رجل الجاز المصري

محمد موسى

يبدأ زمن فيلم “رجل جاز القاهرة” (Cairo Jazzman) للمخرج الألماني من الأصول التونسية عاطف بن بوزيد قبل أربعة أسابيع من انطلاق الدورة الثامنة لمهرجان القاهرة السنوي للجاز والتي نُظمّت العام الماضي، وينتهي مع اختتام تلك الدورة. وعلى رغم العمر الطويل نسبيا للمهرجان الموسيقي، إلا أن الفيلم يكشف وعبر مرافقته لمؤسّس المهرجان ومديره عمرو صلاح، المشاكل الجمّة التي مازالت تواجه وتُعرقل عمل المهرجان والثقافة عموماً في مصر، وأن ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2001، وتبدُّل الحكومات والأنظمة في البلد العربي الأكبر بعدد سكانه منذ ذلك الحين، لم يُغيرا كثيراً على صعيد الذهنيات والأداء، حيث مازال الفساد يُطبق على مفاصل الدولة، والإهمال والتضييق يُحاصران الفن والثقافة الحقيقين.

ولأن عمرو صلاح ليس مُديراً عادياً لمهرجان موسيقي، بل يُمثّل بنشاطه كعازف ومؤلف موسيقي، أحد الأسماء المهمة في المشهد الفنيّ المهمش في مصر، هذا من شأنه أن يفتح الفيلم على أسئلة الفن ومكانته ودوره في مجتمع يمرّ منذ عقود بتحولات متنوعة وعميقة.

يُحقق الفيلم التسجيلي في اتجاهات عدة، ويُواجه المخرج في مشهد قوي أحد المسؤوليين في وزارة السياحة المصرية بخصوص الدعم الضئيل الذي يحصل عليه المهرجان، والذي لا يوازي القيمة المهمة له، إذ وضع المهرجان مدينة القاهرة ضمن مشهد الجاز العالمي.

يتسّع بحث الفيلم ليتناول مكانة الثقافة الجديّة في مصر بالمطلق، ويقابل مصريون وأجانب يعيشون في مصر للحديث عن حال القاهرة التي يسكنها أكثر من عشرين مليون من البشر، ولا توفِّر إلا القليل من الصالات الخاصة بالعروض الثقافية والفنيّة.

وُلد المخرج عاطف بن بوزيد في ألمانيا، ودرس الصحافة ويعمل منذ سنوات كصحفي رياضي في قنوات تلفزيونية ألمانية. اُختير فيلمه “رجل جاز القاهرة” في الدورة الأخيرة لمهرجان روتردام الدولي ضمن برنامج “أصوات”، وحضر “عمرو صلاح ” وقتها العروض الجماهيرية للفيلم في المدينة الهولندية.

المخرج عاطف بن بوزيد

عن الفيلم، كان هذا حوار مع المخرج “بن بوزيد” ..

هل كان حُبك لموسيقى الجاز هو الذي قادك إلى القاهرة وإلى موضوع فيلمك؟

ذهبت إلى القاهرة للمرة الأولى في حياتي في عام 2002 بهدف تعلُّم اللغة العربية هناك. طاقة تلك المدينة الفريدة وفوضاها وحيويتها غمرتني تقريباً، فُتنت بالمدينة وبالناس الصادقين الذين قابلتهم هناك. القاهرة ليست مكاناً سهلاً بالتاكيد، لكنها أيضاً مكان خاص، وكانت تجربة قضاء وقت فيها مُرضية لي.

وعلى الرغم من مغادرتي القاهرة في وقت متأخر من ذلك العام، لكن المدينة بقيت معي. مع الوقت تشَّكلت عندي فكرة إنجاز فيلم تسجيلي هناك، عمل من شأنه أن يبرز وجهات نظر مُختلفة عن المكان وعن ساكنيه. الموسيقى، بما تمثله من لغة كونية تربطنا جميعا بغض النظر عن أصولنا، كانت الواسطة المُلائمة لإظهار وجهات نظر جديدة عن المدينة ..

أما بخصوص موضوع الفيلم، والذي سيكون عن موسيقى الجاز في القاهرة، وعن شخصية تمتهن العزف الموسيقي وأسست وتدير مهرجاناً، فلقد وجدته يتضمن فكرة قوية، ويظهر جوانباً مُختلفة من العالم العربي، ومن شأنه أن يوسع أُفقنا لما يحصل في ذلك الجزء من العالم، وهذا كان هدف فيلم “رجل جاز القاهرة”.

هل كان صعباً إقناع عمرو صلاح بالمشاركة في الفيلم، وماهو المشروع الأولي الذي عرضته عليه؟

تشَّكلت فكرة عمل فيلم عن “عمرو صلاح” ومهرجان القاهرة لموسيقى الجاز في أواخر عام 2013. كنت مُقتنعاً بأني سأحقق هذه الفكرة، وأنها تستحق الجهود التي ستبذل من أجلها. عندها عرضت الفكرة على “صلاح” وطلبت منه المشاركة في فيلم تسجيلي عنه وعن مهرجان القاهرة للجاز. كنت فرحاً كثيراً بعد قبوله المشاركة، ولأنه فهم بأن هدفي هو إظهار جانباً مختلفاً من القاهرة.

المشروع كان في جانب منه تسجيلاً لمراحل تنظيم مهرجان القاهرة للجاز، وفي الجانب الآخر تسليط الضوء على الجهود والعقبات التي يواجهها العاملين في مؤسسات المجتمع المدني هناك، حيث تمثل الموسيقى والثقافة جزءً لا يستغنى عنه من روح العمل المدني.

الفكرة الأولية للمشروع كانت تسجيل الجهود الشجاعة للمصريين في إدارة المهرجان، من المتحمسين لجعل موسيقى الجاز النخبوية هناك متاحة لجمهور واسع، وتسهيل انتقالها إلى الجيل القادم، هذا على رغم أن مهرجان الجاز يفتقد أي دعم، شعرت أن هذه القصة يجب أن تروى وأن تصل إلى الجمهور.

فيلمك يبدأ بتسجيل يوميات الشخصية الرئيسية قبل أربعة أسابيع من بداية المهرجان، هل كان هذا مقصوداً؟

كانت الفكرة المبدئية هو جعل بداية زمن الفيلم قبل شهر واحد من بداية المهرجان الموسيقي. الأربعة أسابيع التي تسبق تنظيم أي حدث تكون دائماً أكثر الفترات توترّاً، كما أنها توفر عدّ تنازلي طبيعي و خط زمني واضح للفيلم.

هذا بالطبع وفرَّ لي كصانع أفلام الفرصة لكي أُظهر التقلبات العاطفية لشخصيتي الرئيسية في الأيام الأخيرة التي تسبق انطلاق المهرجان. وأُتيح لي أن أوثّق الصعوبات التي واجهها مع ميزانية المهرجان الضئيلة والحد الأدنى من المساعدات من الجهات الحكومية.

علاوة على ذلك، كان يمكنني أن أمزج هذه القصة مع إظهار روح جيل الشباب في المهرجان لخلق مناسبة كهذه. في النهاية، وثق “رجل جاز القاهرة” بورتريه غير تقليدي لقاهرة نابضة بالحياة، مجهدة، وساحرة.

ماذا يمثل مشهد موسيقى الجاز في القاهرة بالنسبة لتعامل الحكومة هناك مع قضايا ومتطلبات الشباب والثقافة؟

لكي أكون صادقاً، لا يوجد اهتمام من الحكومة في الشباب والثقافة هناك. هذا أمر معروف، قضايا الشباب لا تحتلّ الأولويات في أجندات السلطات الحاكمة هناك. النقص الكبير جداً في الصالات الفنيّة والموسيقية في تلك المدينة العملاقة هو أمر لا يمكن تعتيمه.

الفرص لجيل الشباب، وبرامج التعليم، وخاصة للقادمين من بيئات اجتماعية فقيرة محدودة للغاية. وللمقارنة، مدينة “مانيز” الألمانية التي يسكنها 200 ألف شخص، تضم نفس عدد الصالات الفنيّة الموجودة بالقاهرة التي يعيش فيها أكثر من 20 مليون نسمة.

رغم كل هذه المصاعب، هناك مصريون لا يريدون فقط أن يغيرّوا الواقع من حولهم، لكنهم ناشطون لإحراز تقدم في هذا الاتجاه. هذا ما حاولت تسجيله في فيلمي.

في واحد من مشاهد الفيلم واجهت مسؤول في وزارة السياحة المصرية بخصوص الدعم الذي يتلقاه المهرجان من الوزارة، هل يمكن أن تخبرنا عن ظروف ذلك المشهد، ولماذا رغبت في تلك المواجهة؟

في الحقيقة أتذكر رد فعل لصديق مكسيكي حضر واحد من العروض الأولى للفيلم. عندما بدأت مشاهد وزارة السياحة، قفز ذلك الصديق من كرسيه في الصالة من الإثارة، وقال أن هذا الجزء يذكره بالبيروقراطية المكسيكية.

أحبب ردة الفعل تلك كثيراً، لأنها بينت أن هذه المواجهة مع البيروقراطية، هي مثال عن مشاكل مؤسسات المجتمع المدني مع السلطات، وأنها أمر لا يخصّ مصر وحدها، بل يمكن التعرف عليها في العديد من الدول حول العالم.

في حالة مهرجان القاهرة لموسيقى الجاز، الموقف في وزارة السياحة أظهر التناقض بين الوعود والفعل. ورغم أنه من الإيجابي معرفة أن هناك وعياً بالدور المهم لحدث فنيّ مثل المهرجان حتى داخل الدوائر الرسمية في البلد. لكن هذا الوعي لم يترجم إلى أفعال، أو إلى دعم مالي يعكس أهمية مهرجان دولي مثل مهرجان القاهرة للجاز، وما يقوم به من الترويج لصورة أخرى مختلفة للبلد، وتوفيره الفرصة للموسيقيين المحليين للمشاركة والعزف والغناء مع مطربين معروفين على نطاق عالمي. كان هدفي من تلك المواجهة توضيح أن المهرجان يستحق بالكامل الدعم المالي الحكومي.

عندما بدأ المهرجان، هيمنت الموسيقى ومشاهد من حفلات الفنانين في المهرجان على الفيلم، هل أردت بتلك النهاية أن توجّه تحية إلى موسيقى الجاز؟

أحب موسيقى الجاز كثيراً، وبينما أني لم أصنع هذا الفيلم لكي أوجه تحية إلى “الجاز”، لكني لا أمانع إذا قرأ المشاهد الفيلم على هذا النحو. كان الهدف الرئيسي لي منذ البداية هو إظهار أن هناك وجود لمؤسسات المجتمع المدني في القاهرة. هذا الوجود ليس كبيراً وباعتراف الجميع، لكن هناك مصريون يحاولون بناء مجتمع مدني، ديمقراطية، حقوق إنسان، ثقافة، وموسيقى. يمثل نشاط هؤلاء ظاهرة تختلف عما يراه الغرب في هذه المنطقة، حيث تهيمن الأخبار السيئة، العنف، الفقر، والخوف من الإسلام.

أردت أن أوثّق أن هناك تغييرات في التفكير والذهنيات، وخاصة عند جيل الشباب. إذ أنهم متلهفون ومصرون على تحقيق مشاريع بأنفسهم. والموسيقى هي التي ساعدتني للتفكير في هذا الجانب من الحياة في القاهرة.

كيف اخترت الموسيقى لهذا الفيلم؟

في البداية أود أن أشكر جميع الفنانين الذين ساهموا بموسيقاهم في “رجل جاز القاهرة”. أشعر بالامتنان العميق للفرصة التي أتيحت لي للعمل مع هؤلاء الموسيقيين المتميزين. كان واضحاً لنا منذ البداية بأننا سوف نستخدم التسجيلات الخاصة بحفلات المهرجان كموسيقى للفيلم. كانت مُهمة المونتير الخاص بالفيلم (سباستيان لاينتر) اختيار القطع الموسيقية التي تلائم الخطوط السردية في الفيلم. وفي النهاية أريد أن أقول بأن عملي كمخرج لن يكون له أي قيمة من دون ما قام به “عمرو صلاح” وفريقه والعاملين في الفيلم، كنت محظوظاً كثيراً بالعمل مع ناس رائعين، والذين ألهموني وساعدوني كثيراً لتحقيق هذا الفيلم التسجيلي.