“دقات القدر”.. طبول التاريخ الذي لا يُنسى بين المغرب وإسبانيا

المصطفى الصوفي

برع المخرج المغربي محمد اليونسي في تجسيد لقطات قوية لطائرات تقوم بطلعات متتالية وهي تغير على مناطق جبلية في الريف الشمالي من المغرب وهي تطلق قنابلها السامة من دون رحمة

بكثير من المؤثرات الفنية المتقنة، برع المخرج المغربي محمد اليونسي في تجسيد لقطات قوية لطائرات تقوم بطلعات متتالية وهي تغير على مناطق جبلية في الريف الشمالي من المغرب آهلة بالكثير من الناس الأبرياء، وهي تطلق قنابلها السامة من دون رحمة. “توضا” الشخصية الرئيسية في الفيلم التي حلقت شعرها حتى آخر الخصلات المتلألئة مع أشعة الشمس، تؤمن بمبادئها التي لا تتزحزح، شخوص من إسبانيا، وزوج مريض بسبب الغازات السامة، عميل للاستعمار، وحكايات، وأحلام امرأتين مغربية وإسبانية، الأولى تحاول التخلص من براثن طقوس مجتمعية بالية، وأخرى تسعى للانعتاق من أغلال انغلاق الكنيسة وتزمتها، وشخصيات تحارب الظلم، وأخرى تكرس ثقافة الخيانة والحرية، شخوص تؤثث العالم الروائي للكاتب والسيناريست محمد اليونسي الذي كتب “دقات القدر” بيراع الحلم والبحث في تاريخ مؤلم.

من الرواية إلى السينما سعى اليونسي في هذا الفيلم الذي اقتبسه من روايته التي كتبها بنفس الاسم، إلى طرح إشكالية تاريخية عميقة تخص الحرب الإسبانية على منطقة الريف خلال العشرينيات من القرن الماضي، وضربها بالغازات السامة، ومدى تأثيرها الخطير، والتي لا تزال تداعياتها حتى الآن.

إنه القدر حين تقاوم كلٌّ من “توضا وماريا” الكنيسة والعادات والتقاليد التي تجعلهما في مواجهة قدر لم تختاراه، مقاومة للمجتمع وتقاليده والأعراف والعقيدة والأيدولوجيا والسياسة أيضاً. تقاومان بما تمتلكانه من سلاح عتاده الروح والجسد، تُرى من سيقاوم أكثر في الفيلم الروح أم الجسد؟

هذا الفيلم الذي ينحو نحو الطرح الفيلمي الفلسفي بأسلوب يكون أقرب إلى المعالجة الفنية الشاعرية، يطرح السؤال ويبحث عن الحقيقة، يجسد أدواره كل من خافيير أنافلو مانويل وأوليفيا ماتشادو فرجينيا وأونيفا إيرنانداز خورخي وفرنانديز دي إيكيبي لوس ماريا من إسبانيا، فضلاً عن الممثلة الجزائرية بهية الراشدي، والمغاربة من محمد الشوبي في دور شيخ القبيلة ورفيق بوبكر وعبد الله شكيري وعبد اللطيف شوقي ويسرى طارق وهي بطلة الفيلم في دور “توضا”.

تلك إذاً كانت “دقات القدر”، أشبه بدقات طبول أفريقية قوية حاضرة في الضمير الجمعي للمغاربة عامة وسكان الريف خاصة، تناول فصولها المخرج محمد اليونسي بكثير من الاحترافية لطرح القضية للنقاش كتاريخ لا ينسى. ومن أجل تسليط الضوء على مزيد من تفاصيل هذه التجربة السينمائية الجديدة، يحدثنا المخرج.

  • بداية ما هي الحمولة الرمزية والفنية والإبداعية والسينمائية لعنوان فيلم”دقات القدر”؟

اختيار العنوان كانت له أسباب ذاتية، فعندما قررت كتابة رواية “السمفونية الخامسة” التي تتحدث عن التاريخ والقدر، كنت قد استوحيت العنوان من السمفونية الخامسة لبيتهوفن، وذلك راجع أولاً لعشقي للموسيقى الكلاسيكية، وثانياً لأن دوافعي تتقاطع مع الدوافع التي جعلت بيتهوفن يؤلف ألحان السمفونية الخامسة والتي قال بنفسه أنه عبّر عن هذه الضربات الثلاث القصيرة المتلاحقة والرابعة الطويلة بقوله: هكذا يدق القدر على الأبواب.

أما مقارنتي ومقاربتي للسمفونية كلحن فأجدها تشبه القدر في تجلياته، فعندما أستمع إلى سمفونية ما وأصغي بتركيز شديد على كل آلة موسيقية على حدة، أشعر أن عزفها يبدو نشازاً، لكن عندما أصغي للسمفونية في شكلها الشمولي أجد كل الآلات الموسيقية تعزف في انسجام وتناغم تام، وكذلك القدر. إلى هنا يمكن اعتبار “دقات القدر” لحنا سينمائيا حزينا ومؤثرا، لكن بإيقاعات لها الكثير من الرمزية الموغلة في سحر الإبداع، ومنه سحر السينما الذي حاولنا كفريق أن نرسخه ونوجده من خلال هذه التجربة، من خلال مختلف مراحل إنجاز هذا الفيلم.

  • إذاً كيف مرت أجواء التصوير في ظل حساسية موضوع الفيلم؟

فعلاً الموضوع يعتبر حساساً للغاية، لكن أجواء التصوير مرت في ظروف جيدة بشهادة كل العاملين في المشروع من مغاربة وإيطاليين وفرنسيين وجزائريين وإسبان، وأخص بالذكر الممثلين الإسبان الذين حضروا معي تقديم الفيلم بالمهرجان الوطني للفيلم في دورته الأخيرة الشهر الماضي، رغم تعثر استكمال دفعات التمويل لتصوير الفيلم، وكذلك تعرضنا لبعض العراقيل في طلبات الترخيص وخصوصاً من الجانب الإسباني الذي تعنّت في رفض السماح لنا بالتصوير، وتنكّر لنا في توفير كنيستين بعدما وعدنا بها، وذلك بمجرد علمهم بطبيعة السيناريو الذي يثير قضية القصف بسلاح الغازات السامة لأقاليم الشمال المغربي.

اليونسي: استوحيت العنوان من السمفونية الخامسة لبيتهوفن

  • ما هو شعورك كمخرج حين ترك فيلمك “دقات القدر” بصمة وتأثيراً لدى الإعلام والنقاد، وكذلك الجمهور الذي تابعه عندما عرض بالمهرجان الوطني للفيلم في دورته العشرين الأخيرة؟

طبعا كمخرج أسعدني الاهتمام الكبير الذي لقيه فيلمي “دقات القدر” سواء من طرف الإعلام أو النقاد أو الجمهور الذي تابع الفيلم بمهرجان طجنة للفيلم، وتولد لدي شعور بكبر حجم المسؤولية التي ألقيت على عاتقي بعد هذا الاهتمام الكبير الذي لقيه عرض الفيلم وخصوصاً من الإعلام والنقاد، وهذا يشجعني على بذل مزيد من الجهد بحثاً عن الجديد، وتكريس الفرجة السينمائية الهادفة، والعمل السينمائي المتميز شكلاً ومضموناً.

  • هل يسير فعلاً فيلمك في اتجاه إماطة اللثام عن مرحلة مهمة من تاريخ منطقة الشمال، وإنصاف ساكنتها، وكذلك لاقتراح حلول معينة لهذا الإنصاف؟

كمخرج لدي قناعة بأن من أدوار الفنان أو المبدع عكس القضايا التي تهم مجتمعه أو تهم الإنسانية بغرض لفت الانتباه لهذه القضايا، لذلك فإن فيلمي يطرح تساؤلات ولا يقدم حلولاً، فإثارة موضوع حرب الغازات في الفيلم كان المقصود من ورائه توثيق الحدث سينمائياً، لأن الصورة في عصرنا أصبح لها تأثير بليغ، وكذلك تحفيز الفعالية المهتمة لإثارة نقاش جاد حول الموضوع.

سعى اليونسي في هذا الفيلم إلى طرح إشكالية تاريخية عميقة تخص الحرب الإسبانية على منطقة الريف خلال العشرينيات من القرن الماضي، وضربها بالغازات السامة

  • أين تتجلى المحلية والعالمية في فيلمك الذي ناقش موضوعاً يهم منطقة الشمال فقط؟

اعتمدت كمخرج على قصتين محليتين كل منهما في سياقها، حكاية “توضا” المغربية التي تواجه التقاليد القبلية والعقلية الذكورية المتجدرة في مجتمعها، وأخرى لشابة إسبانية تفرض دكتاتورية الأب عليها دفن شبابها في رهبنة رهيبة، تحرمها من متابعة تعلم الموسيقى والارتباط بالشاب الذي تحبه، ويتضح ذلك للمتلقي من خلال طرح قضية المرأة التي لها امتدادات مرتبطة بقيم العدالة والحرية التي تسعى إليها أي امرأة في الكون مهما اختلفت ثقافتها ولغتها والمجتمع الذي تنتمي إليه. ومهما تجاوزت حدة المعانات فعمق الظاهرة سيعكس دائماً التمييز والعنف الممارس على المرأة بكل أشكاله، لذلك فإن الحكايتين تعكسان حمولة ثقافية مختلفة عن الأخرى، لكنهما من حيث القيم التي ترتبطان بها وتستمدان منها المعنى والمغزى لوجودهما الإنساني كونيتان.

  • ما هو جوهر الفيلم الذي أراد المخرج أن يقدمه للجمهور داخل المغرب أو خارجه؟

المغزى والدلالة التي يحملها الفيلم في طياته هي الانفتاح على قيم العيش المشترك مهما اختلفنا، والمصالحة مع الذات مهما تداخلت أمامنا المعطيات، واحترام حرية الفرد داخل المجتمع مهما اختلفت وجهات نظرنا، هي قيم متداخلة ومتكاملة فيما بينها، لذلك ستجدها في الفيلم تتقارب وتتباعد على حسب المواقف.

المغزى والدلالة التي يحملها الفيلم في طياته هي الانفتاح على قيم العيش المشترك

  • هل فيلم “دقات القدر” يمكن اعتباره فيلماً تاريخياً؟

فيلم “دقات القدر” هو فيلم يتحدث عن التاريخ أكثر مما هو تاريخي بالمفهوم النوعي، فمن بين الثيمات التي اشتغلت عليها داخل الفيلم كان التاريخ حاضراً بتوثيق مرحلة المقاومة الريفية شمالي المغرب التي تعرضت للقصف بالغازات السامة، لكنْ كان الهدف من طرح هذه القضية هو أن أسائل اختلاف التاريخ حول هذا الحدث الذي كان بنفس المكان والزمان ويدون بمعطيات مختلفة قد تصل حد التضارب.

  • هل الفيلم استطاع أن يوصل صوت سكان منطقة الشمال إلى السلطات الإسبانية؟

كما ذكرت سابقاً، أن دوري كمخرج كان محصوراً في إثارة النقاش حول مرحلة تاريخية مهمة تعكس التاريخ المشترك للشعبين المغربي والإسباني، أما لإيصالها إلى الجهات المختصة أو المهتمة فهذا دور الصحافة بالدرجة الأولى، أتمنى فعلاً أن يكون فيلمي بادرة تنبني عليه مبادرات أخرى تسير في نفس الطرح والاتجاه لإغناء النقاش حول الموضوع.

  • يعد فيلم “دقات القدر” تجربة مميزة في مسيرتك الفنية، هل تشعر بأنك قد حققت ما كنت تصبو إليه؟

أنا أعتبر نفسي في بداية مشواري السينمائي، فرابع تجربة لي في الفيلم الطويل وضعتني بالكاد على الدرج الأول في عالم السينما، لأنك إن أردت أن تصبح مخرجاً فهناك أشواط كثيرة يجب على المرء قطعها، فقد اشتغلت كتقني ومساعد مخرج لسنوات عدة، وتدرجت في تعلم تقنيات كتابة السيناريو، كما عملت على تنفيذ الإنتاج لعدة أعمال تلفزيونية وسينمائية، لأكون المخرج الذي أنا عليه اليوم، لكن طموحي هو أن أرقى بنفسي وأصل بمجهوداتي لدرجة السينمائي.

اليونسي: دوري كمخرج كان محصوراً في إثارة النقاش حول مرحلة تاريخية مهمة تعكس التاريخ المشترك للشعبين المغربي والإسباني

  • انطلاقا من هذا الفيلم الذي يعود بالجمهور إلى مرحلة تاريخية مهمة، هل السينما المغربية تهتم بمثل هذه القضايا التاريخية؟

توجد بعض المحاولات التي قاربت الثيمات التاريخية منذ بداية السينما المغربية إلى الآن، هي لم تكن محتشمة في طرحها أو تناولها لكن الأفلام التاريخية مكلفة على المستوى المادي، وتحتاج إلى ميزانية ضخمة، وهذا ما لم يتوفر عندنا بعد بالمغرب، فالنقص لم يكن كما أظن في تناول المواضيع التاريخية من طرف السينمائيين المغاربة، لكن لعلمهم بمتطلباتها ومصاريفها الكبيرة، وأغلبيتهم يتجنبونها فقط.

  • إلى أي حد تستطيع السينما مواكبة مثل هذه القضايا الكبرى، تاريخية واجتماعية وسياسية، وهل فيلم “دقات القدر” لعب هذا الدور؟

نعلم أن للسينما أدوارا متعددة منها الترفيهي ومنها التوعوي، ومنها كذلك التثقيفي، لكن كل هذه الأدوار من الضروري أن تكون مقرونة بالدور الرئيسي في نظري فهو الذي يطرح التساؤلات لإثارة النقاش حول أي قضية، شريطة أن لا تقدم حلولاً، لأن دور المبدع ينحصر كما قلت في تسليط الضوء على قضية ما. وأعتقد أن السينما العالمية بالخصوص واكبت الكثير من القضايا الكبرى والأحداث في مجالات عديدة، سياسية وتاريخية واجتماعية وإنسانية وعلمية وغيرها، خاصة على مستوى الأفلام الوثائقية. أما فيلمي “دقات القدر” فهدفه كان هو إثارة النقاش حول مفهوم القدر، ومدى حرية الفرد داخل هذا القدر الذي سيصبح تاريخاً متضارباً بين الشعوب، فأثرت من جديد تساؤلات عن هذا الاختلاف، أتمنى أن أكون قد وفقت في هذا المسعى.

  • ما هو جديدك؟

دائماً بعد كل أول عرض لفيلمي المنجز أنكب على القراءة والبحث للاستعداد لكتابة السيناريو الجديد، وهذا يأخذ من وقتي الكثير لأعثر على الموضوع الذي يشدني ويستهويني، وبعدها أقضي أكثر من سنتين في كتابة هذا السيناريو.