“عمار الخليفي” .. السينما والكتاب والبندقية

المخرج التونسي "عمار الخليفي"
 
بلال المازني
 
إن أردنا رسم خارطة للسينما التونسية والحديث عن فاتحة الإنتاج السينمائي التونسي فستكون نقطة البداية حتما ذلك الرجل، “عمار الخليفي” مخرج أول فيلم تونسي، أب السينما الوطنية ومؤسِّسها بدون منازع. في إطار مرور أكثر من خمسين سنة على أول فيلم تونسي “الفجر” زرنا عمار الخليفي في مكتبه في قلب العاصمة. اليوم وهو شيخ في عقده الثامن وقد عاصر فترتيّ الاحتلال والاستقلال الوطني، مازال قلمه لم ينضب وعشقه لتاريخ الحركة الوطنية ورجالاتها لم يتزحزح. 
بين السينما والتاريخ والمقاومة كان لنا الحوار التالي مع عمار الخليفي ..
 
لعل المتتبع لمسيرة عمار الخليفي السينمائية يلاحظ انشغال هذا الأخير بسينما النضال الوطني، إن صح التعبير، من فيلمه الأول الفجر مرورا بالفلاقة (المناضلين الشعبيين) والتحدي. فلماذا هذا الاختيار وما هي الأسباب التي جعلت عمار الخليفي يهتم بسينما النضال الوطني؟
 
أعتقد أنه من الواجب بالنسبة لجيلي الذي عاش فترتيّ الاستعمار الفرنسي والاستقلال، وأنا كسينمائي من واجبي أن أوثِّق لتلك الفترة التي لم يتطرق لها أي سينمائي آخر. كل الذين كافحوا الاستعمار والفلاقة الذين صعدوا إلى الجبال والذين أعدموا في منطقة السيجومي لهم من الحق علينا أن نذكرهم ونوثِّق مسيرتهم. 
وقد لاحظت أن هؤلاء الذين ضحّوا بدمائهم من أجل تونس قد تناساهم التاريخ ومن الواجب أن نُعرِّف بهم وبنضالاتهم التي أرضخت المستعمر وأتت به لطاولة المفاوضات مع الحزب الدستوري. كل الأفلام التي أخرجتها والتي كانت تتمحور حول النضال الوطني، وإن كانت روائية إلا أنها كانت مستمدّة من وقائع وشخصيات حقيقية. 
 
لقطة من فيلم "المتمرد"
 
باعتبار أنكم لُقبتُّم بمؤسِّس الفن السابع في تونس وكنتم صاحب أول فيلم تونسي وهو “الفجر”،كيف تصفون لنا مغامرة الإنتاج السينمائي في تونس في فترة الستينات وما هي كواليس فيلمكم الأول؟
 
أول فيلم تونسي كان فيلم الفجر وهو من إخراجي وحتى الفريق التقني كان تونسيا بامتياز، ولكن أسباب وحيثيات إنتاج الفيلم بدأت منذ معركة بنزرت الشهيرة، والتي شاركت فيها شخصيا وتم اعتقالي فيها. 
في معركة بنزرت كانت هناك شركة تصوير تونسية اسمها العهد الجديد، وكان على رأسها يهودي اسمه أندريه بسيس، وقد كلفته وزارة الإعلام آنذاك بتصوير الأخبار التي لم تكن تعرض في التلفاز، ولكن كانت تعرض في قاعات السينما كل أسبوع على أشرطة 16 و35 مم. لكن الذي حدث أن هذه الشركة باعت صور المعركة لقناة إنجليزية رغم أن هذه الصور كانت ملك الدولة التونسية. 
 
حينها قرر الرئيس بورقيبة أن يتم التحكم في مجال الصورة والأخبار وتونسة القطاع، وتم عقد مجلس وزاري في جانفي 1965 والذي تقرر فيه بعث صناعة سينمائية وطنية وإنتاج أول فيلم تونسي وتأسيس مهرجان يعنى بالشأن السينمائي وهو مهرجان قرطاج للسينما.  وفي خطاب لوزير الثقافة وكان آنذاك السيد الشاذلي القليبي، دعى السينمائيين التونسيين إلى إنجاز ملف متكامل لإنتاج أول فيلم تونسي والذي تتكفل بإنتاجه الدولة التونسية، ولكن من الغريب أنه لم يتقدم أي سينمائي تونسي بمقترح لإنجاز فيلم طويل، وكنت أنا الوحيد الذي أعدّ ملف فيلم يروي قصة النضال الوطني وأسميته “الفجر”.
 
في تلك الفترة كانت الدولة التونسية تحاول رسم خريطة سياسية وثقافية واجتماعية معينة، كيف كان تأثير الدولة التونسية على إنتاجكم السينمائي؟
 
لم تتدخل الدولة مطلقا في موضوع فيلم الفجر وحتى أفلامي الأخرى لم تكن المواضيع مفروضة عليّ من السلطة أو حتى مقترحة منها، وذلك بشهادة السيد الشاذلي القليبي وزير الثقافة آنذاك والعديد من الشخصيات الرسمية الأخرى. 
في تلك الفترة كانت هناك رقابة ولكن لم يطل مقص الرقابة أعمالي لا بالإضافة ولا بالنقصان، ورغم ذلك اتهمّني البعض بأنني سينمائي النظام. وفي الحقيقة أنا أستغرب من هذا الاتهام خاصة أن كل أعمالي أنا الذي كتبتها وأخرجتها واخترت مواضيعها بعيدا عن السلطة. فيلم “الفلاقة” مثلا اقتبسته من كتاب حب وثورة للكاتب والشاعر عبد الرحمن عمار. 
 
 
في فترة من الفترات اعتزلتم السينما وانكببتم على الكتابة والبحث التاريخي، مالذي دفعكم للاهتمام بكتابة التاريخ؟ 
 
عشقي للتاريخ يعود إلى فترة الصغر وإلى والدتي التي كانت تقرأ على مسامع أبي كتب التاريخ وكان والدي يستمتع بذلك، ما جعلني أتعلق بالكتب والتاريخ وأشبّ على ذلك، بالإضافة إلى عائلتي التي كانت عائلة فلاقة بامتياز، وكبار المجاهدين والفلاقة التونسيين الذين كانوا يزوروننا في البيت مثل المجاهد الأزهر الشرايطي وساسي الأسود والطيب العمراني، كنت ألتقيهم وأتناقش معهم. للأسف العديد من التونسيين وخاصة الشباب منهم يجهلون التاريخ ولا يعرفون الأزهر الشرايطي مثلا أو ساسي الأسود. 
رحلة الكتابة التاريخية بدأت مع كتاب المنصف باي الملك الشهيد واغتيال صالح بن يوسف ومعركة بنزرت وأتشرف أن محمد المزالي قال إني أنصح الطلاب والباحثين بقراءة الكتاب الرائع معركة بنزرت هذه المعركة التي لم يكتب فيها أحد وهي معركة سياسية وعسكرية وحرب بأتمّ معنى الكلمة. 
 
عشتم تجربتي السينما بعدد كبير من الأفلام والبحث التاريخي بعدد مهم من الكتب، فأين وجدتم أنفسكم أكثر؟
 
وجدت نفسي في الكتابة التاريخية أكثر لأني كنت أتعامل مع أحداث ووثائق تاريخية، لكن السينما فهي خيالية نوعا ما.
 
ألا يمكن الخروج بمزيج بين السينما والبحث التاريخي الموثق؟ مثلا ما يتعارف عليه بالدوكيودراما أو الوثائقي الدرامي؟  
 
في كل أفلامي هناك شيء من التأريخ والتوثيق مثل شخصية إبراهيم بن جاء بالله وصالح الورتاني الذين ذكرتهما في فيلم “تحدي”، وقد أصبح فيما بعد صالح الورتاني يصطحبني إلى كل مواقع التصوير وهو من المجاهدين الكبار الذين حكم عليهم بالإعدام بسبب اغتيال عز الدين باي. في تلك الأيام وللأسف صالح الورتاني ذلك المجاهد العظيم أصبح يشتغل عامل نظافة في مستشفى.