“احتلال العقل الأمريكي”.. لعبة صناعة الرأي العام المتعاطف مع إسرائيل

انحياز وسائل الإعلام الأمريكية لإسرائيل ليس بجديد، يعرفه من له اطلاع جيد بدورها وبآلية عملها وأهدافها، ومن بين أكثرها خطورة “احتلال” العقل الأمريكي نفسه، وتقليص مساحة انفتاحه على أي حقائق مغايرة غير تلك التي يُشحن بها دون انقطاع، وصارت مع الوقت قناعات راسخة يصعب تغييرها، وبالتالي سهلّت مهمة مرسليها في طمس الحقائق وتمرير الأكاذيب، ليصبح الجاني ضحية، والظالم مظلوما.

الجديد في الأمر يأتينا هذه المرة من السينما، وبالتحديد من فيلم “احتلال العقل الأمريكي” (The Occupation of the American Mind) الطامح إلى تقديم منظور يحاول معاينة طبيعة وعمل تلك الوسائل والعقول المُسيرّة لها بأدوات بصرية ومراجعات تاريخية مقرونة بالشهادات والوثائق والتعليقات العميقة التي رفعت من مستواه، ولمحت في حصيلتها إلى استشرافات الفيلم الوثائقي واتساع موضوعاته.

يقترب الفيلم بجرأة من تخوم معارف أكاديمية، وعمل مؤسسات خطيرة تسهم في رسم سياسات عالمية تُسهل تمريرها عبر طرق “توصيل” معقدة، يحتاج المتصدي لها سينمائيا التمتع بحصانة فكرية وقدرة على التلخيص والتكثيف، كالتي تتمتع بها المخرجة “لوريتا ألبَر”، ومساعدها “جيرمي أرب”، وحسن اختيارهما الشخص المناسب لروايتها، وهو المغني البريطاني والمدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني والكاتب المتعدد المواهب “روجر ووترز”.

نسف عمارة غزة.. تعاطف الرأي العام الأمريكي مع الجاني

يصدم “احتلال العقل الأمريكي” مُشاهده بأول لقطة تظهر فيها صورة مجمدة لبناية سكنية جميلة في قطاع غزة، وبعد ثوان قليلة تتعرض الصورة لاهتزاز عنيف إثر تعرض العمارة نفسها إلى قصف بالقنابل أحالها إلى ركام.

تلك الصورة منقولة من الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة في الثامن من يوليو/ تموز عام 2014، الذي راح ضحيته أكثر من ألفي فلسطيني أغلبيتهم من المدنيين، إلى جانب جرح آلاف منهم خلال أقل من شهرين، وقد تداولت وسائل إعلام عالمية تلك الصورة، وأثارت ردود فعل قوية، وخاصة قصف الطيران الإسرائيلي لمستشفى صغير سوّته بالكامل مع الأرض.

هذه الصورة المرعبة للجرائم والبشاعات المرتكبة لم تظهر بنفس الدرجة في وسائل الإعلام الأمريكية، بل جاءت كالعادة مخفّفة ومأخوذة من زاوية منحازة ومتطابقة تماما مع ما مهدّت له وسائل الإعلام خلال عقود طويلة، فالإحصائيات التي أجريت بعد الهجوم لسبر غور الرأي العام الأمريكي حوله جاءت متطابقة ومتأثرة بعملها، إذ أن أكثر من نصفهم أعطوا الحق لإسرائيل في مهاجمة قطاع غزة.

حق الدفاع عن النفس.. إسرائيل التي تصد اعتداءات الآخرين

من الأرقام المفزعة ينطلق الوثائقي لمعرفة سبب انحياز وسائل الإعلام للطرف الإسرائيلي وتعاطف الناس معه، وعبرها يمهد للدخول في بحث بصري جادّ حصيلته خلال 80 دقيقة، تمثل وثيقة سينمائية هي من بين أهم الوثائق التحليلية المتناولة للصراع العربي الإسرائيلي.

من المبادئ التي كرسها مخططو الإعلام الأمريكي -فيما يتعلق بالجانب الإسرائيلي- الحرص والعمل على إظهارها طوال الوقت، وكأنها تدافع عن نفسها وتصد اعتداءات الآخرين عليها، وبالتالي يكون لها الحق في استخدام كل الوسائل المتاحة لتأمين ذلك. إلى جانب تعزيز القناعة عند المتلقي الأمريكي بصحة وجهة النظر الإسرائيلية عبر تكرار ونقل تبريراتها لأفعالها على مدار الساعة.

لا يسمح بغياب المدافع الإسرائيلي عن الشاشات، أو من صفحات الجرائد وعبر الأثير، وسيلعب التلفزيون دورا كبيرا في عملية “احتلال العقل الأمريكي”، ولتباين آلية تحقيق ذلك يقابل الوثائقي مجموعة من أساتذة الإعلام وخبراء في المجال تناولوا تلك الجوانب بالتحليل المعمق.

طمس العنصر التاريخي.. توجيه الأحداث خارج السياق

يتبين من تفكيك المادة التلفزيونية أن الغلبة كانت دائما للوجوه المدافعة عن إسرائيل، وبشكل خاص في أوقات الأزمات، كما في عدوان 2014، فكان هناك معدل دائم؛ ثلاثة أشخاص مقابل واحد فقط يدافع عن وجه النظر الفلسطينية، وغالبا تكون فرصته لعرضها بشكل جيد أقل من غيره بما لا يقاس.

العمارة السكنية التي قصفت بالصواريخ الإسرائيلية والتي أحالتها إلى ركام

يقدم الوثائقي مقاطع تلفزيونية مسجلّة تُعزّز ما ذهب إليه الخبراء، وبخاصة تلك التي تشدد على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وبكل الوسائل وخلال كل الحروب التي خاضتها. كيف يقع ذلك؟

الجواب كما يقدمه الوثائقي الأمريكي يكمن في طمس العنصر التاريخي، والتركيز فقط على الحدث وحده، ليبدو الصراع الحالي المنقول عبر وسائل الإعلام الأمريكية من دون خلفية تاريخية توضح حقيقة ما جرى في فلسطين، وكيف أبعد أهلها من أرضهم، لتقام عليها هذه الدولة الجديدة.

لقد أرادوا العمل على إظهار المشكلة بحدود زمن وقوعها مجردة من أسباب ظهورها، لهذا اقترح صُنّاع الوثائقي تقديم فصل كامل يعود فيه إلى جذرها.

“الدفاع عن النفس من الأخطار المحيطة”

المراجعة التاريخية هي درس لمن لا يعرف الكثير عن جوهر الصراع، وتوضيح للعقلية التي تحكمّت بالإعلام الأمريكي المتجاهل لحقيقة الوجود والتوسُّع الإسرائيلي. يتوقف الوثائقي في عرضه التاريخي طويلا عند عام 1948، عام النكبة، حين أقرّت الأمم المتحدة تقسيم فلسطين بين اليهود وأصحاب الأرض، ورفض العرب له.

لم يشبع القرار الجائر طموح الإسرائيليين، فراحوا يتمددون ويتوسعون عبر احتلال أراضي غيرهم، فأخذوا أجزاء من مصر وسوريا ولبنان، وبرهنت الوقائع المقدمة في الوثائقي على مستوييها السردي والحكائي كذبة “الدفاع عن النفس من الأخطار المحيطة بنا من كل جانب”، ليعزز بدلا منها فكرة الاحتلال والتوسع وقضم أراضي الدول المجاورة.

يستعرض الوثائقي تكرار الإعلام الأمريكي لنفس الفكرة المُضللة، وبناء وقائع جديدة عليها لا تمت بصلة إلى حقيقة الصراع الممتد لعقود طويلة، ولا إلى دوافع الاعتداءات المتكررة على الفلسطينيين في مدينة غزة، ورسمها “المتقن” لتنظيم “حماس” وكأنه غول يريد ابتلاعهم، مستغلين إطلاقها الصواريخ عليهم لتبرير سياستهم وتنفيذ خططهم المدروسة بعناية، من أجل منع أي قوة أو تأثير خارجي (إعلامي) يدفعهم للتنازل عن ما احتلّوه، أو يلزمهم بقبول فكرة السلام وحل الدولتين.

مراجعة بصرية متينة وغنية بالصورة الحيّة، أظهرت توسع دولة بدأت نواة تشكلّها من قبل الدول الغربية في بداية القرن الماضي، على مساحة لا تزيد عن 10% من مجمل أراضي فلسطين، لكنها أصبحت بفضل الحروب تهيمن على ما يقارب من 80 % منها.

أما البقية المسماة “مستقلة”، فهي في الحقيقة لا استقلال لها، وما انسحابها من القطاع -كما تدعمه قرائن الوثائقي- إلا كذبة تنسف ذريعة “الدفاع عن النفس”، وتُظهر جليا أن ما تصرّ على قوله وسائل الإعلام الأمريكي وتحرص على تكراره كلما خاضت إسرائيل حربا أو شنّت هجوما على الفلسطينيين؛ لا يتعدى كونه تبريرا للجرائم.

“الإرهاب لا الأرض”.. كلمة سحرية تغير مفاهيم اللعبة

يتأمل فيلم “احتلال العقل الأمريكي” مقولة “مارتين فينتون” أحد كبار مالكي أسواق الإعلام الإسرائيلي “البروباغندا (الدعاية) ليست كلمة قبيحة”، ليوضح كيف أن وسائل الاعلام المحلية مع الإعلام الأمريكي روجوا لدعايات أكثر من الحقائق، تجلت في تغطيتها لمذابح “صبرا وشاتيلا”.

فبعد نقل وسائل الإعلام الأوروبية تحديدا للمجازر المرتكبة ضد الفلسطينيين في المخيم بالتعاون مع قوى سياسية لبنانية، وبعد ردود الفعل الغاضبة ضدها؛ قررت إسرائيل تغيير سياستها بالاعتماد على “الدعاية” والكذب الممنهجين.

ففي عام 1984 نظمت مؤتمرا عالميا لوضع إستراتيجية إعلامية مختلفة تمنع ظهور وجهها القبيح للعالم، وأقرت في ختامه وثيقة عمل سميت “هازبرا” تركز على فبركة وصناعة الخبر المصور تحديدا، وجعل الناس يفكرون بطريقة مختلفة من خلال بث الرعب في نفوسهم من كل فعل مناهض لعدوانهم من خلال الكلمة السحرية “الإرهاب”.

سيصور الإعلام الطفل الواقف في وجه دباباتهم إرهابيا، ويصور ردود الفعل القوي ضد عسف وقمع جيشهم وشرطتهم أعمالا إرهابية، وسيعمل على تشكيل رأي عام أمريكي متعاطف، عبر اختصار الصراع وحصره ما بين إرهابيين ومواطنين أبرياء مسالمين. وستنجح تلك الإستراتيجية وتطبيقاتها الأمريكية.

لقد خططوا لأن يصدق المواطن الأمريكي بأن حل المشكلة يكمن في التخلص من “الأشرار” وبقاء “الأخيار” على الأرض، دون لمس تاريخ الصراع أو الإشارة إليه بالمطلق، وإذا ما حاول أحدهم فعل ذلك فينبغي توجيه تهمة “تأييد الإرهاب” ضده.

تكشف مساهمة خبراء عرب في الإعلام وبعض المدافعين عن الحقيقة أن التهمة جاهزة عند مقدمي البرامج، وسرعان ما يشهرونها في وجوه ضيوفهم إذا حاولوا تحليل جذر المشكلة والبحث عن حلول جدية لها، وهو ما سيأخذ تعبيرا جديدا في حقل الدعاية الأمريكية الإسرائيلية؛ “الإرهاب لا الأرض”، فقد اشتغلا عليه وطبقاه على مدى عقود، من خلال تقديم الوعود بدلا من التنازل العملي عن أي أرض أخذتها إسرائيل بالقوة، ومن بينها المستوطنات التي ازداد عددها ثلاثة أضعاف عن ما كانت عليه في بداية تسعينيات القرن الماضي.

“ماذا أنتم فاعلون لو أراد أحد محو وجودكم؟”

يذهب الوثائقي إلى سماع وجهات نظر مفكرين أمريكيين مثل “نعوم تشومسكي” وخبراء إعلام مثل “رولا جبرائيل” و”هنري سيغمان” و”رامي خوري” و”سوت جالي” وغيرهم، ليستأنس بآرائهم حول الموضوع المراد مراجعته سينمائيا، والاستماع إلى وجهة نظرهم في “المشروع الإسرائيلي” الموضوع من قبل “فرانك لانتز”، واتخذه الإسرائيليون لهم منهج عمل جديد.

وقد اعتبر هؤلاء المتحدثون المشروعَ قاموسا يهتدي به صنّاع الإعلام الأمريكي وقادة مؤسساته الكبيرة لما فيه من دهاء وقدرة على التطبيق، وحسب أحد المختصين “إذا أراد المرء فهم البروباغندا في أمريكا عليه قراءة تقرير لانتز”.

فقد أوصى الإسرائيليين بعدم رفض القرارات المقرّة من الأمم المتحدة بالعودة إلى حدود 1967، فذلك يضر بهم ويخرب كل ما شيدوه من أفكار في عقل الأمريكيين خلال أكثر من ستة عقود متتالية، والأفضل لهم التركيز على التهديد العالمي للإرهاب، واعتماد ما ورد في وثيقة أحد منظرّي “حماس” أعلن فيها العمل على إزالة إسرائيل من الوجود، فهذه الكلمات تعادل ذهبا حين يجري التعكز عليها واعتمادها وسيلة لإقناع الأمريكي العادي. كما نصحهم بعرض الوثيقة في كل مكان وأمام كل الشاشات وتكرار ما قاله القائد الحماسي.

المنظر الأمريكي نعوم تشومسكي يتحدث عن المشروع الإسرائيلي

المدهش ما سينقله الوثائقي من عبارات أخذت من بين مئات التقارير الإخبارية، وكلها تقول نفس الجملة “ماذا أنتم فاعلون لو أراد أحد محو وجودكم؟”، نفس الجملة ستتكرر على لسان خطباء يحملون الوثيقة بأيديهم، يقرأون منها فقرات كاملة أمام الكاميرات.

لوبي إسرائيل.. هيمنة تتحدى تعاقب الإدارات الأمريكية

من توجهات الفيلم التركيز دون ملل على تصوير إسرائيل بوصفها ضحية، ليتعاطف المواطن معها، وبالتالي يمكن تمرير كل أعمالهم بسهولة من خلالها.

أما فيما يتعلق باللوبي اليهودي في الولايات المتحدة الأمريكية المدعوم من قادة المحافظين، فيقدم الوثائقي مقاربة تفيد بأن هناك لوبيا إسرائيليا أكثر من كونه يهوديا، لأن نسبة اليهود المؤيدين للمحافظين ليست كبيرة، وبالتالي يجري العمل والتعاون مع الدولة الإسرائيلية أكثر من الديانة اليهودية، مما يحتاج إلى مراجعة متأنية أخذها الوثائقي على عاتقه.

راح الوثائقي يراجع تاريخ اللوبي اليهودي وعلاقته بالإدارات الأمريكية، وفي كل الأحوال الصورة النهائية لها لا تُغير الواقع الذي يقول بدوره إن المؤسسات السياسية الأمريكية على اختلاف توجهاتها رعت ووقفت مع إسرائيل، واتسقت أفعالها مع الإعلام في تبرير كل جرائمها.

وبناء على ذلك ينوّه “تشومسكي” وغيره من المعارضين للتوجهات السياسية الرسمية، إلى أهمية العمل على تغيير العقلية الأمريكية والتأثير عليها بوسائل فعالة، من بينها الانتباه واستغلال وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة التي كسرت احتكار وسائل الإعلام التقليدية، وأتاحت للطرف المغيّب فيها فرصةَ عرض موقفه بشكل لم يسبق له مثيل.

لقد كسرت الوسائل الجديدة الحواجز، وصار كثير من الناس يعرفون حقيقة الصراع وجذوره، لكن العمل ما زال ينتظره الكثير ليزيل بعض مظاهر وآثار “احتلال العقل الأمريكي”.