سليم عقار للوثائقية: سينماتيك الجزائر الأولى عربيا والثانية عالميا بعد فرنسا

حوار: محمد علال 

مدير سينماتك الجزائر الناقد سليم عقار يتحدث عن شكل "الحقيبة الذهبية" للسينما الجزائرية والعربية

أحيانا تقرر الأمكنة الصمود، وهي بذلك لا تريد لذكرياتنا أن تموت أو تشيّع في جنازة النسيان، تماما كما هو حال سينماتيك الجزائر التي ترفض محو ذكريات كل الذين قصدوا بابها في شارع العربي بن مهيدي وسط العاصمة الجزائرية

لقد مضى نصف قرن على تأسيس متحف السينما الجزائريةعام 1965، والتي تعد أول سينماتيك في العالم العربي، وهي اليوم تراقب الماضي كأنها فراشة تلتمس ألف عذر لمن طالب باغتيالها ذات يوم، وقد نجت بأعجوبة من كل محاولات التخريب والتفخيخ خلال العشرية السوداء التي عرفتها الجزائر (1990-1999).

سينماتيك الجزائرهي عنوان الذاكرة الأول، لهذا تنقل المخرجة الفرنسية جاكلين غوزلاندفي مقدمة فيلمها الوثائقي قصتي التي لم تُكتبعلى لسان نائب رئيس اليونيسكو جان ميشيل أرنولد” قوله عندما وصلت إلى الجزائر وجدت شيئاً قلب موازين طفولتي، لقد كان جان ميشيل يتحدث عن الذكريات الأولى لتأسيس قاعة سينماتيك الجزائر، وذلك بوحي من الباحث السينمائي الفرنسي وصديق الجزائر هنري لانجلو، وهو أيضا مؤسس سينماتيك فرنسا، وتشير الحكاية إلى أن هذا الأخير نجح في إقناع وزير الثقافة الجزائري الأسبق محمد يزيد بضرورة تأسيس مكان يحفظ ذاكرة السينما الجزائرية، ليتحقق الحلم في 23 يناير/كانون الثاني عام 1965، وتم تعيين محيي الدين مسعودي أول مدير لسينماتك الجزائر

إلى غاية اليوم، لا توجد أي قاعة سينمائية في الجزائر استطاعت أن تنافس بريق السينماتيك، فهي تشكل رمزا كبيرا جدا في مخيال كل سينمائي جزائري، وهو ما يفسر حالة الغضب التي رافقت قرار تعيين المدير الجديد سليم عقار، فقد وجد هذا الأخير نفسه محاصرا بعريضة وقعها أكثر من مئتي سينمائي بين مخرج ومثقف وممثل؛ طالبوا بضرورة الحفاظ على هذه القاعة، وتكليف شخص آخر قادر على أداء المهمة. ومن النادر جدا أن ينتفض السينمائيون الجزائريون في وجه قرار يقضي بتعيين هذا المدير أو ذاك.

في هذا الصدد تفتح الجزيرة الوثائقية الموضوع مع المخرج ومدير سينماتك الجزائر الناقد سليم عقار، لمعرفة شكل الحقيبة الذهبيةللسينما الجزائرية والعربية وأهمية المنصب.

تنقل المخرجة الفرنسية "جاكلين غوزلاند" في مقدمة فيلمها الوثائقي "قصتي التي لم تُكتب" على لسان نائب رئيس اليونيسكو "جان ميشيل أرنولد" قوله "عندما وصلت إلى الجزائر وجدت شيئاً قلب موازين طفولتي"

تأسست قاعة السينماتيك عام 1965 بتوجيه من وزير الثقافة الجزائري محمد يزيد، وقد مضى اليوم أكثر من خمسين عاما على ميلاد هذا الصرح، ما أهمية المكان بالنسبة للسينما الجزائرية؟

لا أحد يستطيع أن ينكر الدور الذي لعبته قاعة السينماتيك، فاليوم هي جزء هامّ من تاريخ السينما الجزائرية الذي لا يمكن الاستغناء عنه بأي شكل من الأشكال. لقد مضى أكثر من 50 عامًا، وخلال تلك المرحلة عرفت السينما العالمية تغييرات هامة من أبرزها انتهاء عصر الـ35 ملم وبداية عصر الصناعة الرقمية، وهذا الأمر زاد من حجم ومسؤولية السينماتيك الجزائرية التي تحتفظ بذاكرة هامة ونادرة جدا من أفلام الـ35 ملم، فهناك أفلام لا يوجد منها إلا نسخة واحدة، كما أن خزينة السينماتيك تضم المحفوظات والملصقات الأصلية النادرة للأفلام، وعددا كبيرا جدا من الصور المتوفرة فقط في مكتبة السينماتيك. كما نقوم بالتعاون مع كل القاعات الجزائرية، خاصة تلك التابعة للمركز الجزائري للسينما الذي يشرف على أكثر من عشر دور سينمائية في جميع أنحاء البلاد، والتي تضم جميعا أكثر من 30 ألف فيلم من جميع أنحاء العالم، وهي حصيلة الجزائر من الأفلام منذ الاستقلال، منها بعض النسخ لأفلام موجودة فقط في أرشيفنا، خاصة تلك المتعلقة بالإنتاجات المشتركة.

إنه كنز إنساني هام جدا، وبحاجة إلى الإنقاذ والحماية بكل الطرق، خاصة أن حالة بعض الأفلام كارثية وهناك مخاوف من إمكانية تعرض المواد للتلف بفعل الزمن، وإلى الآن تركزت الجهود للحفاظ على أكبر قدر ممكن من الأفلام الهامة، لكن هناك ملايين الملصقات والأفلام التي تحتاج إلى الحماية، وقد تم ضبط خطة للحفاظ على الميراث السينمائي في الجزائر، وأتمنى أن نحقق الهدف المسطر في أقرب وقت.

الباحث السينمائي الفرنسي وصديق الجزائر "هنري لانجلو"، وهو أيضا مؤسس سينماتيك فرنسا

تعتبر قاعة السينماتيك الجزائرية واحدة من أهم القاعات السينمائية في العالم العربي، لماذا؟

هناك عدة عوامل جعلت الجزائر تمتلك قاعة سينماتك، فبعد الاستقلال؛ أدركت الجزائر أهمية التاريخ السينمائي، وقد أوحى لهم بذلك عدد من أصدقاء الجزائر، خصوصا الباحث الفرنسي هنري لانجلواالذي نصح مسؤولي جبهة التحرير الوطني بتأسيس قاعة السينماتيك، وذلك من أجل الحفاظ على جزء هام من التاريخ، إيمانا منه بأن التاريخ والذاكرة جزء من الاستقلال.

وبهذا الشكل فإن السينما الجزائرية لا تزال واحدة من أكبر المؤسسات السينمائية في العالم العربي، وقد استضافت العديد من المخرجين العالميين والعرب مثل المخرج الكبير يوسف شاهين والمخرج الفلسطيني ميشيل خليفي، وقد وصف المخرج اللبناني جان شمعون الجزائر حينها بأنها مكة الصناعة السينمائية، لهذا السبب تعتبر الفترة ما بين 1965 حتى 1985 العصر الذهبي للسينما الجزائرية بلا مُنازع.

الشهادات محفوظة بالصورة والصوت، وهي الآن مواد أرشيفية هامة جدا، منها حكاية فيلم معركة الجزائر” للمخرج الإيطالي جيلو بونتيكورفو، وكيف كانت الجزائر محور تقاطع الثقافات الأفريقية والأوروبية، ومحطة لرواد السينما الأفريقية، على غرار المخرج السنغالي سيمبين عثمانوالفرنسي كلود شابرول، ونجوم الفن السابع العربي مثل نور الشريف ومحمود ياسين وغيرهم.

لا يجب أن ننسى أن سينماتيك الجزائرية هي الثانية في العالم بعد مكتبة الأفلام الفرنسية، وتعتبر أول سينماتك في العالم العربي.

جانب من نشاطات السينماتيك عام 2014 بإشراف المدير سليم عقار

•  لماذا يجب على كل دولة عربية أن تشيد قاعة سينماتيك؟ 

عندما ننظر إلى حجم الأفلام التي تم تصويرها في العالم العربي، فإن الأمر يطرح السؤال التالي: “ما مستقبل تلك الأفلام بعد أن تنتهي رحلتها في دور العرض السينمائية؟
على سبيل المثال أين أرشيف السينما المصرية التي تعتبر رائدة في الصناعة السينمائية العربية؟ للأسف دولة كمصر ليس بها سينماتيك، وهذا أمر خطير جدا بالنسبة لمستقبل الأرشيف السينمائي، لكن في الجزائر وبفضل هذه القاعة فإننا حافظنا على الأرشيف.

ما يمكنني قوله هو أن هناك مئات النسخ من الأفلام الفريدة الآن، لقد كانت السينماتيك خزانة الأفلام النهائية، وأعتقد أن كل بلد عربي يجب أن يكون لديه خزانة فيلموغرافيا تحكي التاريخ، من المهم أن يكون لدينا أرشيف، وبصفتي عضو الاتحاد الدولي لمحفوظات الأفلامفإن أكبر هاجس تواجهه السينما العالمية اليوم هو الأرشيف، وهو محور نقاش سنوي لصناع الأفلام من أجل إنقاذ الأفلام التاريخية بكل الطرق.

ما هو الفرق بين دور السينماتيك وقاعة السينما العادية التجارية؟

من المهم جدا التفريق بين دور السينماتك والقاعة التجارية، فعلى مدار التاريخ ساهمت قاعة السينماتيك في الحفاظ على الجانب التاريخي، لهذا حققنا العديد من الأهداف ونحصد اليوم ثمار هذه الإستراتيجية، لقد رحل الذين فكروا في تأسيس السينماتيك، وعلينا الآن أن نفكر كيف نرد لهم الجميل من خلال الحفاظ على الأفلام والأرشيف.

المهمة ليست سهلة على الإطلاق، لهذا يجب أن تحافظ قاعة السينماتيك على دورها من خلال عرض الأفلام التاريخية وليس الحديثة، القاعات الأخرى دورها عرض الأفلام التجارية الحديثة، في حين يجب أن تكون زيارة السينماتيك رحلة عبر الزمن للقاء الأفلام والمجلات والصور القديمة، هذا ما أشعر به وأنا أتصفح الأرشيف وخزانات الأفلام الموجودة في قاعة السينماتيك، فعلا هي رحلة عجيبة مع التاريخ.

لقد ظلت أبواب السينماتيك مفتوحة أمام الجميع، وقد كانت في المقابل شهادة ميلاد عدد كبير من نجوم الفن السابع، عندما يأتي الكلام على ذكرها فإننا نشير إلى كل المخرجين السينمائيين الجزائريين من الجيل الأول، هي أحلام المخرج مرزاق علواش والراحل عمار العسكري ولخضر حامينا وأحمد راشدي، فما تحمله هذه القاعة من ذكريات لا تُعد ولا تُحصى

سليم العقاد: قد كنت من أشد المدافعين عن السينماتيك، وتقريبا حضرت معظم الفعاليات التي نظمت فيها على مدار العقود الثلاثة الماضية

*  تم تعينك مؤخرا مديرا لسينماتيك الجزائر في ظلّ ظرف حساس تمر به السينما الجزائرية، كيف تجد المهمة؟

قبلت هذه المهمة بدافع الحب للسينما، لقد وقعت في عشق الفن السابع منذ ثلاثين عاما، واليوم هذه المهمة بقدر ما تشكل بالنسبة لي شرفا عظيما جدا، هي أيضا مسؤولية كبيرة جدا، لأن الأمر لا يتعلق بقاعة عادية وإنما بكنز كبير جدا.

لقد كنت من أشد المدافعين عن السينماتيك، وتقريبا حضرت معظم الفعاليات التي نظمت فيها على مدار العقود الثلاثة الماضية، ويمكن الاطلاع على أرشيفي ومقالاتي في الموقع الإلكتروني الذي أديره.

لا يمكن أن تدخل ميدان السينما إلا بالحب والعشق، لهذا سأواصل رحلتي في حب السينما، لقد تعاملت في بعض أفلامي الوثائقية مع المادة الأرشيفية مثل فيلم شاهينوفيلم معركة الجزائر، لهذا فأنا أدرك أهمية الأرشيف وأقدسه، وسأحاول الحفاظ على  الكنز الذي هو على المستوى الشخصي جزء من طفولتي، فقد عرفت السينماتيك منذ صغري، لكنني لم أكن أتوقع يوما أنني سأكون مديرا لهذه القاعة الرائعة.

فيما يتعلق بمن انتقد قرار تعييني، فإنني أتمنى أن تكون مجرد عاصفة في كوب من الماء، فأنا فعلا أستغرب الأمر؛ لأن من اعترض ركز فقط على مقالاتي النقدية والآراء التي كنت أطرحها، ولا أحد شكك أو طعن في خبرتي ومساري، لكن يجب علينا أن نتعلم ثقافة الاختلاف، لهذا أنا أحترم كل الآراء وما كنت أكتبه من نقد لبعض الأفلام الجزائرية هو نابع من الحب؛ وتلك مهمة الناقد، النقد جزء أساسي من نجاح العملية السينمائية، ولا يمكن أن نبني المستقبل السينمائي على المجاملات والورود فقط

ما خطتك لتطوير نشاط السينماتيك الجزائرية، وما نصيب الحضور العربي؟

ما يشغل بالي الآن هو كيفية إحياء مكتبة الأفلام، وأعتقد أن الأمر يجب أن يعتمد أساسا على نوادي السينما، فمن خلال اللقاءات والتواصل تتكون الأفكار.
لقد ساهمت اللقاءات السينمائية التي كنت أشرف عليها على مدار عشر سنوات في صناعة جيل من السينمائيين الذين يحملون الآن مشعل السينما الجزائرية، ويشاركون في المهرجانات الكبرى من كان وفينيسيا وبرلين، وأنا مؤمن جدا بفكرة النوادي السينمائية، فهي تستطيع تقريب الشباب من التاريخ والأرشيف، علينا أن ندرس الأفلام القديمة الإيطالية والمصرية والروسية والفرنسية، فمن يريد صناعة فيلم جيد عليه أن يدرس أولا كيف صنعت الأفلام العالمية، والمشاهدة هي أهم مدرسة للمخرج.