“هيتشكوك/ تروفو”.. أعظم صناع السينما في القرن العشرين يبوح بأسراره

 

في عام 1962 أنجز المخرج والناقد الفرنسي “فرانسوا تروفو” مقابلة طويلة مع المخرج المعروف “ألفريد هيتشكوك”، ولم تكن تلك المقابلة حدثا اعتاده كلا المخرجين، فقد استمر اللقاء عشرة أيام، وتناول بالتفصيل جميع أفلام “هيتشكوك”، وتوقّف أحيانا على مشاهد شهيرة بعينها من أفلام المخرج، وفكّكها على مستويات عدة، مستعينا بـ”ستوري بورد” (مخطط القصة) الأفلام الأصلي.

وقد نشر “تروفو” هذه المقابلة في عام 1966 في كتاب بعنوان “السينما حَسبَ هيتشكوك”، فتحول إلى المصدر الأهم عن سينما “هيتشكوك” لحد الساعة.

ينطلق الفيلم الوثائقي ” هيتشكوك/ تروفو” للمخرج “كينت جونز” من ذلك اللقاء، ويعيد تقييم إرث “هيتشكوك” المتواصل في السينما المعاصرة، مفسحا المجال لحفنة من أبرز مخرجي السينما الأمريكية والأوروبية، ليوجه كلٌّ منهم على طريقته التحيةَ إلى أحد عباقرة السينما القرن العشرين.

استنطاق الإرث السينمائي.. كفاح المخرج الذي عاند هوليود

في إحدى غرف أستوديوهات “يونيفرسال” في مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، يجلس “هيتشكوك” وقد تجاوز الستين، مع المخرج والكاتب الفرنسي الشاب الذي كان بنصف عمره ليتحدّثا عن “المهنة”، كما وصفها الكاتب والمخرج الأمريكي بول شريدر.

قبل تلك المقابلة الشهيرة، كان “تروفو” وزملاؤه في مجلة “دفاتر السينما” الفرنسية قد حاولوا منذ منتصف عقد الخمسينيات من القرن الماضي إعادة الاعتبار لسينما “هيتشكوك”، بإخراجها من أَسْر الصور والتصنيفات الضيقة كسينما ترفيهية سطحية تتجّه إلى الجمهور الواسع، عبر بحثهم وكشفهم عن لغتها السينمائية المتجددة ودلالاتها النفسية ونضجها الأسلوبي اللافت.

لقد أرادوا ربط سينما “هيتشكوك” بذات المخرج الفنيّة العنيدة التي قارعت نظام الإستديو الأمريكي وشروطه الصعبة التي طالما هشّمت أحلام وخطط مخرجين بارزين، لتشعّ هذه الذات أحيانا عبر أكثر أفلام المخرج شعبية وانفتاحا على الجمهور.

“دفاتر السينما”.. كتابات مبجلة تلفت انتباه “هيتشكوك”

يلفت موقفُ كُتَّاب مجلة “دفاتر السينما” وبالخصوص كتابات “تروفو” المبجلة لسينما “هيتشكوك”، انتباهَ المخرج الإنجليزي الأصل، لتبدأ بعدها صداقة طويلة بينه وبين المخرج والكاتب الفرنسي الشاب امتدّت حتى وفاة “هيتشوك” في عام 1980، وقد حفظ “تروفو” المقابلة في تسجيلات صوتية، ثم صوّرها فوتوغرافيا المصور الأمريكي “فيليب هاسمان”.

المخرج تروفو في مكتبه بمقر مجلة دفاتر السينما

ستحضر تلك التسجيلات والصور عبر الفيلم الوثائقي، بيد أن المخرج لن يتوقف كثيرا عند محتوى تلك المقابلة لاعتبارات عدّة، أهمها أن المقابلة متوافرة في كتاب للراغبين، وأيضا لصعوبة التعامل مع المادة الصوتية الأرشيفية بسبب اللغتين اللتين تتقاطعان في المقابلة (الفرنسية والإنجليزية)، ووجود المترجمة وقتها، وهو ما جعل استعادة فقرات من المقابلة ضمن زمن الفيلم الوثائقي مُربكة، وبَدَت أحياناً غير مفهومة خارج سياقاتها الأصلية.

يجمع الفيلم مجموعة مهمة من مخرجي سينما اليوم، منهم “مارتن سكورسيزي”، و”ويس أندرسون”، والفرنسي “أوليفييه أساياس”، و”ديفيد فينشر”، و”جيمس غراي”، و”ريتشارد لينكليتر”، والياباني “كيوشي كوروساوا”.

شهادات المخرجين.. تأثيرات قلبت تاريخ الصناعة

تختلف شهادات هؤلاء المخرجين حول سينما “هيتشكوك”، لكنها تجتمع على الاحتفاء به والتأكيد على دوره في تطوير سينما المؤلف، رغم أنه عمل تحت نظام الاستديو الهوليودي الصارم، فأثبتت شهادة “سكورسيزي” أهمية سينما هيتشكوك في “تنوير” روح السينما، مما مهّد للتغيرات الحاسمة التي شهدتها السينما الأمريكية في عقد السبعينيات.

بينما ركّز “ويس أندرسون” على التجريب الشكليّ الذي لم يتوقف لدى “هيتشكوك”، فقد كان مُلهما له في أعماله. وتناولت شهادة “فينشر” الطبقات المتعدّدة لسينما “هيتشكوك”، والإيحاءات والمعاني المعتمة التي كانت تنطوي عليها بعض أفلامه، وفاتت لذكائها على المنتجين.

وأما “كوروساوا” فقد كشف عن الصعوبات الشخصية الجمّة التي واجهها في بداياته، لتجنُّب تقليد سينما “هيتشكوك” التي كانت بالغة التأثير عليه.

موقع الطالب المسحور بأستاذه.. أبّهة المخرج العظيم

يكاد دور المخرجين المتميِّزين الذين وافقوا على الحديث في الفيلم الوثائقي، يقترب من ذلك الذي اضطلّع به “فرانسوا تروفو” في مقابلة عام 1962، وهو تحليل أفلام “هيتشكوك” من موقع الطالب المأخوذ بأستاذه.

يتناول الفيلم الوثائقي أفلاما بعينها لـ”هيتشكوك”، ثم يُحلِّلها حسب مناهج فيلمية ونفسية حديثة. كما يفرد الفيلم مساحة لموضوع علاقة “هيتشكوك” الجدليّة بأبطاله وبطلاته، فيعرض الفيلم الوثائقي في هذا الخصوص مقطعا من لقائه التلفزيوني الشهير الذي يكشف فيه أن المخرج يجب أن يتعامل مع ممثلّيه كما يتعامل الراعي مع الماشية.

مشهد من حوار تروفو وهيتشكوك تتوسطهم المترجمة

ومن الممكن كذلك قراءة العلاقة المضطربة بين “هيتشكوك” وأبطاله، فذلك جزء من مساعيه للتحكُّم الكامل بالعملية الفنيّة، وصرامته التي تقاطعت كثيرا مع نجومية بعض الممثلات والممثلين الذين عملوا تحت إدارته.

صداقة المخرجين.. قصص جانبية حول محورية المقابلة

ستكون مقابلة عام 1962 الحدث الذي يبدأ وينتهي به الفيلم الوثائقي، لكنه ينسج من حولها سِيَرا مُكثفّة للمُحاور والضيف على حد سواء، فيعوِّض غياب التسجيل الفيلمي للمقابلة ذاتها بمشاهد أرشيفية عدة لـ”هيتشكوك” في مراحل مختلفة من حياته، منها مشاهد نادرة كوميدية لاختياراته لأبطال أفلامه من حقبة السينما الصامتة. وهناك مشاهد أقلّ لـ”تروفو” الذي كان يُفضِّل العزلة، على خلاف “هيتشكوك”.

يتحدث “تروفو” مع “هيتشكوك” في تسجيل صوتي حول أفلامه الخاصة الثلاثة التي أخرجها قبل تاريخ المقابلة. كما يقدم الفيلمُ من أرشيف المخرج الفرنسي، الرسائلَ التي كان يتسلمها من “هيتشكوك”، على مر السنوات التي أعقبت المقابلة.

لكن الفيلم لا يقترب من تفسير علاقة الصداقة بين الرجلين، أو موقف “هيتشكوك” من موجة السينما الفرنسية الحديثة التي كان “تروفو” أحد مخرجيها الأساسيين.

غياب الأصوات الناقدة.. فيلم يغلب عليه المديح العاطفي

اختار الفيلم الوثائقي أن يكون تحية طويلة غلبت عليها العاطفية لسينما “هيتشكوك”، فخلا من الأصوات المخالفة الناقدة التي لا تعتبر جميع أفلام المخرج تُحفا قاومت الزمن.

هذا المنحى، فوّت الفرصة لنقاش كان سيستفيد منه الفيلم بالتأكيد، عن السينما بمفاهيمها الواسعة وعلاقتها مع الزمن، وتحليل قدرة بعض الأفلام على البقاء حيّة ومتجددة، وفشل البعض الآخر في الإبقاء على علاقة تفاعلية مع جمهور من حقب تاريخية لاحقة.

فهناك بدون شك فروق بين أفلام “هيتشكوك” بالنسبة إلى علاقتها بالجمهور المعاصر، فكثير منها ما زال يملك ذلك السحر الذي غلّفه منذ عرضها الأول، ويحتفظ بقيمة تأسيسية مُهمة، في حين أصاب القِدم أفلاما أخرى للمخرج. وهو أمر كان يمكن تناوله في الفيلم الوثائقي، دون أن يتحول إلى نغمة ناشزة تخالف نسيجه العام.