” بدون اسم”.. محنة وفاة الغريب

 
ندى الأزهري
 
باتت صور هذا الفيلم تلوح في مخيلتي كل مرة أرى فيها عمالا يقفون في المطارات في صفوف طويلة بانتظار العودة لزيارة وطنهم من بلد المهجر، أو بائعين غير شرعيين للكستناء والفواكه في باريس يعرضون بضاعتهم القليلة عند مخارج محطات المترو أو في أحيائها التجارية.
 
في قاعة الصعود للطائرة المتجهة لوطنهم يقفون بصفوف غير منتظمة، شعورهم مصففة جيدا، فرحين كأنهم يغادرون للمرة الأولى، يحملون حقائب جديدة في معظمها وأكياسا بلاستيكية محشوة على اتساعها. كانت هناك أيضا الحرامات والمراوح ولكن تلك أخذت طريقها عند تسجيل البطاقة مع الأمتعة. ثيابهم لماعة لجدتها، سُتَرٌ من جلد صناعي وأحذية ” نايك” لانج!
 
يخرج أحدهم أكياسا من شوكولا وحلوى، يحاول من جديد إيجاد مكان أنسب لها في الكيس الضخم، يبدو أنيقا بكنزته الزهرية اللون وبنطلون الجينز وعلى خلاف الكثيرين من مواطنيه يميل للاستدارة. لعله يتخيل فرحة أطفاله المنتظرين عودته في مكان ما ناء…
 
لكن ماذا يحصل حين يموت مهاجر فقير في بلد الغربة؟ بدلا من أن يعود بهداياه وبهجته لأسرته، يرجع في تابوت بارد مقيت؟
 
يشكل الفقدان في حد ذاته فاجعة لأهله، التي يصبح هدفها الأول إعادة جثمانه ليدفن في وطنه قريبا من عائلته. تتعقد الأمور مع مهاجرين غير شرعيين ومع هويات عدة لشخص واحد أو هوية واحدة لعدة أشخاص… تصبح الإجراءات متاهة حقيقية يدور فيها الأهل، أحيانا دون نتيجة. في” بدون اسم” للمخرج البنغلاديشي توقير أحمد، مزارع فقير من قرية نائية يواجه تحديات في كل خطوة يخطوها لاستلام جثمان ولده الذي فارق الحياة في الإمارات، من بيروقراطية لا تحتمل في حالات حرجة كهذه وعقليات تتمسك بالإجراءات غير معنية بأسرة ملتاعة. كوميديا سوداء ومواقف ساخرة تثير الضحك أحيانا على الرغم من مأساوية الحدث.
 
 ” بدون اسم” هو أحد الأفلام النادرة التي تأتي من بنغلاديش وتخرج أيضا للعالم لبعض العروض، فالفيلم عرض في مهرجاني كلكتا( الهند) ودكا( بنغلاديش) الدوليين وفي مهرجانات أخرى.
 
التقينا مخرج الفيلم توقير أحمد ( 1966) في دكا بمناسبة عرض فيلمه في مهرجانها الدولي مؤخرا.
 
–  أنت مهندس معماري، فكيف بتّ ممثلا تلفزيونيا وسينمائيا مشهورا هنا، ثم مخرجا؟
 
حين وصلت من مدينتي الصغيرة إلى دكا العاصمة للدراسة في الجامعة، شعرت بغربة كبيرة. لم أكن أعرف أحدا، تملكني شعور بأنني يجب أن أكون إنسانا معروفا في هذه المدينة الكبيرة وأن عليّ أن أصنع شيئا مهما! لم يكن الفن في خاطري ولكن دراسة هندسة العمارة طورت إحساسي الفني. توجهت للعمل بالمسرح أثناء دراستي وكنت أصمم الديكور ثم تنقلت تدريجيا في المهام وتدربت في كوريا وفي مدارس خاصة ببريطانيا قبل أن أبدأ بالإخراج المسرحي. كما دفعتني ضرورات العيش للعمل بالتلفزيون فمثلت في مسلسلات عديدة ما وهبني الشهرة أيضا!
 
 
– إذا حققت تحديك الأول وهو الشهرة! وها هم البعض يقطعون حديثنا الآن لأخذ صور معك، أهذا لأنك ممثل تلفزيوني أم مخرج سينمائي؟
 
( ضاحكا) ربما الاثنان معا! أنا معروف أيضا كممثل سينمائي.
 
كيف انتقلت إلى السينما؟ وهل ترافق هذا مع ظهور ما يطلق عليه الموجة الجديدة في السينما البنغلاديشية منتصف 2005؟
 
لم أكن راضيا كل الرضى عن العمل فقط في التلفزيون، كان لدي شعور بوجوب فعل شيء آخر. مثلت في فيلمين مستقلين مع المخرج المعروف في بنغلاديش والعالم تانغير مكمّل ( الفيلمانQuiet Flows The River Chitra  وA Tree Without Roots  وقد عرضا في العديد من المهرجانات الدولية. تأكد لي من خلال العمل مع مكمّل أن السينما هي ميلي الحقيقي فبدأت بدراستها. بعد أن حققت عدة أفلام قصيرة وأفلام تلفزيونية، تمكنت عام 2004 من تمويل Joyjatra أول فيلم روائي لي وكان عن حرب التحرير في بنغلاديش.
 
الفيلم نال سبع جوائز من ضمن جوائز السينما الوطنية ومنها جائزة أفضل فيلم وإخراج! هل نجح تجاريا أيضا؟
 
(مبتسما) ليس بالقدر الذي يعيد ما أنفقته من مال عليه! هكذا كان الحال مع فيلمي الثاني المأخوذ عن رواية لكاتب شهير، حصدت عنه بعض الجوائز ولكن لا غير. أفلست! فقررت التخلي عن هذه المهنة والتفرغ للهندسة لأحقق حياة مستقرة لأولادي وتوقفت لمدة ست سنوات قبل أن أعود مع فيلمي هذا.
 
 
فكرة فيلمك” بدون اسم” جدّ مهمة وحبكة السيناريو مشوقة وقد تمكن من مسّ قلوب مشاهديه، على الأقل في المهرجانات، ولكن يبدو من تقنيات التصوير أنه حُقق بميزانية ضئيلة؟
 
بعد توقفي الطويل لم أجد المنتجين فقررت الاهتمام بالقصة وإخراجها بكاميرا بسيطة. إنها قصة عن بلدي وأرضي وشعبي وهذا ما وددت التركيز عليه، وكنت نشرتها في كتاب من سنوات. حين قررت إخراجها تمّ التصوير خلال أسبوعين لقلة الميزانية التي لم تتجاوز الـ 60 ألف دولار ولجأت إلى كل أصدقائي في المسرح لمساعدتي. بعد انتهاء الفيلم بدأت رحلته في المهرجانات وقد أحبه الناس لحسن الحظ ومسّهم جدا كما تقولين، وحين يلمس الفيلم قلوب مشاهديه نتغاضى بعض الشيء عن جوانب الفيلم التقنية. فإن لم تكن لديك المشاعر لتتشاركها مع الآخرين فماذا تنفعك العدسة المميزة؟
 
لقد مسّت القصة والأحداث القلوب بقسوتها وبؤس أصحابها وقلة حيلتهم أمام مايجري، هل استوحيتها من واقعة حقيقية؟
 
كانت قد تناهت لي قصة تابوت وصل لعائلة وكان الجثمان فيه لا يخصّ الاسم المعلن! كما كنت قرأت أن 14 ألف عامل بنغلاديشي قد فارقوا الحياة في الشرق الأوسط في الست سنوات الأخيرة أي حتى عام 2014 وقد يكون الرقم ارتفع اليوم. قررت إخراج قصتي لإدانة المجتمع ودفعه للاهتمام بشكل أفضل بهؤلاء العمال. وأرى أن السينما خير وسيلة لهذا فهي تمس الناس على نحو أوسع وأكثر.  لقد مثّل الفيلم بنغلاديش في عدة محافل دولية في مهرجانات تورنتو وكوسوفو وجنوب آسيا…
 
لم اخترت الكوميديا لمعالجة مأساة كهذه؟
 
لم أرد للجمهور الشعور بالملل، السينما المستقلة تُشعر البعض بالضجر( ضاحكا)، أردت أن أجذبه لما للقضية التي يطرحها الفيلم من أهمية. لقد أحبه المشاهدون ولكن ليس الموزعين! هؤلاء يبحثون عن أفلام نمطية. كما سبق وذكرت الممثلون كانوا من المسرح فيما الممثلة البطلة فنانة معروفة هنا من السينما التجارية وقد اخترتها بناء على طلب المنتج والموزع. لقد أدت الدور جيدا ولكن على الرغم من وجودها لم يستقطب الفيلم الأعداد التي توقعناها. إنما يمكنني القول إن المردود المادي لم يكن على هذا السوء!
 
قرأت بأن دور السينما قليلة في بنغلاديش وفي عام 2000 كان هناك أكثر من تسعمائة دار فيما لا يتجاوز عددها اليوم الثلاثمائة. هل تعتقد بأن هذا أحد الأسباب في عدم الإقبال الجماهيري الكبير على فيلمك، إضافة ربما إلى دور القرصنة…
 
صحيح كان هناك عدد كبير من دور السينما هنا، لكن للتلفزيون دور كذلك! ومن لم ير الفيلم في قاعات السينما سيراه يوما على شاشة التلفزيون. هم لا يعتقدون ربما بفيلمي وبما أقدمه، ولكن حين سيرونه قد يغيرون رأيهم! وقد يكون السبب أيضا في عدم تردد الناس على السينما هو الأوضاع ومشقات الحياة ويمكن لي أن أضيف زحمة السير(الأسطورية) في دكا!
 
وهل ستستمر في الإخراج على الرغم من العوائق المادية؟
 
مشاركة فيلمي في العديد من المهرجانات جلبت لي اهتمام المنتجين!  أنهيت مؤخرا تصوير فيلمي الخامس وهو عن موت نهر ينبع من بنغلاديش ويصب في البنغال الهندي. الفيلم عن علاقة الإنسان مع الطبيعة وتدميره لها، إنه عن هذا الرابط بين النهر والأمومة، عما يفعله الرجال مع الطبيعة ومع المرأة! أحلامي هي بتحقيق أفلام عن بنغلاديش وهويتها الخاصة، عن أرضنا أنهارها وناسها الفقراء…
 
وما نظرتك للسينما في بنغلاديش؟
 
 فقدنا للأسف مخرجا شابا طارق مسعود وكان فيلمه(The Clay Bird) عرض في كان 2002( أول فيلم من بنغلاديش يترشح لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي). لدينا عدة مخرجين مهمين منهم مرشد إسلام ممن ينتمون للسينما المستقلة البعيدة عن الصناعة السينمائية المعروفة ب ” داليوود”، وقريبا سيكون لدى بنغلاديش هوية سينمائية في العالم وآمل أن يأتي جيل جديد مثل أبو شاهد إيمان وغيره. في السابق كانت بنغلاديش تنتج سنويا حوالي المائة فيلم فيما حاليا تنتج مابين 50 -60 من ضمنها خمسة تنتمي للسينما المستقلة أي غير التجارية.
 
إن تحقيق فيلم في هذه المنطقة ليس سهلا كذلك الاشتراك في المهرجانات المهمة، لكنني أعتقد أن وقتا سيأتي ستلقى فيه أفلامنا الاهتمام بأفكارها وقيمها. أرغب بأن أضيف أنه بعد مائة سنة من التاريخ السينمائي فإن السلطات تتجاهل أهمية السينما ومدى إمكانية الفيلم في لعب دور في تطوير المجتمع وتثقيف الناس.
 
 ألا تدعمكم الدولة؟
 
ثمة ميزانية بسيطة من الدولة ولكنها تذهب لمن له اتصالات سياسية جيدة فهو من يلقى الدعم والتمويل وليس كونه مخرجا جيدا.  لكني آمل بجعلهم يوما يدركون أننا نريد عمل أفلام جيدة تمثل وطننا وتطوره.