“رؤوف” .. لون البهجة المفقود

محمد موسى
 
يَنهَل المخرج التركي الشاب “سونر كانر” من ذكريات طفولته في قريته البعيدة في شرق تركيا، ومن مشهديات حياته الأولى القاسية، والتاريخ الموجع المسكوت عنه لمنطقته، ويعيد أفلمة وقائع وقصص صغيرة من سيرته في عمله الروائي الطويل “رؤوف” والذي أخرجه سوياً مع زميله باريش كايا. يندرج الفيلم في فئة خاصة من الأفلام التي تقف مع أبطالها اليافعين عند محطات مفصلية في حياتهم، وهم يستعدون لتوديع عوالم طفولتهم، وبداية اكتشافهم لما تُخبئه عوالم البالغين من مسرّات وخيبات. 
 
يجهل “رؤوف” في الفيلم ماهية اللون الوردي، ويبدأ رحلة البحث عن هذا اللون في قريته، لكنه يتعثر بتاريخ أهله الداميّ وطبيعة جغرافية صعبة، وسيتعرف للمرة الأولى على “الموت”، ويعيش قصة حب مع فتاة تكبره سنا، ستفتح نوافذ روحه على الجمال والألم.
 
يستلهم المخرجان الشابان الطبيعة الخاصة للقرية وظروفها المناخية المتطرفة وثقل الهوية الإثنية، ويستعينان بسكان من القرية حيث تجري الأحداث، ليقدمّا فيلما يقترب برموزه الشرقية وشاعريته الطافحة من السينما الإيرانية الحديثة. عُرض الفيلم لأول مرة في الدورة الأخيرة لمهرجان برلين السينمائي، وبعدها في عدد كبير من المهرجانات السينمائية، محققاً في معظمها جوائز.
وفي الآتي حوار مع المخرج “سونر كانر” والمُنتج الشاب “علي أزغور أتيس”: 
 
هذا هو المشروع السينمائي الطويل الأول لك. كم استغرق التحضير له، ولماذا هذه القصة بالتحديد؟
 
سونر: حكاية الفيلم تدور في قرية في شرق تركيا، في مكان ليس بعيداً من الحدود مع أرمينيا. وهي المنطقة الذي وُلدت وتربيت فيها. أما جوهر الحكاية فهي وعلى قدر كبير سيرة ذاتية لي، وهناك عناصر في الفيلم مستوحاة من حياتي. ومشاهد مأخوذة بالكامل من ذكريات طفولة عشتها هناك، كالذي يُظهر أبناء القرية وهم يلعبون لعبة الورق مقابل طلقات من بندقيات الكلاشينكوف كعملة للتبادل بدل النقود.
 
هذه التفاصيل ساعدت في إغناء العالم الذي رغبنا في تقديمه وتسيير إيقاع الفيلم. أما الشخصية الرئيسية في الفيلم (رؤوف)، فأردنا أن نقدم قصة الحروب أو النزاعات في تلك المنطقة من تركيا عبر عيون طفل صغير من القرية. لأن هذه المعالجة وكما فكّرنا بها وقتها، هي الطريقة الوحيدة لكشف الواقع دون الانحياز لطرف ما. فعبر اختبائنا خلف وجهة نظر الطفل اخترنا صف الناس العاديين، وخصوصا الذين بقوا في قراهم ولم يغادروها. أردنا أن نبيّن في الفيلم أن فعل مثل الوقوع في الحب هو مستحيل في ظروف معينة، وأن العنف يلمسّ كل شيء من حوله.
المخرج "سونر كانر" والمنتج "علي أزغور"
 
دعنا نعود الى مراحل كتابة السيناريو للفيلم، هل كنت تفكر بأعمال مخرجين معينين وقتها، هل أنت متأثر مثلاً بشاعرية السينما الإيرانية الحديثة؟
 
سونر : لا أتوقف عن إخبار الناس من حولي عن جمال السينما الإيرانية، أظن أن الجميع تعب من سماع هذا مني (يضحك). أنا متأثر بشكل كبير بالمخرج الإيراني أصغر فرهادي، والإيراني من الأصول الكردية بهمن قوبادي. أما زميلي “كايا” فهو درس السينما الكلاسيكية ومدارسها المعروفة، وهو قريب بعض الشيء من السينما الواقعية الإيطالية. يمكن القول، بأننا وباختلاف مرجعياتنا السينمائية، نمثل تركيا المقسمة بين الغرب والشرق. ما يجعل السينما التركية الحديثة مُثيرة كثيراً، هو علاقتها بهذه التأثيرات، فهناك من يقول أن السينما التركية هي جسر بين الشرق والغرب، لكن لا أحد في الحقيقة يُريد أن يكون أو يعيش على جسر. 
 
واحد من المشاهد المؤثرة في الفيلم، عندما وقف “رؤوف” أمام النعوش الخشبية الفارغة في محل النجار الذي بدأ العمل عنده، ما قصة هذا المشهد، وهل له جذور من تجارب شخصية لك؟
 
سونر: في الماضي كانت هناك جنازات أسبوعية في المنطقة التي تجري فيها الأحداث في الفيلم، تحولت هذه الجنازات إلى جزء من الحياة اليومية للناس هناك. كطفل كنت شاهد على طقوس الموت تلك، وكنت غالباً ما أشاهد تلك النعوش الخشبية وكنت أتساءل وقتها إذا كان الناس في داخل النعوش تلك مازالوا أحياءً. لم أكن أفهم في ذلك الوقت الصراعات الموجودة من حولي، ولا الموت نفسه. وقبل ذلك وعندما سمعت للمرة الأولى أن هذه النعوش هي مخصصة لوضع أموات داخلها، أُصبت بالرعب من الفكرة، لأني كنت أشاهد تلك النعوش طوال الوقت. هذا ترك علامة في روحي، وأردت أن أنقل هذه التجربة إلى الفيلم. 
 
أُريد أن عن أسألك عن العمل سوياً مع مخرج آخر. نعرف أن القصة مـتأثرة بما حدث في طفولتك، لكن كيف سارت الأمور أثناء التصوير، كيف يُمكن الجمع بين رؤيتين مُختلفتين لإخراج عمل إبداعي واحد؟
 
سونر: زميلي باريش كايا، المخرج الآخر في الفيلم هو تركي، بينما أنا كردي الهوية. تعاوننا وبالتأكيد اختلافاتنا أثناء التصوير أفادت كثيراً العمليات الفنيّة الخاصة بإخراج الفيلم. بالطبع ليس من الهين أبداً إخراج فيلم مع زميل آخر. في الواقع كنا أثناء التصوير نتمازح معا بأننا لن نعيد هذه التجربة أبداً. لكن في النهاية ساعدتنا خلفياتنا الاجتماعية المختلفة، وأساليبنا في الصناعة الفيلمية. الفيلم هو فيلمنا الطويل الأول، لكننا عملنا من قبل مساعدين لمخرجين آخرين وأنجزنا أفلاماً دعائية للتلفزيون، وحملنا خبراتنا المختلفة إلى مشروعنا الأول. كان علينا أن نتفق على أمور عديدة وأن نساوم على رُؤانا الشخصية، وهذا ربما منح الفيلم تعقيداً وقسمه إلى مستويات، وجعل رسالته السياسية في مكان وسط، وهو المكان الأمثل لتقديم قصة هذا الفيلم.
 
سمعت أنكم قابلتم مئات الفتيان قبل أن تعثروا على الممثل الذي سيقوم بدور “رؤوف”، ماذا كنتم تبحثون عنه بالتحديد في الشخصية؟ هل كنت مهتما مثلاً بالشكل الخارجي للصبي الذي سيقوم بالدور الرئيسي في الفيلم؟
 
سونر: هناك شيء خاص بالمنطقة التي صورنا فيها والناس الذين يعيشون هناك. كل من يسكن تلك المنطقة وحتى الأطفال يملكون سحنات خاصة وكأنهم ورثوا تاريخاً طويلاً من الأزمات والعنف والجمال. العيش في ظلال الأزمات لا يكفي فقط في تسريع بلوغ الأطفال هناك، بل يصل بهم مبكراً جداً إلى النضج. كنا نبحث عن صبي يعكس كل هذا. شخص يبدو من الخارج كصبي لا يزيد عن العشرة أعوام، لكنه يحمل أيضاً روحاً قديمة في داخله.
أليان حسين، ممثلنا الرئيسي يملك هذه المميزات. لا أعرف إذا كان الممثل نفسه ناضجاً، لكنه كان يملك السحنة الخاصة التي كنا نبحث عنها. المفارقة أن الممثل ليس من المقاطعة التي تجري فيها أحداث الفيلم، إذ أنه من مدينة إسطنبول، لكنه ولد وعاش في منطقة ارتبطت تاريخياً بالحركات اليسارية والشيوعية في تركيا، ومرت تلك المنطقة بفترات عدم استقرار طويلة. 
كيف كان العمل مع ممثلين غير محترفين، وهل تنوي الاستمرار في هذا النهج في أفلامك القادمة؟
 
سونر: كان هناك إيجابيات وسلبيات في العمل مع ممثلين غير محترفين. من السلبيات: أن كونهم غير محترفين يعني أحياناً عدم انضباطهم. عملنا مع مدرس تمثيل حتى يساعدهم على تعلم أسس معينة مهمة كثيراً في عملنا. أما بخصوص الشطر الآخر من سؤالك إذا كنت سأواصل الاستعانة بممثلين غير محترفين، إذا نويت تقديم قصصاً تستند إلى أحداث وشخصيات فعليّة أو تدور في مناطق تتميز بإثنيتها الخاصة، سوف أستعين بممثلين من المنطقة، لأن حضورهم على الشاشة هو شيء مميز فعلا ولا يمكن الاستغناء عنه في تقديم القصص.
 
نحن في العالم العربي تعرفنا في السنوات الأخيرة على تركيا عبر المسلسلات التركية. لكننا لا نعرف إلا القليل عن السينما الفنيّة التركية. هل يمكن أن تصف لنا حال المشهد السينمائي الفنيّ التركي خارج دائرة المهرجانات السينمائية، هل تعرض الأفلام المُختلفة في الصالات السينمائية، وما هي منافذ عرضها الأخرى؟
 
علي: هذا نقاش لا يتوقف هنا في تركيا. في الحقيقة من الصعب الحصول على فرص جيدة للعرض الجماهيري للأفلام الفنيّة. بالطبع المنتجون هنا مثل غيرهم يرغبون بعرض الأفلام التي تبيع تذاكر في صالات السينما. منذ عام 2000 والسينما التركية تمرّ بعصر نهضة، لكن رغم هذا فنحن فشلنا في الترويج للسينما على عكس نجاحاتنا في الدعاية للمسلسلات التلفزيونية التركية. المشكلة في الجمهور الذي اعتاد على مشاهدة المسلسلات التركية التي تتميز بدراميتها العالية، والذي عندما يشاهد السينما التركية الفنيّة يقف مُتردداً وحائراً أمام هذه السينما التي تختلف كثيراً عن المسلسلات بإيقاعها الخافت وعدم مساومتها.
أعتقد أننا فشلنا في الترويج لسينمانا كفن بخصائص مميزة في الخارج. وفي تركيا أيضاً نحن نعاني صعوبات كبيرة في لفت انتباه الجمهور. نحن نسعى مع فيلم “رؤوف” أن نكسر هذه الدائرة، ونصل إلى جمهور واسع. وخاصة الجمهور من المنطقة التي تجري فيها أحداث الفيلم. 
 
الفيلم رغم بطئه، لكن يتضمن العديد من العناصر التي يمكن أن تجعل جمهور كبير يتفاعل معه، كالمشهديات الجميلة الواسعة، والشخصيات المركبة الثرية. 
 
علي: ليس هناك العديد من مشاهد الحركة في الفيلم. لكن نتمنى أنه سيجذب الجمهور بسبب تحليله وغوصه في عوالم الشخصيات ومنها شخصية “رؤوف” وغيرها من شخصيات الفيلم.
 
ما هي التحديات التي يواجهها منتجي السينما المستقلة في بلد مثل تركيا؟
 
علي: التمويل هو التحدي الأكبر لجميع منتجي السينما الفنيّة، بغض النظر عن الجنسية أو البلد الذي تعيش فيه. لفيلم “روؤف”، نجحنا لحسن الحظ في الحصول على منحة من وزارة الثقافة التركية، كما حصلنا على تمويل أجنبي كجزء من الإنتاج الدولي المُشترك. التحدي الآخر كان التصوير في المواقع الأصلية لقصة الفيلم. لا أستطيع أن أصدق إلى الآن أن “كانر” هو من تلك المنطقة، لأني أعتقد انها منطقة غير صالحة للعيش (يضحك).
المنطقة صعبة بجغرافيتها، هناك أميال وأميال عديدة فارغة خارج القرية. عندما تسقط الثلوج يصبح من المتعذّر التنقل أو مغادرة القرية. التصوير استغرق سبعة أسابيع، صورنا في الشتاء لستة أسابيع متواصلة، وعدنا لأسبوع بعدها لنصور المشاهد التي تجري في فصل الربيع.