الوثائقية تحاور مخرجا تخفّى بثوب القاعدة ليظهر وجهها الآخر

 حاورته ندى الأزهري

المخرج طلال ديركي عايش الأسرة وقدم صورة مقربة لحياة أبي أسامة وأفكاره الخطيرة، دون أن يغفل لحظات حميمية له مع أطفاله

يغتنم المخرج السوري طلال ديركي فرصة خطيرة لتحضير عمله “عن الآباء والأبناء”، وهو فيلم وثائقي عن “أبي أسامة” القائد البارز في جبهة النصرة والمعروفة آنذاك بـ”تنظيم القاعدة في سوريا”، مُقدما نفسه بوصفه مصورا صحفيا مواليا لعقائدهم، ومتخليا عن أفكاره القديمة البعيدة عن الإسلام وشريعته.

بعد كسب ثقتهم، يعايش طلال ديركي الأسرة ويقدم صورة مقربة لحياة أبي أسامة وأفكاره الخطيرة، دون أن يغفل لحظات حميمية له مع أطفاله. صُوّر الشريط في قرية شمالي سوريا تحيط بها أراض مقفرة مليئة بالألغام ومهمة المسؤول الإسلامي نزعها، فيما الأراضي “الآمنة” مرتع للعب الأولاد الصبيان فقط، إذ لا تظهر أية امرأة أو بنت في الشريط. يُرغِم الأب ابنه أسامة على ترك المدرسة والانضمام لمدرسة أخرى تعلّم الشريعة ومعها القتال، ويظهر الصغير في الفيلم بعد عامين من تدريباته وهو يعلن استعداده للحرب المقدسة. يتقاسم طلال ديركي ومصوره قحطان حسون يوميات أسرة أبي أسامة لنحو عامين، ليتعرف على طريقة تفكيرهم ورؤيتهم للحياة عبر عقيدتهم الجهادية.

الفيلم الذي شارك مؤخرا في المسابقة الرسمية لمهرجان الجونة السينمائي وفاز إضافة إلى نجمة الجونة الفضية بجائزة أفضل وثائقي عربي يثير انطباعات متناقضة وتساؤلات عن هدف المخرج الفعلي، ويقودك أحيانا إلى حيث لا تريد. فمن جهة يبعث في النفس نفورا حادا من هذه الجماعات وأسلوبها في غزو عقول وأجساد الصغار بمفاهيم وتدريبات تنافي طفولتهم، وبالتالي يجعل كل من يعادي النظام السوري يتجه بلا أدنى تردد نحوه. ومن جهة أخرى يصوّر “إنسانية” هذا “القائد” من خلال مرافقة الكاميرا لحياة الأسرة الحميمية، ولحظات السعادة له مع أبنائه كأي أب عادي يشعر بفرح اللقاء وحرارة العناق مع الأبناء. هو فيلم أثار مؤيدين ومعارضين، واتهمه الممثل السوري جمال سليمان الذي حضر عرض الفيلم في مهرجان الجونة بأنه فيلم “مضلل بمعزل عن سياقه التاريخي”.

 

كان لا بدّ من اللقاء بالمخرج للإجابة على تساؤلاتنا، وكان الحوار التالي:

  • هل صاحَبك شعور بالخديعة وأنت تصور أبا أسامة لأنك أخفيت عنه هويتك الحقيقية؟ في أوروبا حين يصورون بالكاميرا الخفية لا يُظهرون الوجوه، ويتلاعبون بالأصوات كي لا يتمكن أي أحد كان أن يتعرف عليها.

الخديعة؟! في مجتمعنا كم من الأمور تتم في الخفاء، نخفي أشياء عن والدنا منذ الصغر مثلا. لقد أردت الحوار مرة مع متشدد وقدّمت له نفسي كمسلم معتدل لكنه رفض. كان من المستحيل بعد سيطرة النصرة قبولي كما أنا، وإن حصل فقد كان المسؤول سيعطيني المعلومات التي يريدها هو، كما أن مصيرنا في المجموعات الجهادية سيكون التصفية إن لم نكن مثلهم.

فيلمي ليس عن نشأة الجماعات الإسلامية، إنه بحث تربوي عن الجيل الناشئ، هدفت منه التقاط اللحظة وتحولات أسامة من طفل بريء إلى جهادي. قد نقول في المستقبل: كان يمكن منعه من الجهاد وسلب طفولته هكذا.

الموضوع يتعلق بوطن محتل وهناك حكم إسلامي وخلافة إسلامية في جهة منه، ومن حقي كسينمائي أن أجد التبريرات والمبررات والطريقة التي تحفظ حياتي خلال التصوير الطويل لهذه النوعية من الأفلام، ومن خلال إبداء ما يجري في الغرف المغلقة تركت الحكم للمشاهد. المخرج السوري عمر أميرلاي فعل مثل ذلك في فيلمه “طوفان في بلاد البعث”، حيث لم يخبر السلطات السورية عن مقصده الحقيقي.

  • لكن هناك فرق مع أميرلاي، فهو لم يدخل الحياة الحميمية للناس ولم يعايشهم عن قرب شديد كما فعلت.

هذا هو الجانب المثير للجدل، بل الناحية الإيجابية، أي تغلغلي في الحياة الحميمية للأسرة ومن خلالها إبداء مشاعر الحبّ بين الأب وابنه. لو أهملت هذا الجانب لكنت ظلمت سير القصة، لا خيار آخر لدي للدخول في حياة العائلة، فالفيلم هو محاولة لنقد السلطة الأبوية في مجتمعاتنا والتي تُفرض على الجيل منذ الصغر.

الفيلم يثير انطباعات متناقضة وتساؤلات عن هدف المخرج الفعلي، ويقودك أحيانا إلى حيث لا تريد

  • اتُّهمتَ من أطراف أخرى بسبب هذه المشاهد بين الأب والابن بـ”أنسنة المجرم”.

مدة الشريط مئة دقيقة، ولو اقتصر إظهار الشخصية على جانبها الجاف دون أية خصوصية فسيكون الفيلم غير جدير بالمتابعة. تذكري شخصية العراب، أبو أسامة مؤمن على نحو جنوني، ولديه قناعات تقوده لرمي ابنه والتضحية به بالجهاد، وأمثاله كثر. إنها السينما، في أي فيلم جذّاب هناك قصة قوية وشخصيات تتحلى بالخير والشر، ولو اقتصر الأمر على شعور واحد فلن ينجح الفيلم. لقد حصد العمل حتى اليوم ثلاثين جائزة عالمية، ومنها الأولى في صندانس، كما نال مؤخرا الجائزة في مهرجان الجزيرة الوثائقية في البلقان.

  • أيضا، لقد قدت مشاهدك إلى حيث لا يريد تفضيل النظام..

هذه مقاربة فيها ظلم، وكأنه ليس أمام السوريين خيار ثالث. تحميل الفيلم أكبر من حجمه سياسيا خطأ، إنه تأمّل في النفس البشرية أكثر مما هو تأمل في الوضع السوري. على كلٍ لو أجرينا المقاربة لكان ما تقولينه صحيحا، لأن الحرية الاجتماعية وحرية المرأة خاصة التي أرى في قمعها أسوأ الخيارات هي أفضل في عهد بشار الأسد. أنا من الذين تركوا البلد لأن كل الخيارات أمامي كانت سيئة بالمطلق، ولم أعد أرى الموضوع سياسيا بل متعلقا بالقيود الاجتماعية، وهذا هو خط فيلمي.

أعود إلى الشعور بالخديعة، لو أعلنت عن انتمائي الحقيقي فبماذا كان ذلك سيفيدني، أهي بطولة؟ لم أستخدم المشاهد المتعلقة بالنواحي العسكرية واستخدمت صوتي لطمأنة المشاهد، وقدمت نفسي حتى لا يظنّ أي شخص أنها دعاية لهم.

اختلاط المشاعر بين كره وحبّ لبطلك يخلق لديك أسئلة جديدة ويثير في اللاوعي مشاعر ما، فكل رجل هو أب، وحين تحكي عن المؤسسة الذكورية المتشددة فالهدف هو التركيز عليها لأنها النواة الأساسية لاستمرار ميراث الحرب، فمن خلال شخصية أسامة يمكن أن نتبين مستقبل الإسلام في سوريا. أمامنا جيل جاهز للحرب ولا ذاكرة له سوى الحرب، أمامنا قرى بأكملها تحولت من الصوفية إلى السلفية. هذه مخاوفي ولا أستطيع الوقوف مكتوف اليدين أمام هذا الدمار والتشويه للمجتمع، فالموضوع أكبر من مقاربات. لقد عرّضت نفسي للموت لأنقل ما يحصل وأدقّ ناقوس الخطر.

الأب أبو أسامة يُرغِم ابنه أسامة على ترك المدرسة والانضمام لمدرسة أخرى تعلّم الشريعة ومعها القتال، ويظهر الصغير في الفيلم بعد عامين من تدريباته وهو يعلن استعداده للحرب المقدسة

  • تساؤل آخر، لم تسأل أبا أسامة عن أسباب إطلاق سراحه من المعتقل السوري، لم تردْ الحديث في السياسة والخروج عن موضوعك، لكنك أشرت في الفيلم إلى العذاب الذي تعرض له أبو أسامة خلال سجنه! فلم لم تُثر قضية خروجه من السجن؟

لقد استطعت أن أحوّل الفيلم إلى شأن عالمي بعيدا عن الشأن السوري، ولو ركزت على ما تقولين لقيل إن هدف الفيلم هو انتقاد نظام الأسد مما سيضعه في خانة ضيقة، بينما أنا أريد لفيلمي أن يتوجه للجميع. لأكون موضوعيا، لو قلت إن الأسد أفرج عنهم، فماذا عن بقية الأطراف وماذا فعلتْ؟ ليس هدف الفيلم “الحطّ على العين” كما نقول، فمعروف أن نشأة الجهاديين سببها الأنظمة القمعية وهم موجودون قبل الأسد، ليس هذا صلب موضوع الفيلم؛ أي أسباب الجهادية، بل النتائج. زمن الفيلم محصور بزمن تصويره وليس ما حصل قبله، لقد ابتعدت عن هذا الجانب، وكانت العلاقة بين الأب وابنه -أي الصراع بين أسامة ووالده- هي هدفي.

  • كيف كان يومك يمضي بينهم، وما ظروف إقامتكم؟ كيف كنت تصوّر، وهل شعرت بالخوف؟

نمنا في غرفة مهجورة أنا والمصور، وكنا تحت حماية الجيش الحرّ من بعيد (بدأ التصوير في 2014 وانتهى في 2016). ولعلكِ لاحظت بسبب اللغة البصرية المختلفة أن المشهد الأخير لمعسكر تدريب أسامة لم نصوره نحن، فقد أرسل لي أمير تونسي معروف عنه العنف أنه يريد الاجتماع بي فخشيت من هذا اللقاء، لذلك كلفت أحدا آخر بالتصوير. لقد عشت الخوف في كل لحظة خشية اكتشاف أمري من جهة، ومن جهة أخرى بسبب خطورة متابعة أبي أسامة في حقول الألغام لإبطال مفعولها، وبسبب كونه شخصية مستهدفة، حيث كان هناك قصف مستمر للطيران. لكنني كنت أطلب بنفسي مرافقته في مهماته.

  • في أيامنا حيث إن كل شيء مكشوف، كيف استطعت إخفاء معلوماتك؟

أجريت مسحا كاملا لكل ما يخصني على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وأجريت مقابلة مع تلفزيون أورينت امتدحت فيه الجبهة بسبب “تحرير إدلب” (صيف 2015) وقلت هذا كي يصلهم، لكني تعرضت لعاصفة غضب من أصدقائي حينها وقالوا لي بأنني قد جُننت. كنت دائما أشعر بأنني مطالب بإعطاء ضمانات.

الطفل أسامة يتوسط بقية الأطفال في معسكر التدريب بالزي العسكري

  • كيف قدمت لهم نفسك؟

ذهبت كطالب تربى تربية فاسدة، وبعد أن جاءت الثورة والحرب جاءتني الصحوة بأنني أريد التعلم، ولعلكِ لاحظت مشهد تعليم الوضوء في الفيلم، لقد كان موجها لي، و”شَدّة الأذن” للصغير أسامة لعدم معرفته الكاملة بالوضوء كانت موجهة لي في الحقيقة. اعتمدت أيضا على النقمة من النظام والثأر للشهداء.

  • لم نسمع حتى صوت المرأة؟

سألتهم عن إجراء مقابلة صوتية مع الزوجة، لكن “صوت المرأة حرام” كما قالوا.

  • ألا تشعر بالخوف الآن من اكتشاف أمرك؟

سيكون هذا تسويقا إضافيا للفيلم، عملياتهم عشوائية، وعلى كل حال أنا أعيش بالصدفة، لقد صادفت الموت مرات يمر بجانبي ويعبر. لدي إحساس مختلف تجاه الموضوع، فقد كسرت كل الخطوط الحُمر التي كنت أراعيها حين أساير المجتمع من تعصب وتقاليد اجتماعية، لقد بتّ منفتحا على نفسي أكثر.

  • الحوار معك وضّح أمورا عديدة، هل تريد إضافة المزيد؟

أحلم بتصوير فيلم من الجهة الأخرى، لكن تصوير فيلم مع هؤلاء أسهل من تصويره مع النظام. فمعهم لا تحتاج إلى ورقة من فلان ومستند من علان، كما أن ظروف التصوير وتموضع الكاميرات أسهل، لقد عملت في سوريا بين 2011 و2013 في شبكة إعلامية سورية وصورنا كل المجازر، وكنا مجموعة من 15 مصورًا لا نعلن عن أسمائنا، كما كنا نُنجز التقارير وكنت أقوم بالإنتاج في بيتي. إن حجم ما قدمته لفضح نظام الأسد وإجرامه هو الرد على من يريد محاكمتي.

إن مشروعي الثالث بعد هذا وفيلم “العودة إلى حمص” هو “هزيمة الإنسان”، إلا أنه مشروع مؤجل حاليا. ما حصل لنا هو أبشع سيناريو يمكن أن يحصل لثورة (قالها بأسى).