الوثائقية تحاور المخرجة النرويجية شارلوت روهدر عن فيلمها “ما بيننا”

حوار: ندى الأزهري

شارلوت روهدر مخرجة وثائقية ومصوّرة ومنتجة، درست السينما والعلوم السياسية الخارجية في جامعة أوسلو، وبدأت بالإخراج عام 2006

جاءت فكرة فيلم “ما بيننا” من وسائل التواصل الاجتماعي التي نتشارك فيها أكثر فأكثر. ولكن، هل تقود هذه المشاركة إلى معرفة أفضل للنفس وللآخرين؟

سؤال قاد شارلوت رودر لإنتاج أول فيلم وثائقي أُنجز كاملا من مقاطع فيديو مُرسلة من أشخاص، فالفكرة اعتمدت مبدأ أن يفتح الأفراد قلوبهم بطريقة مدهشة وبارعة إذا طُلب منهم أن يكونوا أمناء صادقين أمام الكاميرا. وهكذا طلبت المخرجة النرويجية رودر مشاركة الآخرين في صنع فيلمها، وقد وصلها ألف مقطع فيديو جمعتها وولفتها لتشكّل فيلما إنسانيا وشاعريا يدور حول موضوع العلاقات والروابط بين البشر.

شارلوت روهدر مخرجة وثائقية ومصوّرة ومنتجة، درست السينما والعلوم السياسية الخارجية في جامعة أوسلو، وبدأت بالإخراج عام 2006، وأنجزت منذ ذلك الوقت خمسة أفلام وثائقية، حقق بعضها جوائز مثل “اجتماع” الذي نال جائزة الفيلم في النرويج عام 2011.

أما فيلمها الأخير “ما بيننا” فعرض في مهرجانات عدة كان آخرها مهرجان دكا السينمائي الدولي. وفي محاضرة لها عن الفيلم الوثائقي في هذا المهرجان؛ بدا مدى تعلقها بهذا النوع السينمائي وتفضيلها له، فالوثائقي كما تقول “هو الحياة، لا أستوديو، لا مكياج، لا ممثلات.. إنه الواقع”.

التقتها “الجزيرة الوثائقية” في حوار عن نظرتها للوثائقي، وكذلك لمناقشة فكرتها الجديدة التي طبقتها في “ما بيننا”، والتي تتمنى أن تُطبّق في كافة أرجاء العالم.

  • نظرتك للوثائقي فيها الكثير من الحبّ والتفضيل، هل تقصدين تفضيله على الفيلم الروائي؟

ما يعجبني حقا في الوثائقي هو أنني هنا، قريبة من شخصياتي، موجودة معها ومتفاعلة مع أفكارها وأفعالها، حيث أحاول فهمها وإدراك خلفياتها، فأنا أجد أن الفهم الخاطئ لها فيه نوع من المخاطرة. هذا ما يخلق برأيي فنا شديد الأهمية، كونه يعتمد عليّ كإنسانة.

كثيرا ما يثير طلابي معي مسألة ما يجب تصويره وما لا يجب، بمعنى معرفة الحدود التي يجب عدم تجاوزها مع الأشخاص الذين أصورهم، أي الخط الأحمر. الحياة لا تتوقف عن إدهاشي، ففي كل أفلامي يكون السيناريو جاهزا وخطة العمل مرسومة، ثم تأتي الحياة الواقعية لتهبني سحرا لم يكن مخططا له. أحيانا لا يصل خيالي إلى هذه الدرجة من العمق والخيال والإدهاش الكامن في حقيقة كيفية تفكير الناس وحلّهم لمشاكلهم، كم من السحر في هذا، حالات كهذه نصادفها في الوثائقي فقط.

  • أخبرينا عن هذا “الخط الأحمر”، وعن “قيادة” المرأة في صناعة الفيلم الوثائقي.

كأستاذة أناقش مع طلابي مدى أهمية إدراك الخط الأحمر الذي يجب التوقف عنده عن التصوير، هو خطّ قد يصلح لشخص ولا يصلح لآخر. فما هي الإمكانيات المتوفرة لتجاوزه، ومتى يحق لنا الدخول في موضوع ما من عدمه؟

أما عن عمل المرأة في إخراج الوثائقي، فإن فكرة بعض الناس عن طبيعة هذا النوع السينمائي وأساليب صنعه تصيبني بالضيق. فهم يعتقدون بأننا نختار الوثائقي لأنه أهون، إذ ليس على المرأة المخرجة هنا فرض نفسها والتحكم بفريق عمل، هذا ظن خاطئ، فثمة صعوبة خاصة بالوثائقي تفرض نفسها، وتكمن في ضرورة كونه عادلا تجاه الأشخاص المشاركين فيه والقضية التي يطرحها، وهي أن تكون قادرا على تحقيق هذا، فذاك هو الفن.

أيضا المرأة المخرجة ليس عليها أن تصرخ كي تفرض نفسها، بل يجب أن تجد وسيلة للتعامل تجعل مَن يعمل معها يقدمون أفضل ما لديهم، فلن يعطيك الآخرون شيئا إن شعروا بالخشية تجاهك.

شارلوت رودر: الأصل في المشروع العلمي أن يكون صادقا، أي أن تشعر بصدقه

  • بدلا من توثيق الواقع أنتِ توثقين العالم الافتراضي، كيف تمّ العمل على الفيلم؟

الأصل في المشروع العلمي أن يكون صادقا، أي أن تشعر بصدقه. كمخرجة أفكر دوما بما سيقوله شخص ما خارج إطار التصوير، مثلا حين تتحدثين مع صديقة العمر فستكونين أمينة معها ولن تكذبي، فما أفعله هو وثائقي يعتمد التفاعل بين الشخصيات، لذلك طرحت سؤالا على فيسبوك عمّن يود أن يكون جزءا من المشروع، وذلك بالإجابة على سؤال بسيط؛ “كيف كان يومك، وماذا دار في ذهنك اليوم، وهل بإمكانك تصوير هذا؟”، وبالطبع مع سؤالهم إن كانوا يوافقون على وضع ما يرسلونه في فيلم وثائقي. كل هؤلاء الذين ظهروا في الفيلم صوروا أنفسهم وأرسلوا لي ما صوروه.

كان التواصل خلال ثلاثة أشهر عبر البريد الإلكتروني فقط، لقد رغبت بوضع نفسي في حيز آمن، أن أكون غير مرئية. فلم يكن ممكنا صنع هذا الفيلم من عشرين سنة. الآن نحن نتشارك المشاعر أكثر فأكثر، وهؤلاء الناس اختاروا مشاركة الآخرين. ما يهم هنا هو العلاقة مع الآخر، إنه الواقع ولكن في جزء صغير منه..

  • “حيز آمن”.. ماذا تقصدين؟

لو سألتِ أحدا عن حياته هل سيجيب ويتفاعل بسهولة؟ لقد أردنا أن نكون واضحين وجديين منذ البداية، وقررت أخذ المخاطرة والعمل كي لا يستطيع أحد إساءة استعمال الفكرة، لهذا استخدمت فيسبوك لطرحها وشرحها وإطلاع الآخرين على ما يجري فقط، وقمت بمساعدة الصحافة والتلفزيون بالتنقل كثيرا لتوضيح الأمر، فهي فكرة جديدة والمخاطرة فيها كبيرة.

استلمت ألف فيلم؛ بعضه قصير جدا جدا وبعضه طويل، ومن دقيقة إلى ثلاثين. وفي النهاية كان مجموع من انضم للمشروع 380 شخصا. بعض الأفكار جاءت خلال التحضير، فمثلا اكتشفت أن الاقتصار على سؤال “ماذا فعلت اليوم؟” غير كافٍ، كما ظهرت نواقص في الفيلم من نوع غياب مقاطع صُورت في الليل.

لهذا كنت أحيانا أحرص على أفكار أو أشكال من التصوير، مثلا حين أردت إدخال حوار فتاة مع أمها فكرت بأن هذا الحوار سيكون مختلفا لو حكت كل واحدة على حدة معي وليس كحوار بينهما.

شارلوت رودر: استغرقني كتابة السيناريو شهرين بعد وصول كل هذه الساعات المصورة

  • كيف قمت بالمونتاج، وهل سرتِ على خطة من البداية؟

استغرقني كتابة السيناريو شهرين بعد وصول كل هذه الساعات المصورة. فوضعت الأسئلة أولا، ثم كتبت القصة وجمعت الصور على أساسها، وقسمتها بين نهار وليل بالتناوب، إذ كان يجب الشعور بمرور الزمن. لهذا كنت أظهر في الوقت نفسه ما يفعله هذا وما يفعله ذاك بهدف إيجاد حركة وزمن، وكان المهم لدي أن تثير الشخصيات أو شخصية ما فضول المشاهد، وتجعله يتساءل إن كان سيراها فيما بعد، وماذا سيحدث لها؟ فالفيلم ليس عبارة عن تجميع قصص لساعات، إنه قصة تذهب باتجاه معين.

  • ما هدفك من فيلم كهذا، وهل تعتقدين أنكِ أضفتِ شيئا إلى مفهوم الوثائقي؟

أظن أن هناك ثورتين في عالمنا المعاصر؛ الأولى هي العولمة والثانية هي الرقمية، وهذا لما لهما من تأثير.

أسميها ثورة لأنها غيرتنا وللأبد، فلن نستطيع العودة عنها ولا نعرف آثارها بعد، فالعالم بات صغيرا ونحن نتحرك أكثر ولا نعرف النتائج بعد كوننا ما زلنا في وسط الفترة.

ثمة أمر مهم جدا لنا اليوم في النرويج، وأعتقد أنه مهم عندنا أكثر من أي مكان آخر في العالم، وهو إمكانية العيش معا بطريقة مختلفة وبثقافات مختلفة، وأن نعرف كيف نتواصل مع بعضنا البعض وكيف نستمع لبعضنا، نسأل نتكلم ونعطي الناس فرصة ثانية.

في السابق كانت الأمور أبسط، واليوم من الضروري تطبيق فكرة كيف نحكي مع أنفسنا عمليا. فأنت أولا شخص مسؤول عن اختياراتك وستكون لها نتائج عليك، إنما كذلك أنت جزء من مجتمع حولك، فهناك الأم والصديق وزميل العمل، فكيف تتعامل معهم؟ إنها معضلة! إذ متى يجب أن أفكر بنفسي ومتى أفكر بالآخر وبعلاقتي معه.

هنا الأمر متعلق كثيرا بمدى فكرتك عن هذا الشخص، فنحن نعمل على أساس أن الفعل يتوافق مع الفكرة، وكي تعيش مع آخرين لا يشبهونك؛ عليك أن تسألهم وتتواصل معهم لتفهم سبب شعورك الأولي نحوهم، حتى إجراء حوار بسيط بين شخصين -مثل “كيف أنت؟” و”إنه يوم جيد”- دالٌ على الكثير.

أردت للناس أن يتحدثوا ويحكوا قصصا تصبح عامة، فحين تتحدث مثلا عن شعور إنسان بالوحدة وهو يدرس، فإن أشخاصا في نفس الحالة سيدركون تماما عمّا تتحدث. أردت لكل شخص أن يعثر في هذه القصص على ما يمثله، ويجد نفسه ومشاعره فيها، فمثلا الرجل الذي كان في السيارة يتحدث وهو مكسور الفؤاد، يشعر بأنه لن يستطيع الاستمرار مع مشكلته، وهو يريد مشاركة الآخرين.. من المهم أن يجد مشاهد ما نفسه في هذه الحالة.

شارلوت رودر: بعد الانتهاء من العمل في الفيلم، أي بعد سنة من البدء فيه؛ عُرض في مهرجان "أوسلو بيكس" التلفزيوني وربح جائزة الجمهور

  • حين تتحدثين عن العيش مع “آخرين لا يشبهونك”، وعن “الفكرة المسبقة عن أشخاص”، و”الثقافة المختلفة”، هل تقصدين أيضا اللاجئين في النرويج مثلا؟

نعم، وكذلك العمال خارج بلدهم وغيرهم. هذا مهم في النرويج أكثر منه في بلد كبنغلاديش مثلا (حيث أجرينا اللقاء)، لعلها طريقة غربية في رؤية الأشياء.

  • كيف كان رد فعل الجمهور في النرويج بعد عرض الفيلم؟

بعد الانتهاء من العمل في الفيلم، أي بعد سنة من البدء فيه؛ عُرض في مهرجان “أوسلو بيكس” التلفزيوني وربح جائزة الجمهور. أتمنى رؤية هذا المشروع في العالم أجمع، لأنني أظن أننا “متشابهون.. متشابهون لكنْ متمايزون”.

  • أعود إلى سيرتك، لقد درست العلوم السياسية وصناعة الوثائقي، ثم اخترتِ نهائيا الثاني.

فكرت بأنني لو عملت بالسياسة وأصبحت مسؤولة سياسية وخسرت قضية كبرى أدافع عنها؛ فسأشعر بالرغبة بالصراخ.. بالبكاء، أما صنع الفيلم الوثائقي فيملؤني بأحاسيس جميلة، وكم هذا جيد.