“شعور أقوى من الحب”.. ذكريات كفاح المرأة الشيوعية المخذولة في لبنان

تبدل المخرجة المسافة وطبيعة المقاربة لموضوعها، فتقرب عدستها في مواضع على تفاصيل مهمة من الماضي اللبناني، وتبعد هذه العدسة في مواضع أخرى.
فاطمة خواجة.. رصاصات تمزق جسد المناضلة المنسية
يتركب الفيلم من ثلاثة أجزاء رئيسية، أولها سيكون عاطفيا ومؤلما بشكل غير متوقع، وفيه تبحث المخرجة عن آثار فاطمة خواجة التي قتلت في احتجاجات عمالية، أمام معمل غندور للدخان في بيروت عام 1972، ولعل مصدر الألم في هذا الجزء أن الفيلم يأخذ على عاتقه مهمة تشكيل بورتريه عن امرأة شابة منسيّة ضاعت قصتها في طوفان الأحداث الدموية التي شهدها لبنان والمنطقة منذ ذلك التاريخ.

تصل المخرجة إلى صحفية لبنانية التقت مع فاطمة في وقتها، وبهرتها بعزيمتها ورفضها للظلم، وهي الآتية من طبقة فقيرة غير متعلمة. بيد أن قصة فاطمة تفقد زخمها ما إن يصل الفيلم إلى البيت الذي عاشت فيه ببيروت، ويلتقي مع أقرباء لها، إذ أنهم ينفون نشاطها النقابي أو انضمامها للحزب الشيوعي اللبناني، فموتها -حسب روايتهم- حدث بسبب رصاصة طائشة من عامل أمن في المعمل، رغم أن تقرير الطبيب الشرعي تحدث عن أكثر من رصاصة اخترقت جسدها.
لينا.. امرأة برجوازية في صفوف اليسار الراديكالي
في القسم الثاني من الفيلم نتعرف على لينا المرأة اللبنانية الآتية من طبقة برجوازية كما تسميها هي نفسها، وقد جذبتها الحركات الشيوعية في شبابها، واختارت منظمة العمل الشيوعي، لأنها أكثر راديكالية من الحزب الشيوعي اللبناني، وحين قامت احتجاجات معمل الدخان انضمت إليها، وأنشأت صداقات مع العمال هناك.
تلعب لينا دور البطولة في فيلم “بيروت اللقاء” (1982) للمخرج اللبناني برهان علوية، وستهاجر مثل بطلة الفيلم إلى فرنسا في بداية الثمانينيات، ولم تزل تعيش هناك إلى اليوم.

لم تخفف السنوات من غضب لينا، ولم تزل تتناول بشفافية لافتة أمراضَ اليسار العربي من شقتها الباريسية، وتتذكر سنوات نشاطها الحزبي، عندما كانت تحمل اسم “وردة” كاسم حركي لها، وتعتبرها أفضل سنين حياتها، وزواجها برفيقها في الحزب، ثم تمردها على كل ذلك عندما شعرت أن رجال الأحزاب لم يتخلوا عن ذهنيتهم الذكورية الشرقية.
تكشف لينا عن القشة التي كانت وراء تركها العمل الحزبي في حوارها الطويل في الفيلم، إذ تقول: عندما طلبوا منا نحن النساء تحضير الفطائر، بينما كانوا يحضرون لاحتجاجات، ذهبتُ إلى بيتي وبقيت هناك.
استغلال العمال.. ذكريات الخذلان تلاحق الحزب الشيوعي
يجمع الفيلم في قسمه الثالث لينا مع رفاق وعمال اشتركوا في الاحتجاجات العمالية في عقد السبعينيات، ليبدأ عندها تقليب الذكريات والمحاسبة والنقد، فقد بدا واضحا أن استعادة ذكريات تلك الأيام صعب لدى بعضهم، بينما لا يزال غضب تلك الأحداث باقيا على حاله لبعض آخر.
توجه لينا انتقاداتها إلى حركة اليسار في لبنان، وتتهمها بالتخلي عن العمال واستغلالهم وعدم إنصاتها الفعلي لهمومهم ومشاكلهم. وفي اتجاه التذكر ذاته، يبحث الفيلم عن نساء ظهرن في فيلم أنتجه الحزب الشيوعي اللبناني في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، وعندما يجدهن، كن لا يكدن يتعرفن على أنفسهن وصورهن المتمردة والقوية التي ظهرت في ذلك الفيلم.
روح الفيلم.. تشبع حزين بأشواق الماضي وأسئلة مطروحة
تطبع المخرجةُ فيلمَها الوثائقي الطويل الأول بتمرد فنيّ خاص، وتغامر بمجموعة من الخيارات الأسلوبية التي تثبت فعالية قوية، بدءا من تأجيرها سيارة أجرة تحمل بوقا يدعو الناس في مدينة النبطية اللبنانية إلى التظاهر ضد استغلال أرباب العمل، في محاكاة لتقاليد منقرضة من الماضي، وإلى اختيارها مشاهد من السينما اللبنانية لتكون مادتها الأرشيفية الأساسية.

يسأل الفيلم أسئلة عدة، ويحقق في حال اليسار بين الماضي واليوم، ويبرز شخصيات نسائية مجهولة، بعضها من النساء العاملات اللواتي لم يعد لهن مكان ضمن الحراك المجتمعي، في ظلّ صراع الطوائف في لبنان.
كما يستعيد الفيلم الزمن المنقضي بروح حزينة، كحال من يجد صورة قديمة له تذكره فجأة بزمن ماضٍ أضحى بعيدا. في أحد مشاهد الفيلم تسأل لينا من باريس زوجها السابق الذي لا يزال يعيش في بيروت: ماذا كان اسمك الحركي يا محمد، وهل تتذكر عندما أخرجتني من السجن بكفالة؟