ساشا ووترز فراير: وينوغراند ألهمني!

محمد موسى

فيلم "غاري وينوغراند: كل شيء قابل للتصوير"، يستعرض الحياة العاصفة القصيرة للفنان الذي حاول أن يبقى في الظل، لكنه لم يكن قادراً على وقف الهزات والتغييرات المجتمعية من الوصول إلى حياته المهنية والشخصية.

في أول الأعمال التسجيلية التي تتناول سيرة المُصور الفوتوغرافي الأمريكي غاري وينوغراند، تستعيد المخرجة والمصورة الفوتوغرافية ساشا ووترز فراير في فيلمها “غاري وينوغراند: كل شيء قابل للتصوير”، الحياة العاصفة القصيرة للفنان الذي حاول أن يبقى في الظل، لكنه لم يكن قادراً على وقف الهزات والتغييرات المجتمعية من الوصول إلى حياته المهنية والشخصية.

بدأت مسيرة وينوغراند في منتصف الخمسينيات، وبلغت ذروتها في الستينيات، وشهدت بعض العثرات في السبعينيات من القرن الماضي. ترك الفنان وراءه آلاف الصور الفوتوغرافية التي طبعها في حياته، وآلافا غيرها من الصور التي لم تحمض بعد، إذ كان التصوير لـ “وينوغراند”، هو الأوكسجين الذي يتنفسه الفنان الأمريكي.

بحساسية المصورة الفوتوغرافية، تُنقب المخرجة الأمريكية في المنجز الفنيّ القيم الذي تركه وينوغراند، وتركب فيلمها الطويل من مقابلات وصور فوتوغرافية التقطها الفنان في الشارع الأمريكي، المكان الأثير لدى وينوغراند، وبالخصوص في مدينة نيويورك، حيث صوّر أفضل أعماله، قبل أن يخرج منها في أوقات لاحقة في حياته إلى مدن أمريكية أخرى�� وليصور من هناك صوراً فوتوغرافية، تعد اليوم، من أكثر الأعمال الفنيّة التي التقطت روح الزمن والتغييرات التي مرَّت على المجتمع الأمريكي في النصف الثاني من القرن العشرين.

في موازاة استعادة سيرة وينوغراند المهنية، تمرّ المخرجة على الحياة العائلية للفنان، والتي عانت بسبب هوسه الدائم بالتصوير، فتزوج وطلق ثلاث مرات، وأنجب أبناءً، أخذهم معه أحياناً في جولاته التصويرية. تخضع المخرجة منجز وينوغراند للنقد، وتحاول أن تربط على نحو ما بين أعماله الأقل جودة، والفترات السوداء في حياته العائلية.

تقابل المخرجة خبراء فن وتصوير، تضيف شهاداتهم قيمة أكاديمية للفيلم، بيد أن الأخير سيكون في النهاية، وبسبب اختياراته وتقربه من عوالم وينوغراند، تحية عاطفية مؤثرة للفنان الأمريكي، وللأمريكيين المجهولين الذين حفظهم وينوغراند من النسيان، وخلدهم بصور الكثير منها شديد التميز.

عُرض الفيلم في الأشهر الماضية في مهرجاني: سان فرانسيسكو وSXSW الأمريكيين، وفاز بالأخير بجائزة تقديرية لأفضل عمل أنجزته امرأة عن رجل.     

عن فيلم “غاري وينوغراند: كل شيء قابل للتصوير”، هذا حوار مع المخرجة ساشا ووترز فراير:   

بحساسية المصورة الفوتوغرافية، تُنقب المخرجة الأمريكية ساشا ووترز فراير في المنجز الفنيّ القيم الذي تركه وينوغراند، وتركب فيلمها الطويل من مقابلات وصور فوتوغرافية التقطها الفنان في الشارع الأمريكي

وِلدت وعِشت في مدينة نيويورك، وتعملين كمصورة فوتوغرافية ومخرجة وأستاذة جامعية في مادة التصوير الفوتوغرافي. هل كنت واعية منذ وقت مبكر من حياتك بأعمال المصور غاري وينوغراند الآتي هو أيضاً من نفس المدينة، وأنجز أهم أعماله فيها؟ هل كنت معجبة بهذه الأعمال؟ وما الذي شَدك إليها؟

تعرفت على أعمال المصور والفنان غاري وينوغراند أثناء دراستي في مدرسة الفنون البصرية في مدينة نيويورك. والتي حصلت منها على شهادتي الجامعية في عام 1991. بدأت حينها بتجميع كتب تتضمن أعماله، وحضرت أول معرض استعادي له، نُظم في متحف الفن الحديث في نيويورك في عام 1988. كان وينوغراند فناناً مؤثراً عليّ عندما كنت بعمر الشباب، حتى أني كنت أصور صوري الفوتوغرافية بكاميرا من نوع Leica M4P، والتي كان يستعمل مثلها وينوغراند.

في فيلمي، وصف المدير الفنيّ لمتحف “MoMA ” في مدينة سان فرانسيسكو إرين أوتول بشكل رائع ما يميز أعمال وينوغراند، حين قال: ” أنها تجعل الفوضى مرئية”.

أنا منجذبة منذ زمن طويل إلى سعي وينوغراند لمطاردة الفوضى، والتحديات التي أخذها على عاتقه لاحتواء هذه الفوضى ضمن حدود الفوتوغرافيا. وهذا ما شكل تحديا لي كصانعة أفلام، أي احتواء الفوضى التي صورها وينوغراند ضمن حدود الكادر السينمائي. أؤمن أنه يُمكن تعلم الكثير عن الفن، وعن كونك شخصاً في هذا العالم، عبر النظر إلى الصور التي أنجزها وينوغراند.

متى بدأت بالتفكير بهذا المشروع التسجيلي؟ وما هي خططك الأولية حينها؟

في عام 2013، تم تنظيم معرض استعادي شامل لأعمال وينوغراند في متحف “ MoMA ” في مدينة سان فرانسيسكو، وبعدها انتقل المعرض إلى عدة مدن أمريكية ووصل إلى متحف “The Met ” في نيويورك حيث شاهدته هناك. مشاهدة أعمال وينوغراند والتأثر بها جعلتني أتساءل لماذا لا يجود فيلم تسجيلي عنه؟ عندما اتصلت بغاليري ” Fraenkel “، والذي يُمثل ويُدير تركة الفنان من الصور الفوتوغرافية. لأسألهم عن سبب غياب أي فيلم تسجيلي عن وينوغراند، كان جوابهم، لا أحد اتصل ليعرض عمل فيلم عنه، وطلب مني أن أرسل لهم فكرتي عن الفيلم الذي أنوي إنجازه حتى يتم النظر في الموضوع. هذا الأمر كان مثيراً كثيراً لي.

الغاليري والمسؤولون عن تركة وينوغراند كانوا على درجة عالية من الثقة والكرم في كل شيء، وكانوا شركاء مثاليين في تحقيق هذا المشروع.

في النهاية، عملت هذا الفيلم لأني من جانب كنت أريد أن أغطس بشكل أعمق في أعمال وينوغراند، وأقضي وقتا بينها، ومن الجانب الآخر، كنت أريد أن أشاهد فيلماً تسجيلياً عنه، والذي لم يكن موجوداً حتى ذلك الوقت.

نحو مليون صورةالتقطها وينوغراد في الشارع الأمريكي، المكان الأثير لديه، وبالخصوص في مدينة نيويورك، حيث صوّر أفضل أعماله، قبل أن يخرج منها في أوقات لاحقة في حياته إلى مدن أمريكية أخرى.

بالإضافة لإخراج الفيلم، قمت أيضاً بعمليات المونتاج، هل لك أن تأخذينا عبر مراحل إنجاز العمل، البناء، والإطار الزمني؟

بدأت أولاً في البحث، والذي شمل قضاء أسبوع في مركز أرشيف وينوغراند في مدينة توكسون. لتنطلق بعدها في عام 2013 عمليات جمع الأموال للفيلم. بدأت في إنجاز المقابلات في عام 2015 مع فريق تصوير صغير، انتهينا منها في عام 2017. المشروع كان بطيئا، لكنه مدروس كثيراً. في البداية لم أكن متأكدة أن القصة في الفيلم سيتم روايتها حسب الترتيب الزمني التصاعدي. كنت مستعدة لاكتشاف بناء آخر.

على أية حال، سريعا انتبهت أن التغييرات التي عصفت بحياة وينوغراند، تعكس بطرق عديدة صعود وهبوط المجتمع الأمريكي في النصف الثاني من القرن العشرين.

 كان من المنطقي أن نبدأ بطفولة وينوغراند في الثلاثينيات، ثم الانتقال عبر العقود حتى وفاته المفاجئة في الثمانينيات. والتي أعقبها الجدال والدراما عن أعماله التي عرضت بعد وفاته. صور وينوغراند لم تلتقط فقط الأزمان المتغيرة، لكنها عكست وعبر العقود الهواجس والاهتمامات، التي تخبرنا الكثير عن وينوغراند الفنان والإنسان.

ما هي التحديات التي واجهتِها في البحث والعثور على المواد الأرشيفية للفيلم؟ هل نجحتِ في الحصول على كل ما تريدين لفيلمك؟

من البداية، كنت أعرف أني اريد أن ارجع وينوغراند للحياة عبر الكلمات القليلة التي ألقاها في تجمعات عامة، والحوارات التي أجريت معه. في نهاية عام 2015 قمت باكتشاف رائع – من النوع الذي يشكل حُلماً لمخرجي الأفلام التسجيلية – إذ عثرت على تسجيلات صوتية لوينوغراند قام بتسجيلها مصور وصديق للفنان في عام 1977. هذه المحادثات هي عفوية وحميمية ومضحكة، وأساسية للإحساس بحيوية وينوغراند ووجوده في خلال زمن الفيلم التسجيلي.

كما استخدم الفيلم بسخاء الأفلام المنزلية من نوع 8 ملم التي صورها وينوغراند في الستينيات. لذلك، نعم، أشعر بأنني محظوظة لأنني اكتشفت مثل هذا التنوع الغني من المواد البصرية وغيرها من المواد التي يمكن تضمينها في الفيلم.

التقط وينوغراد صوراً فوتوغرافية، تعد اليوم، من أكثر الأعمال الفنيّة التي التقطت روح الزمن والتغييرات التي مرَّت على المجتمع الأمريكي في النصف الثاني من القرن العشرين.

وينوغراند أنتج مئات الآلاف من الصور في حياته. هل كان صعباً اختيار صور بعينها لتمثل مسيرته؟ هل تبعت ذوقك الخاص في هذا المجال؟

على رغم أن الفيلم استخدم ما يقارب من أربعمائة من صور وينوغراند الفوتوغرافية، إلا أنه كان من الصعب جداً الاختيار. في البدء كنت مترددة في الذهاب وراء ذوقي الخاص، واعتمدت على آراء مدراء فنيين لمتاحف مثل: جون سزاركاوسكي والتي اختار صورا للفنان في كتابه الذي يحمل عنوان Figments. وليو روبنفيان والذي اختار بدوره صورا للكتالوغ الخاص ب “وينوغراند” الذي نشر في عام 2013.

بحلول خريف عام 2017، وبعد فترة انغماس طويلة مع المواد الصورية الخاصة ب “وينوغراند”، والاستماع لنصائح ونقد من زملاء مخرجين ومصورين فوتوغرافيين على النسخة الأولية من الفيلم، أصبحت أكثر ثقة في حساسيتي الجمالية فيما يتعلق بالصور والتسلسل للمشاهد. واعتمدت أيضاً على آراء المصور والصديق القديم جيف لاد، والذي يعيش في مدينة كولن الألمانية. والذي استشرته في النسخة النهائية لتحرير الصور الفوتوغرافية في الفيلم.

في النهاية، هذا الفيلم الوثائقي هو مزيج من أشهر صور وينوغراند (مع صور أقل شهرة)، والتي ركزت عليها كتب ومعارض تناولت مسيرة الفنان. كما العديد من الصور الجديدة التي تم اكتشافها في أشرطة الصور الفوتوغرافية التي لم يتم تحميضها بعد للفنان.

لمس الفيلم وبشكل مؤثر كثيراً العلاقة بين وينوغراند وأبنائه، بيد أننا لا نراهم في الفيلم، هل كان هذا خياراً خاصاً لك؟

نعم. في الحقيقة لم أكن متأكدة وحتى مراحل متقدمة من التصوير والمونتاج، إذا كنت سأُضمّن أبناء وينوغراند (إيثان، لوري وميليسا) في الفيلم. إيثان سمح لي باستخدام موسيقاه الرائعة في الفيلم. كما أني ناقشت إجراء مقابلة مشتركة مع الأبناء الثلاثة، والتي أتصور أنها ستكون ممتعة لو تم إجراؤها.

في النهاية شعرت أن الفيلم بدأ عندما كان الأبناء صغاراً، لذلك أردت أن أترك حياتهم كبالغين مفتوحة لمخيلة المشاهد وتأملاته. وكما عبر ذلك ليو روبنفيان في الفيلم، عندما قال: “كيف نعيش جميعاً في عالم من الوهم … لا نعرف من أهلنا، لا نعرف من هم أولادنا”، والتي بقي صداها في بالي.