قاسم حول: أنا عاشق للكوميديا السوداء

أحمد قاسمي

ولد الفنان العراقي “قاسم حول” في البصرة سنة 1940 ونشأ فيها، كتب قصة فيلم “الحارس”، ومثل وجسّد أحد أدواره الرئيسية ثم أخرج “الأهوار” و”بيوت في ذلك الزقاق” و”عائد إلى حيفا” و”بغداد من خارج بغداد” و”المغني”. انضمّ إلى الجبهة الشعبية وعمل إلى جانب “غسان كنفاني” بعد أن استقرّ في لبنان هاربًا من نظام “صدّام حسين”. بين تجربة سينمائية وأخرى كتب الرواية وأخرج المسرحية ونشر المقالة النقدية، وتقاذفته السبل حتى انتهت به لاجئًا في هولندا ثم مواطنًا من مواطنيها يناضل وهو على عتبة الثمانين من العمر، ليوفر تمويل فيلمه “العودة إلى الجنة” الذي يحلم بأن يضع فيه عصارة خبرته في الحياة والفن.
جمعتني به أنشطة سينمائية وبحثية – أنا الباحث في جماليات السينما- فتحدثت إليه وقرأت له وأعدت مشاهدة أفلامه وانتهيت إلى القناعة التالية: كم جميل لو نقلت شيئًا من هذه الأحاديث للقارئ العربي، فكان هذا الحوار:

فضلاً عن إبداعك في النمط الوثائقي، تحضر في أفلامك التخيلية عناصر التسجيل بكثرة. ما سرّ هذا الاختيار الجمالي؟

من وجهة نظري فإن السينما هي فن الواقع، الواقع ليس كما هو بصيغته الفوتوغرافية، ولكن عبر رؤية إبداعية تتسم بالشروط الموضوعية لقيم الجمال. وتعبير “السينما فن الواقع” يسري على كل المدارس والاتجاهات السينمائية التي تطورت وأتخذت أشكالاً جمالية مختلفة، سواء في الفيلم الاجتماعي أو الفيلم الكوميدي أو الفيلم التراجيدي أو الفيلم الواقعي. كلها تخضع بهذا الشكل أو ذاك لحقيقة الواقع، وهو واقع الحياة الزاخر بالأبعاد التاريخية والعلمية والفلسفية. الواقع بكل مكوناته من البحار والأنهار والجبال والإنسان والحيوان والعواصف والطبيعة والأمطار. هذه هي السينما، فن الواقع. من هنا تأتي أهمية الفيلم الوثائقي، ولكن أي سينما وثائقية وأي سينما تسجيلية؟ هي السينما التي هي جميلة بمفهومها الفني الصحيح وليست بصيغتها التلفزيونية المتداولة الآن. صادف أني بدأت حياتي السينمائية كمخرج في فيلم “الأهوار” وقد برز الفيلم عراقيًا وعربيًا وعالميًا، وأتخذ منه درسًا تعليميًا في كثير من معاهد السينما لدراسة منهج البناء والصوت والموسيقى وطريقة التصوير. وثمة مخرجون عرفت فيما بعد أنهم لا يعترفون بالفيلم الروائي ويعتبرون الفيلم الوثائقي هو السينما وفي المقدمة منهم “دزيغا فيرتوف”.

أخرجت أفلامًا وثائقية عديدة في مراحل وأماكن كثيرة. هل تفكر في حفظها رقميًا، وماذا سيكون مصيرها في النهاية؟

صورت وأخرجت العديد من الأفلام الوثائقية، في العراق وفي ليبيا وفي لبنان وفي اليمن. وبالتأكيد كانت تلك الفترة تصور بفيلم “السليلويد”، ولم تكن الرقمية قد ظهرت بعد، وشكَل هذا همًا حياتيًا لمخرج ليس بحوزته جواز سفر ويريد أن يتنقل بين بلدان العالم لغرض تصوير أفلامه أولاً، وللإقامة ثانيًا. وكنت مضطرًا لكي أحمل هذه المئات من الكيلوغرامات وأمررها عبر الحدود والمطارات حتى استقريت في “هولندا”. تحتاج هذه الأفلام قبل تحويلها إلى الفورمات الحديثة “الرقمية” إلى ظروف حفظ نظامية من درجة حرارة ثابتة تسعة عشر درجة مئوية ومخزن يخلو من الغبار والرطوبة، وإلا سوف يصاب “السليلويد” بالعفونة ويفقد قيمته النوعية في الصوت والصورة واللون. كل هذه الشروط الموضوعية الغائبة أثرت على نوع الأفلام السينمائية “السليلويدية”. يضاف إلى ذلك أن “إسرائيل”استولت على بعض الأفلام عندما غزت “لبنان”، لكنني كنت أوزع الأفلام دائمًا على أكثر من مصدر. أحاول بين الحين والحين أن أوفر مبلغًا من المال، كي أقوم بنقل فيلمًا واحدًا إلى الصيغة الرقمية.

ألا ترى أن فيلم “الأهوار ” الذي يصور الحياة في منطقة الأهوار سنة 1975 اكتسب قيمة مضاعفة الآن بسبب تجفيف البحيرات في زمن الحرب مع إيران. بمعنى أنه يحفظ صورة لن تعود أبدًا؟

القيمة المضاعفة، صح، ولكنها تكمن في أنه الوثائقي الوحيد الذي غطى عموم الحياة الاجتماعية والبيئية والجمالية في المنطقة. قبل التصوير استطلعت كل المنطقة ومكثت في الاستطلاع قرابة ثلاثة شهور، صورت المنطقة فوتوغرافيًا، وسجلت كل ملاحظاتي. ثم انطلقت بالتصوير بعد أن أنجزت المعالجة السينمائية عن المنطقة. ويوم قرر النظام الدكتاتوري تجفيف منطقة الأهوار متخذًا من الحرب ذريعة لإعدام هذه المنطقة التاريخية المائية وتجفيفها وإماتة الحياة السمكية فيها وإحراق القصب والبردي من جذوره، أعدم فيلم الأهوار. فقد ذهبت إلى “العراق” والأرشيف السينمائي السالب والموجب – بعد سقوط نظام الدكتاتور- فلم أجد الفيلم في قوائم الأرشيف، ثم أخبرتني الموظفة المسؤولة “لقد تم حرقه”! ليس الفيلم فحسب، بل كل مادة التسع ساعات التي تشكل أهم وثيقة تسجيلية عن المنطقة التي تشكل في مساحتها ثلثي جنوب العراق، هذه المنطقة التي تعود للحضارة السومرية قبل سبعة آلاف سنة، حيث عملوا على تهجير سكانها وهم بمجملهم من المسلمين الشيعية وعدد قليل من ديانة الصابئة المندائيين. 
تسألني وكيف تمتلك الآن فيلم الأهوار: بعد سقوط النظام كانت هناك نسخة تالفة طباعيًا في مخابر بغداد، رميت ويبدو أن أحد العمال قد احتفظ بها في منزله، فباعني إياها. أخذتها ووجدتها قد فقدت الكثير من ألوانها الجميلة. قمت بغسيلها وترميم خدوشها بمادة شمعية وترجمتها وتصوير تايتل جديد لها. ثم حولتها إلى فورما رقمية وأجريت عليها تعديلات لاستعادة ألوانها. وهي الآن بحوزتي وأكيد ليست بنفس القيمة النوعية واللونية والصوتية للنسخة الأصلية. 

تتجول بحرية بين فنون القص المختلفة -فنون القص الأدبي والسينمائي والمسرحي”- ما الخيط الناظم بينها؟ وأين تجد نفسك أكثر؟

بداياتي كانت مسرحية، وقد صعدت المسرح المدرسي وعمري عشرة أعوام، ومثلت على مسرح حرفي وعمري ستة عشر عامًا. وبدأت بكتابة المسرحية ونشرت أول مسرحية وعمري تسعة عشر عامًا، ثم نشرت الكثير من الأعمال المسرحية، لكن عيني سينمائية. وعندما تخرجت من معهد الفنون الجميلة بعد خمس سنوات من الدراسة أنشأت فرقة مسرح ومؤسسة أفلام اليوم وأصدرت مجلة سينمائية هي مجلة السينما اليوم. عام 1970 بدأت بكتابة القصة القصيرة فكتبت 25 قصة قصيرة. وفي عام 1996 كتبت أول رواية هي “الخندك” وبعدها أصدرت أربع روايات.. أكتب المقالات والدراسات السينمائية وأصدرت كتبًا بهذا الصدد. أكتب سيناريوهات أفلامي وحواراتها. بالنسبة إلى العملية الإبداعية مترابطة جدلاً بين الأدب والفن بين الرواية والقصة السينمائية والفيلم السينمائي. فأين أجد نفسي أكثر؟ أنا بالتأكيد أجد نفسي أكثر في السينما، لأن السينما هي الفن السابع وهي جامعة الفنون الأدبية والمعمارية والشعرية والموسيقية في إطار واحد ساحر جميل هو الفيلم السينمائي.

على ذكر التراشح بين الفنون، إقتبست رواية “عائد إلى حيفا”، ألا ترى أن ظل غسان كنفاني بقي كثيفاً وأنك لم تتحرر من سلطته إلا بمقدار؟

عرض هذا الفيلم في الحفل الختامي لمهرجان السينما الفلسطينية في دورته الثالثة، والعرض الختامي يكتسب أهمية خاصة في المهرجانات. كانت الصالة تكاد تختنق بالمشاهدين، وكان الجميع صامتًا طوال عرض الفيلم. وما أن ظهرت كلمة النهاية حتى وقف الجمهور مرة واحدة مصفقًا لخمسة دقائق -دون مبالغة- ثم صعدت المسرح لكي أرد على التساؤلات فكانت كلها إيجابية تستفسر عن طريقة تنفيذي للمشاهد وبخاصة مشاهد الهجرة الفلسطينية عام 1948 ومن ضمن الإسئلة كانت تتعلق بعلاقة الفيلم بالرواية وأسئلة تشبه هذا السؤال أن ظل غسان كنفاني المؤلف كان كثيفا في الفيلم.
ومن موقع الأمانة والعلاقة الشخصية مع “غسان كنفاني” بما أني عملت معه في مجلة الهدف قرابة أربع سنوات، وتوطدت علاقتنا الثقافية والإنسانية – سأكون وفيًا لأفكاره ورؤيته للواقع من خلال الرواية، وإلا لماذا أخترت روايته لكي أخرجها للسينما. النص شيء والبعد السينمائي للنص شيء آخر تمامًا. فأنا كتبت سيناريو سينمائي ولم أكتب رواية غسان سينمائيًا. بناء السيناريو يختلف تماما عن بناء الرواية. 

خطان متوازيان رسما حياتك السينما والسياسة: إصطدامك بنظام صدام حسين، وعملك مع الجبهة الشعبية، ولقاؤك بالعقيد معمر القذافي. كيف كان التفاعل بينهما. وما الخط الذي كان عالة على الآخر؟

ولدت فقيرًا وعشت تحت حد الفقر أو ما يسمى “الفاقة” وحين كبرت وعشقت الثقافة والسينما والمسرح وأنا في صباي أو تحت عمر الصبا تساءلت عن سبب فقري وسبب هذا الكم من الفقراء في بلدي، فأشاروا لي نحو النيران التي تضيء ليلنا، نيران آبار النفط. فوجدت نفسي في قيادة مظاهرة كبيرة وأنا أهتف “فليسقط الاستعمار” وكان عمري ستة عشر عاماً. وتمت محاكمتي وأفرج عني، لكني تلقيت لكمة من ضابط أمن إسمه “ناظم الأطرقجي” ألقتني على الحائط الإسمنتي وأدمت رأسي ووجهي، ولا زلت حتى الآن أدفع ثمن موقفي وهتافي “فليسقط الإستعمار” وهذا الهتاف وهذا اليسار هو الذي يحول دون حصولي على تمويل لأفلامي بسبب يساريتي وبسبب نوعية الأفلام التي أخرجها. 
لست بهاو للسياسة، ولكن للضرورة أحكام. عندما رفضت دكتاتورية صدام حسين، أبدلتها بحلم الثورة الفلسطينية وأخرجت عائد إلى حيفا وأنشأت قسمًا للسينما في مسار الثورة ولعبت أفلامي دوراً في حلم لست وحدي الذي أعيش جماله، بل أن كثيرًا من الحالمين في العالم قد التحقوا معنا وكنا نظن بأننا سوف نغير العالم.. لكنه كان مجرد حلم! 
لم أكن قد طلبت اللقاء مع معمر القذافي لكنه سمع عني وكنت أخرج فيلمًا عن التراث في جنوب ليبيا، وعادات الزواج والولادة والأسواق القديمة. وقد أعدت التاريخ كما كان وصورته في ست حلقات وفيلم مستقى من الحلقات. ذات يوم جاءني شخص وأعطاني قصة قصيرة موقعة بإسم “عامر عبد الله” وطلب مني أن أقرأها وأبدي فيها رأيًا، وفيما إذا كانت تصلح لأن تتحول إلى فيلم طويل. قرأتها ليلاً وجاءني في الصباح بدقة الموعد غير المعهود ليبيًا! فعرفت بأن الموضوع ينطوي على أهمية فوقية، سيما وأني استنتجت بأن الكاتب ليس سوى اسم مستعار لمعمر القذافي. فصارحته بأن القصة قد كتبها معمر القذافي، لكنه أكد لي أنها لكاتب ليبي يحمل هذا الإسم. وبعد أيام وجدت نفسي مع وزير الثقافة دون أن يكلمني أحد، وجدت نفسي في موقع إقامة القذافي بمنطقة العزيزية. جلست معه وبعد دقائق طلب القذافي من وزير الثقافة أن يتركنا وحدنا نتحدث. جلست معه ساعة ونصف الساعة، واعترف لي بأنه كاتب القصة وأنه يقترحني أن أحولها إلى فيلم سينمائي طويل وأن أكون أنا مخرجها بميزانية مقدارها ثمانية عشر مليون دولار. كنت أحاوره وأشعر بأن زميلي المخرج توفيق صالح وكأنه جالس أمامي يرصدني وهو مخرج فيلم عن شخصية صدام حسين، وأشعر كأنما يحاول إقناعي بالموافقة. لكنني خيبت ظنه وأقترحت على معمر القذافي مخرجًا عالميًا وهو اليوناني “كوستا غافراس”.

لك قدرة عجية على توليد السخرية السوداء في أفلامك – خاصة فيلم “المغني” ومع ذلك لم تشتغل على هذا الأسلوب كفاية في أعمالك. لماذا؟

هذا صحيح، فأنا من عشاق الكوميديا الراقية والتي يطلق عليها الكوميديا السوداء أو الكوميديا المرة. وفي المشاهد السينمائية وفي رواياتي وقصصي التي أكتبها، فإما أن تكون من الكوميديا المرة أو أن أخفف من التراجيديا الفاجعة فأحولها إلى ما يطلق عليه التراجيديا الإبداعية أي التراجيديا المتسمة بالشاعرية. العسل المر هو العسل الذي يشفي الإنسان من الأمراض. القهوة المرة هي المذاق الشهي في كل صباح. الحب المر هو الذي يتغنى به الشعراء والمطربون “لو كان قلبي معي ما أخترت غيركم، ولا رضيت سواكم في الهوى بدلا، لكنه راغب فيمن يعذبه، وليس يقبل لا لومًا ولا عذلاً” كل الأشياء المرة هي حلوة في نهاياتها. لا أسقط أفلامي ولا رواياتي في الكوميديا الفجة ولكن كثير من المشاهد في أفلامي تحتاج لمثل هذه القهوة المرة أو العسل المر الذي فيه شفاء للناس.. للمشاهدين!

دعنا نختم حوارنا بالحديث عن قاسم الروائي: كتبت “العزير” و “الخندك” و “سوق مريدي و “على أبواب بغداد”، ولكن أعمالك الروائية لا تصل إلى القراء، ولا تتداول كثيرًا، لماذا برأيك؟

هذا هو واقع الكتاب العربي والكاتب العربي. الناشر يطبع ولا نعرف كم نسخة يطبع من الكتاب وهو دائم الشكوى. الناشر في الغرب والكاتب في الغرب يعمل بشكل نظامي وجميعهم سعداء بما يكتبون وما ينشرون. والكاتب المرموق يعيش مترفًا من نتاجه الأدبي وحقوقه المضمونة. هذا في جانب، وفي جانب آخر إنعدام فرص ترجمة الأعمال المزدهرة في العالم العربي. كثير من الأعمال لا تحظى بفرص النشر في الغرب بسبب ضعف عملية الترجمة.  فالكتاب العربي لا يصل للقارئ الغربي وحتى لا يصل القارئ العربي بالعدد المحدود الذي يطبعه الناشر العربي. وفي العالم العربي هناك عالمان: المشرق العربي والمغرب العربي، ولا يعرف أحدهما الآخر سوى ما ندر. وهذه مشكلة. أنا عندما أصدر رواية مهما بلغت قوتها وعظمتها، أكتفي بمائة نسخة أهديها للنخبة المبدعة وأشعر بالسعادة وما يصل للقارئ العام يهم الناشر أكثر مما يهمني. أحب أن أحتفظ بمؤلفاتي مطبوعة وبشكل أنيق جدا ومرصوفة في مكتبتي، وهذا ما سوف أسعى إليه في طباعة أعمالي الكاملة بكتب أنيقة. وهذا يكفيني.