارد، ولا أراه عيباً..
 
 
– المشهد الذي اصطحبت فيه والدك لأحد المطاعم أو الكافيهات قرب النهاية، يتضح فيها أيضاً أنه لايزال هناك مسافة بينكما، فلازلت تنظر إليه برهبه رغم أنك لم تكن راضياً بعض الشيء؟ 
أنا كنت طول الفيلم أسمع والدي وهو يجيب على أسئلتي، وهذا المشهد كان أول لحظه وأول يوم أتكلم معه، وليس مجرد الاستماع إليه، فأنا بالفيلم إما أقول شيء على لساني من خلال “التعليق الصوتي”، أو أنُصت إليه،،، 
 
– لا أحيانا كنت تتدخل وتطرح مزيد من الأسئلة في النصف الثاني من الفيلم.
كنت أفعل ذلك حتى أفهم ما يحتاج لإيضاح.
 
– ومع ذلك، الحوار بينكما طوال الفيلم وحتى ما قبل هذا المشهد لم يكن مثل التيار الذي يروح ويجيء، ولكنه أساسا استقبال من والدك، أي أنه يسير في اتجاه واحد تقريباً. 
 تمام. مثل الحكي عن زواجه، حتى بصوت يخلو من المشاعر، فيه حيادية، كنت أرغب في أن أخذ منه، قلت له: أنت لم تحكي لي عنك من قبل، حتى الأشياء التي كنت أعرفها من أمي عنه اتضح أنها لم تكن صحيحة مثل تركه للدراسة وعمله في مهنة كي الملابس في فترة مبكرة من حياته، ويبدو أنها فعلت ذلك خوفاً علينا من اتباع نفس مصيره،، فالمشهد الأخير له هو المشهد الوحيد الذي نجلس فيه ونتحدث سوياً، وأنا أعتبر أن هذه هي البداية لإقامة حوار بيننا والتي تؤكد أن هناك استجابة لإقامة حوار، فأنا أصبحت متصالح مع أشياء كثيرة، وشاهدت تجارب الناس الأخرى، وأدركت أنه ليس من الضروري أن تكون مثل الناس الأخرى، ولو أنت مثلهم ليس من اللازم أو الحتمي أن تكون أفضل منهم، ولو هم مثلك ليس من الضروري أن يكونوا أفضل منك. 
 
– الموضوع له علاقة بالطبقية، والوضع الاجتماعي الاقتصادي، ربما اخترت لذلك هذا المكان تحديداً؟! 
   في الأول كان فيه جزء طبقي في الموضوع، لأنه كان عندي شك وأنا طفل أن هذا المكان رفض أن نجلس فيه بسبب وضعنا، اعتبرونا – العامل وابنه الصغير بمظهرهم – في مستوى أقل من المكان. وأنا أتذكر أني أنا الذي اختار المكان –  طفلاً – وحقيقة أنا لا أعرف يقيناً هل والدي متذكر المشهد أم لا؟ لكن ما كان واضح لي يومها أن الطبقة الفقيرة ليس مسموح لها بدخول هذا المكان، وهنا ظلت بداخلي فكرة أنه عامل يحمل لقب فقير وبالتالي تقبل أن يخرج من دون اعتراض أو إثارة مشاكل. 
 
– طبعا المعنى محسوس في الفيلم وميزته أنه يُقال بشكل غير مباشر. 
لكن أحب أضيف إن المستوى الأقل ليس مقصود بها فقط فكرة الفلوس، لكن كل حاجه على بعضها، فهو عامل مستكين يرضخ للموقف من دون ما يتكلم أو يعترض، من غير ما يقول لي حاجه، أو يوضح لي حاجه. 
 
– إذن الأمر له علاقة أكثر بشخصيه والدك وتحفظك عليها؟! رغم إنه يبدو لي أن والدك نسي هذا الموقف أو أسقطه من ذاكرته. 
  أنا عمري ما قلت له إن فيه مشكله موجودة، لكن في هذا المشهد أنا حكيت عن المشكلة، كان الحوار طويل ولم يكن له علاقه بالمكان فقط، ولكن علاقه بأشياء أخرى، قلت له: “أنت عمرك ما علمتنى العوم، انا مبعرفش أعوم مع إنى اسكندرانى، كل أصحابى آبهاتهم علموهم العوم، أنت معلمتنيش ركوب العجل، مع انك كنت بتعرف تعمل الأثنين؛ كنت بتعوم وبتركب العَجَل.” ورغم الحكي عن حاجات كثيرة اخترت الجزء الذي له علاقه بالمكان لأنه في النهاية له علاقه بأني أول مرة افتح له هو، وليس للجمهور، فكرة عمل جسر أو كوبري لبدء الحوار بيني وبينه وهذه هي خصوصيه المشهد، خصوصيته بالنسبة لي وليس بالنسبة للفيلم.
 
– وأنت حذفت موضوع تعليم ركوب الدراجات والسباحة لأنه لم يكن لها مكان مناسب داخل السياق؟
كان الحوار طويل وكان إحساسي أن هذه ستقول أشياء أكتر من ركوب العجل والعوم.
 
– ولماذا لم تفكر في أن تُضيفها لسياق الخواطر بالفيلم؟
  فكرت طبعا، وكان هناك أشياء كثيرة، وكان هناك جزء له علاقه باسمي واسمه؛ أنا اسمى محمد رشاد، لكن لا أحد يناديني بمحمد، دايما ينادوني برشاد، فأنا طول الوقت يُنادون علي باسم والدي وليس باسمي، وطول فترة صناعة الفيلم كنت مغرم بإضافة هذه الجزئية وكنت مُصر على عدم التضحية بها لفترة طويله، لكن في النهاية لأسباب فنية لن أستطيع قول كل ما أُريد، هناك اختيارات ولابد من التضحية بأشياء من أجل أشياء. 
 
– أنت اشتغلت بصريا بشكل لافت في عدد من المناطق بالفيلم منها الخاتمة والمقدمة وأثناء الانتقال ما بين العالمين، لكن أثناء لقاءات سلمى وبسام ظلت الكاميرا ثابته لفترة طويله جدا رغم إنه في تقديري كان من الممكن أن تشتغل عليها بصرياً بشكل كبير، فلماذا لم تفعل؟
   تعمدت هذا لأكثر من سبب؛ صحيح إن خبرتي ليست كبيرة في مجال الأفلام التسجيلية، فقد شاهدت روائي أكثر، وسمعت آراء كثيرة بشأن الوثائقي، تحديدا فيما يخص ضرورة الابتعاد أو الامتناع عن استخدام التعليق، والحوارات المباشرة التي لا يفضلها الكثيرون ويُصرون أنه إذا أجريت لقاءات مباشرة فلابد من تغطيها بمواد بصرية. لكن أنا لما كرست وقت طويل لمشاهدات تسجيلية اكتشفت وجود أنواع كثيرة ومنها الممنوع، أقصد الأسلوب غير المستحب أو المكروه، وكنت مرتبك فيما يخص الأسلوب المناسب لفيلمي، لكن في النهاية قررت أشتغل بالطريقة التي أحبها.
 
– ولماذا فضلت هذا الأسلوب؟
وجه نظري إن أسوأ شيء في الأفلام التسجيلية إني لا أرى وجه المتحدث، بينما يُركز المخرج الكاميرا على شيء آخر يفعله المتحدث أو المتحدثة، كأن تدق المسمار أو بتركب الموصلات، فأنا ضد أن أشاهدك كيف تتصرف خارج الحوار إلا لو كان لهذه المادة البصرية ضرورة، لأنه أثناء الحوار أو اللقاء لابد من رؤية الوجه لأن تعبيراته تقول أشياء كثيرة، ولذلك كان إصراري على هذا الأسلوب، فما دمت أُكلم شخصيات الفيلم إذن سأُنصت إليهم ولن أنتقل بالكاميرا بعيداً عنهم، أو على أي شيء خارجي، لأن تعبير الوجه والملامح يقول شيء، والصوت يقول شيء، إلا لو كان هناك ضرورة إنى أطلع بالخارج عندما أتحدث عن أمر ما أو فكرة ما لكني أشاهد المتحدث في مكان آخر في تصرف متناقض غير ما يفعله أو يقوله مثلاً.
 
 
– أنا متفقة معك، مع ذلك ففي تقديري إن هذا كان يُمكن تحقيقه لكن ليس لفترات طويلة تظل الكاميرا ثابتة وحيادية، خصوصا أنه كان لديك قدرة على تقديم شغل بصري وهو ما تُثبته مناطق عديدة بالفيلم، ولأنك لم تكن حيادي في بعض مناطق الفيلم، فلماذا التزمت الحيادية أحياناً وتخليت عنها أحياناً أخرى؟ 
بمعنى؟
 
– مثلاً؛ لما كان أحد الآباء يتكلم وبدأ يظهر عليه التأثر، وتظهر في عينيه الدموع، ثم بكى، فتسأله أنت: “طيب نوقف؟”. وأنا في تقديري إنك حسيت إن دي منطقة تأثير عاطفي على الجمهور، ولذلك فأنت بعد هذه الجُملة اقتربت بالكاميرا ودخلت عليه “زووم إن”، ولما قلت له “نوقف؟” لم تتوقف مباشرة رغم أنه أجابك بكلمة: “نوقف” لكنك لم تتوقف مباشرة وكأنك تترك لنا مساحة لنتعاطف مع هذا الأب. 
 
 
 لا.. هذه المساحة من أجل “تكه الكاميرا” وليس من أجل الناس، مجرد ثانيتين. انا وقفت بعدها بثانيتين لأني لست أنا المصور، أنا كان معي مدير تصوير وتنفيذ الطلب استغرق هذه الثواني، وأنا طول الوقت كنت أحاول مراعاة الشخصيات، لم أكن أفعل شيئاً هم غير راغبين فيه، أو قول شيء لم يقولوه أو شيء ضد رغبتهم. ومثلاً لما وظفت أفكار بسام عن ضرورة خلع عباءة الآباء – وهو أمر  كان ضروري بالنسبة لي بالفيلم – كان لابد من توثيق تاريخ الأفكار التي تعود لـعام 2006 ، حتى الكلام الذي قلته بصوتي عن الشخصيات مأخوذ منهم وهم قالوه أثناء التصوير، لكني اُضطررت لذلك لأنه أثناء المونتاج كان صعب فنياً أنقل على “لوكيشن” التصوير مرة أخرى، فلذلك قلته بصوتي ضمن التعليق؛ إن محمود سافر، فقد قال هذا صراحة أمام الكاميرا، إنه ؛ “هاجر إلى أوروبا وكان ينوي أنه رايح ومش راجع تانى.” لكن عموما أيا كان الذي ستفعله بالفيلم الوثائقي سيظل هناك شيء له علاقه بك أنت كمخرج، فأنت لا تُظهر الشخص بقدر ما تُظهر وتقدم نفسك من خلال هذا الشخص، مهما عملت، ومهما حاولت الالتزام بالموضوعية والحيادية، لأنه أنا في الأخر اخترت ثلاث دقائق فقط من عشرين ساعة تصوير، وهذا معناه أنى اخترت فقط ثلاث دقائق من شخصيتك، فهل هذه الثلاث دقائق قادرة على التعبير عن شخصيتك ومواقفك؟! في اعتقادي أن هذه معضلة وأنه أمر يصعب تغييره أثناء صناعة الأفلام الوثائقية. 
 
– نرجع إلى أمرين لهما علاقه بالبناء الفني، لأنك كتبت خاطرة أولى، وخاطرة ثانية، فهل كنت كتبت في البداية نوع من الخواطر ثم اخترت منها أم انك اكتفيت بهما؟
 لا.. الخاطرة الأولى والثانية لم يكن لهما علاقه بموضوع الفيلم، كنت كتبتهما في 2009 ، وهذا كان جزء من اختياري؛ أن تكونا باللغة العربية الفصحى لتمييز الخاطرتين عن باقي التعليق الصوتي المستخدم باللغة العامية، وسبب قراري هو  رغبتي في أن أكون صادق بالفيلم لأبعد درجة، رغم إن كتيرين نصحوني إنى أحولهم إلى العامية.  
 
وأنا كنت متفقة معهم.. لأنه الحقيقة هذا كسر الأسلوب وكان فيه فرق محسوس يأخدني من التركيز بالفيلم.
 أنا لم أشعر أنه كسر الأسلوب.. ويظل الأمر خيارات
 
– طيب أنت لو حولتهما للغة العامية ما الذي كنت ستخسره فنياً؟!
 لسببين؛ بالنسبة لي كنت أُريد التزام الصدق فعلاً وأستخدمهم كما كتبتهم بنفس الألفاظ التي كتبتها في 2009 ، الأمر الثاني إحساسي بإن الخواطر لابد أن تُميز، ولابد أن يُوضع حولها هالة.  
 
– لكن أنت ميزتها بالفعل بالخطوط، بأنك كتبت خاطرة أولى وثانية؟!
صحيح.. لكن كان إحساسي إنهم لابد أن يُميزوا أكثر باللغة، وحسيت إن اللغة العربية  ستصل أكثر. 
 
فيما يتعلق بالصدق ففي رأيي أنه ليست هذه هي النقطة او الجزئية التي يُسأل فيها محمد رشاد هل كان صادقاً أم لا؟
 طبعا.. طبعاً.. هناك أمور أكبر. 
 
– هنا القضية ليست في الصدق، لأنه في النهاية هذا ليس كلام شخص آخر وستقوم بتغيير أفكاره، ولكنه كلامك أنت وأفكارك أنت، وإن كان فيه استثناءات لأنه في بعض الأوقات ممكن تعمل إعادة صياغة لأفكار الأخرين من دون أن يُخل هذا بالمعنى..
أنا متفق معك تماما، ومتفهم رأيك، لكن أنا كان احساسي إني أريد الاحتفاظ  بالخاطرتين كما كتبتهما، وكما شعرت بهما، وهذا كان له علاقة بصدقي أنا وليس بصدق الفيلم، كنت أريد توثيق إحساسي بالضبط.. إضافة إلى التمييز ووضعهم بين قوسين لتكونا مختلفتين عن باقي الحوار فلم تكن اللوحة كافية، كما أن وضع اللوحة كان قرار اُتخذ في المونتاج.
 
– كان ممكن تحذف اللوحة، وكان ممكن تُعيد تسجيل الاثنين لو وجدت إن قرار توظيف اللوحة يكفى، خصوصاً إن الفيلم ليس من الأفلام ذات الميزانيات الضخمة، فإعادة التسجيل الصوتي أو إعادة التصوير لم يكن مكلفاً.. 
لا لا.. كنت أقدر طبعا أعيد التسجيل، لم يكن هناك مشكلة طبعاً في هذا.. لكنها في النهاية جزء من اختياراتي لأسلوب الفيلم.  
 
– أكيد من حقك أن تُجرب، وأن تختبر أفكارك، وأن تُصر عليها طالما كنت مقتنع بها، وأكيد هذا سيساعدك على تطوير نفسك مستقبلاً فأنت مجرد لديه موهبة وخصوصية ونتوقع منه الكثير مستقبلاً، وأيضاً لا يفوتني أن أُحيي جرأتك واعترافك بالخوف أن تكون نسخة من والدك وإن كان هذا لم يقلل من حبك وتقديره له واعتزازك به. 
والله بذلت مجهود كبير مع نفسي لأصل إلى هذه الدرجة من البوح.