“السعادة”.. سجال المدينة المعاصرة والقرية النائية بالمملكة السعيدة

المدخل إلى فيلم “السعادة” صعب، ليس لأنه غير سجالي ويفتقر إلى موضوع ديناميكي، بل لأن كل ما فيه يدعو إلى التأمل والتفكير في معاني الحياة، وفي العلاقة بين الإنسان والطبيعة، وبالوسط الذي تنشأ فيه علاقات جدلية قديمة وجديدة تميط اللثام عن خفايا النفس البشرية، مهما أحيطت بهالة من السكون والوداعة.

هذا ما يقترحه المخرج الفرنسي “توماس بالميز” على مشاهدي منجزه الجمالي الذي استحق عليه جائزة أفضل تصوير ضمن فئة عالم السينما الوثائقية في مهرجان ساندانس السينمائي عام 2014، ومشاركته رؤيته من زاوية حيادية جدا، لدرجة يبدو فيها النص البصري متطابقا في توصيفه مع الحياة نفسها التي يعيشها شعب مملكة بوتان، وقد صُنِّف حسب مقاييس “مؤشر السعادة القومية” الشعب الأكثر سعادة في العالم.

لا يفسر الوثائقي الفرنسي الفنلندي معنى هذا المؤشر، لأنه يعرف نسبية قياسه، إذ تحتاج لمعايير دقيقة عند حسابها، وهو غير معني بها، ناهيك عن تغيير مستوى تصنيف البلدان بين عام وآخر، مثل غيره من المؤشرات الإحصائية، لكن المؤكد أن واحدا من دوافع العمل الذي استوجب الذهاب إلى جبال الهيمالايا والإقامة في مملكة بوتان لمدة طويلة؛ نابعٌ من هذا التوصيف العالمي الذي يدفع فضول السينمائي لبحثه بصريا وتسجيله.

قرية لايا.. آخر قرية تصلها وسائل الاتصال في المملكة

في مدخل لعوالم المملكة السعيدة اختار “توماس بالميز” مقطعا مسجلا لخطاب ملكها بمناسبة إعلان وصول التلفزيون وشبكة الإنترنت إلى لايا، وهي آخر قرية في المملكة تصل إليها اليوم وسائل التواصل الاجتماعي وقنوات التلفزيون، منذ أن بدأت بوتان بتوصيلها قبل 15 سنة مضت إلى مناطق مختلفة من البلاد.

ومع هذا فقد حرص على تذكير سكان القرية التي تقع على ارتفاع 4 آلاف متر فوق سطح البحر، وتحيطها جبال الهيمالايا من كل جانب؛ بضرورة الحذر في التعامل معها، وتجنب سلبيات الانفتاح على عالم واسع لم تعرفه القرية من قبل، وربما قد يتسبب في إفساد سعادتها، كما يبطن كلامه من معان.

يقودنا المدخل التسجيلي إلى قرية لايا، وسيكون مصير الصبي “بيانغي” مؤشرا على طبيعة السعادة والتغيير الذي سيحدثه فيها وجود التلفزيون بشكل خاص، لأن القرية وسكانها قد بدأوا بالاستعداد لشراء أجهزة التلفزيون، قبل إتمام الدولة بناء البنية التحتية لمشاريع البث ونصب المستقبلات الهوائية.

“بيانغي”.. فقر مدقع يدفع إلى طريق الرهبنة

أولى ميزات المكان في فيلم “السعادة” وقوفه كشخصية رئيسية أمام الكاميرا، وقوة انعكاس طبيعته الهادئة والصارمة على طبيعة البشر الذين يقيمون فيه. فلاحون بسطاء لا تكفي محاصيلهم الزراعية لتوفير مستلزمات الحياة العادية، ومع هذا لا يتذمرون ويقتصدون في تعبيرهم عن أفكارهم ومواقفهم إلى أقصى حد، لدرجة أنهم يكتفون أحيانا ببعض الكلمات القليلة لحسم موقف معين.

إنه سلوك سلمي غير تناحري يضع الأمور في إطارها البسيط، ويسهل ديمومة الحياة نفسها، ومن هنا فإن قرار والدة “بيانغي” إرسالَه إلى معبد القرية ليصبح راهبا؛ سيكون قرارا مبنيا على واقع فقرهم، وموت والده المبكر الذي يضع الوالدة في موقف العاجزة عن توفير طعامه البسيط، وعن منحه مساحة ضيقة في البيت الصغير كي ينام فيه، حتى لو كان ذلك ضد رغبة الصبي الذي أحب المدرسة ومشاركة أهله زراعة الأرض وحصاد غلتها.

من المعبد البوذي إلى حقول الزراعة.. براعة التصوير

يوزع الوثائقي موضوعاته حسب علاقتها بالمكان ومسار حياة الصبي “بيانغي”، وبنفس الروح السائدة في القرية، أي دون حفر تحت السطح لإظهار المخفي من مشاكل وصعاب، مكتفيا بالكلام القليل والكثير من الجمال البصري الذي يضع “السعادة” بين أجمل الأفلام الوثائقية تصويرا، وعليه استحقت مديرة تصويره “نينا بيرنفيلد” الثناء لمسعاها البارع في تعويض النص السردي بنص بصري شديد العلاقة بجوهر المنجز السينمائي الذي يريد نقلنا إلى مكان أهم معانيه الجمال الفطري، وقوة الانسجام النادر بين الإنسان والطبيعة.

قرية لايا التي وصلتها وسائل التواصل الاجتماعي بشكل متأخر في مملكة بوتان

بينما سيكمل صاحبه الفرنسي التحولات التي تطرأ على المشهد العام، من خلال تلمس التغييرات العصرية على القرية وسكانها، وسيبدأ من المعبد البوذي، حيث يُقيم راهب عجوز بصحبة راهب متعلم، وانضم مؤخرا إليهما “بيانغي” بعد أن غادره بقية الرهبان إلى العاصمة تيمفو، مُفضلين العيش فيها على الإقامة في المعبد شبه المهجور.

من حقول الحنطة والشعير المزروعة بصبر لافت على سفوح الجبال الباردة، وعبر حوارات المزارعين القصيرة؛ تُنقل إلينا صورة مختلفة عن مزارع البلاد الأخرى، حيث صارت المكننة جزءا من طبيعة النظام الزراعي فيها، بينما ظلت القرية تعاني صعوبة الحصاد اليدوي، وفلاحوها ينتظرون دخول الآلات الزراعية إلى حقولهم أيضا.

سعادة التكنولوجيا.. ضجيج يقتحم عالم القرية الهادئ

كلام موجز عن الكهرباء وأسعارها، ومخاوف من أن يأخذ التلفزيون قسطا كبيرا مما يحصلون عليه، وفي الوقت نفسه عن وجود رغبة جامحة لدى نساء القرية لإدخال التلفزيون إلى بيوتهن بوصفه مصدرا جديدا للسعادة التكنولوجية التي لم تعرفها القرية بعد، لكن ثمة مؤشرات على قوة اقتحامها عالمهم الهادئ، ويشي بذلك الدور المزعزع ما يسجله الوثائقي عن رحلة المزارع الذي اشترى تلفازا من المدينة، لكنه عند نقله على ظهر حماره سقط وتحطم، مما أثار مشكلة بينه وبين زوجته.

تسجيل حاذق في اللحظة المناسبة التي سبقت دخول التلفزيون إلى بيوت قرية لايا النابتة على قمة الجبل الثلجي، يؤشر إلى ما ينتظره سكانها من تجارب مع جهاز صارت مقاومته شبه مستحيلة، وهذا ما سيدفع الصبي “بيانغي” وخاله للنزول إلى المدينة وشراء تلفزيون جديد مثل غيرهم من العائلات.

سفر العاصمة.. رحلة الصبي إلى الجنة لشراء التلفاز

تؤشر الرحلة إلى تخوم المدينة المضاءة، إلى حلم طالما راود خيال الصبي في مُشاهدة العاصمة المتوهجة بالأضواء، فهي تشبه “الجنة” حسب وصف أخته الكبيرة التي تركتهم منذ سنوات للعمل في مكتب البريد كما زعمت.

الصبي “بيانغي” خلال رحلته لشراء جهاز التلفاز

ستكرس رحلة شراء جهاز التلفاز قطيعة بين الصبي ومعبده، دون إعلان عن ذلك، لكن مؤشر السعادة العصرية يبدو أقوى كثيرا من السعادة الطبيعية بين الجبال المتوهجة بضوء الثلج، والرحلة ذاتها ستفتح عيون الصبي على حقائق جديدة، بعد معرفته بحقيقة عمل أخته راقصة في ملهى ليلي، وتكتمها عن ذلك العمل المعيب.

لقد مسخت المدينة نزاهة وعفة الجبل، لكنها لم تخلق عدوانية متوقعة، بعد تفهُّم الأخ وخالها لحالتها، وتفسيرهم لها بأنها ناتجة عن صعوبة العيش في القرية، وتفضيل الناس العمل في المدينة. تطلب الأمر وقتا طويلا وصبرا كثيرا لحين عثور “بيانغي” على أخته في مدينة لا يعرف أحدا فيها، في مواجهة جلية بين المدينة المعاصرة والقرية المسالمة الفقيرة والنائية.

مواجهة المدينة والقرية.. أسئلة السعادة الشائكة

سعادة المملكة المبنية على شدة تقاربها مع الطبيعة، وترفعها عن متطلبات الجسد، يضعها في تناقض يضع مفهوم العصرنة والمدنية أمام سؤال محرج، ويضع الكائن البشري ورغبته في الحصول على متع جديدة صناعية التكوين موضع سؤال أشد صعوبة من الأول.

وبالتالي سنجد أنفسنا أمام مشهد عام يطرح أسئلة وجودية وفلسفية حول مدى قدرة الإنسان على مقاومة التكنولوجيا الوافدة والثورة الإلكترونية التي تخترق أشد الدفاعات صلابة، ومدى مقاومة النزعة الروحية لاحتياجات الجسد، وبخاصة في الثقافة الآسيوية التي يطرحها الوثائقي الجمالي النزعة والفلسفي الميول، عبر توثيقه مشهد خروج الراهب من معبده، في رحلة عكسية إلى الجنوب بحثا عن الدفء وهجرانا للطبيعة التي أسست لسلام روحي وسعادة فطرية.

ويطرح ذلك أسئلة جوهرية سجالية حول ديمومة وجودها بين الشعب الأسعد، وبالتحديد منذ أن نقل لنا الفرنسي “توماس بالميز” وفريقه “السعادة” الأرضية كما هي دون تزييف.

لقد نقل المشهد وترك لنا التمعن في تفاصيله ومعانيه العميقة.