الكثبان الرملية.. كنز يحرك السينما في الجزائر

“الرمل هو الممثل الأكثر براعة عبر التاريخ”، مقولة للمخرج الفرنسي جاك فيدر (1885-1948) ولا تزال خالدة في سجل دفتر السينما العالمية منذ تصوير الفيلم الفرنسي البلجيكي “أتلانتس” عام 1921، وذلك عندما سحرت مدينتا “ورقلة” و”تمنراست” الصحراويتان الجزائريتان المخرج فيدر وحرّكتاه نحو تتبع خطوات رجليْن فُقدا في الصحراء وألقي القبض عليهما من قبل رجال الملكة أنتينيا “ملكة أتلانتس وأحفاد الأطلنطيين”.
منذ ذلك التاريخ وقعت عدسات عشرات المخرجين في عشق الصحراء الجزائرية الشاسعة التي تشكل 80% من مساحة البلاد، وبإجماع كل من تعامل مع الكثبان فالرمال تحمل مقومات التميز عندما تتحرك بمهارة لتجسّد الخطر والعطَش والخوف، وتحكي القصص وتكشف عن الكنوز المخبأة.
لم يكن من الغريب أن تبدأ الجزائر رحلتها مع السينما عبر بوابة الصحراء، فقد اتجه مؤسس السينما الجزائرية المخرج الراحل طاهر حناش نحو الصحراء لتصوير أول فيلم جزائري عام 1946 بعنوان “غواص الصحراء”، واليوم يحج العشرات من المخرجين الجزائريين إليها بحثا عن صورة مميزة ومشاهد قوية تختزل المسافة بين جمهور السينما اليوم ووجع الجزائريين خلال العشرية السوداء.
“الريح الرباني”.. افتراس الأبيض والأسود
من بين أبرز المخرجين الجزائريين الذين اتجهوا مؤخرا للصحراء؛ المخرج مرزاق علواش الذي قدم خلال السنوات العشر الأخيرة ثلاثة أفلام هامة تم تصويرها في الصحراء وهي “تمنراست” عام 2008، و”تحقيق في الجنة” عام 2016، وشارك مؤخرا برنامج الدورة الـ43 لمهرجان تورنتو السينمائي الدولي الذي عقد من 6 حتى 16 سبتمبر/أيلول 2018 بفيلم “الريح الرباني” الذي صوره في تمنراست بوهج ألوان فوتوغرافيا السوفيات.
يُعتبر مدير التصوير الجزائري محمد صالح العقون أحد أبرز المصورين الشباب الذين يُراهِن عليهم علواش، فقد اختاره المخرج ليكون رفيق دربه في رحلة تصوير الفيلم في الصحراء الجزائرية، وقال مدير التصوير لـ”الجزيرة الوثائقية” إن “كل بيئة تحمل خصوصية معينة تحتاج إلى تقنيات ومهارات خاصة تختلف عن الأماكن الأخرى”. فمدير التصوير الذي كانت له تجربة سابقة في التصوير تحت الماء في فيلم “قنديل البحر” للمخرج ديميان أونوري عام 2016، عاد هذه المرة للغوص في الكثبان بحثا عن مشاهد تتحدى جبروت الأشعة الحمراء والحرارة وحبات الرمال وهي تحاول “افتراس” عدسة الكاميرا.
قال العقون إن “التعامل مع حرارة الطقس يحتاج إلى مراوغة أشعة الشمس خصوصا عندما تنعكس على الملابس السوداء”. ولأن فيلم “الريح الرباني” تم تصويره بتقنية الأبيض والأسود، فالأمر تطلّب الحذر الشديد في التعامل مع تباين الألوان من خلال استخدام التقنيات المزودة في الكاميرات الرقمية من أجل تعديل الصور الفوتوغرافية باللونين الأبيض والأسود دون الحاجة إلى بذل وقت أطول في غرفة المونتاج”.

ومن أجل الوصول إلى مستوى الفن البصري الذي اشتُهر في بداية القرن العشرين مع عدسة المصور الأمريكي أنسل آدمز إستون (1902–1984) الذي اشتُهر بسبب صوره الفوتوغرافية بالأبيض والأسود خاصة في منتزه يوسمايت بالولايات المتحدة، أوضح العقون أن الإضاءة التي تتميز بها الصحراء الجزائرية تؤكد تصنيف موقع الأسفار “تريب أدفايزر” للصحراء الجزائرية في خانة “أجمل الصحاري في العالم”، وأضاف أن “جمال الطبيعة متوّج بكرم ضيافة أهل المنطقة، مما يسهل العمل لمدة أسبوعين من تصوير مشاهد الفيلم”.
لقد قدم “الريح الرباني” مشاهدا من الصحراء نالت إعجاب الصحافة العالمية، وخصصت مجلة “هوليود ريبورتز” مساحة نادرا ما تخصصها للأفلام الجزائرية، وقالت في عددها الصادر بتاريخ 28 سبتمبر/أيلول 2018 إن “التصوير السينمائي بالأسود والأبيض بهيج، ويضيء بريقا يجعل من نور الرمال أشبه ببياض الثلج”.
وأكد العقون أن ما تقدمه الصحراء للشاشة يتجاوز حدود الخيال فـ”الصحراء تجعلنا نتوغل في الشخصية، وعندما نقف أمام الكثبان الرملية ننطلق في التأمل، نعود بالذاكرة والذكريات، لهذا فهي أفضل مناخ لتناول موضوع الذاكرة، خاصة قصص العشرية السوداء”. حيث يغوص فيلم “الريح الرباني” في الحالة النفسية لشاب يُدعى “أمين” (الممثل محمد وغليس) يقضي أكبر وقته في قراءة القرآن والصلاة، ويلتقى بالشابة “نور” (الممثلة سارة لايساك) في قرية صحراويّة صغيرة، تتقاطع الأحداث مع تفاصيل الحزن الذي عاشه الشعب خلال فترة العشرية السوداء والمنعرج الأمني الخطير الذي عاشته الجزائر.
من “وقائع سنين الجمر” إلى “غروب الظلال”
لأزيد من قرن من الزمن شكلت الصحراء علامة فارقة في تاريخ السينما الجزائرية، فقد رافقت مشاهد أهم الأفلام التي تم الاحتفاء بها في المحافل السينمائية العالمية، ولا يمكن الحديث اليوم عن علاقة الصحراء بالسينما الجزائرية دون الإشارة إلى فيلم “وقائع سنين الجمر” وروحه التراجيدية التي نال عنها المخرج لخضر حامينا جائزة “السعفة الذهبية” عام 1975، وهو الفيلم الذي انتقل بين الطبيعة الجبلية للجزائر وصحرائها، وسلّط الضوء على مساحة الكفاح المسلح الذي قاده الشعب الجزائري من أجل نيل الاستقلال عام 1962.
فالصحراء الجزائرية لم تكن فقط البند الأكثر تعقيدا في اتفاقية إيفيان بين الحكومة الجزائرية المؤقتة برئاسة كريم بلقاسم عام 1962 وبين سلطات الاستعمار الفرنسي برئاسة لويس جوكس ووزير الشؤون الجزائرية في عهد الجنرال ديغول، بل ظلت شاهدة على أهم الأعمال السينمائية في تاريخ الجزائر قبل الاستقلال وبعده. وقد عاد المخرج لخضر حامينا إلى الصحراء مدفوعا بالحنين للنجاح الذي حققه “وقائع سنين الجمر” وفيلم “رياح رملية” عام 1982، وقرر أن يصور فيلما آخر بين الكثبان بعد أربعين عاما بعنوان “غروب الظلال”، وقدم عام 2014 تجربة مميزة في الصحراء الجزائرية قال عنها لخضر “للصحراء الجزائرية جمال سينمائي صارخ خصوصا في منطقة تيميمون، وهي المنطقة التي عدتُ إليها من أجل تصوير فيلم “غروب الظلال””.
يحكي أحدث أفلام لخضر حامينا (أُنجز بالشراكة مع الوكالة الجزائرية للإشعاع الثقافي ورعاية وزارة الثقافة الجزائرية) قصة رقيب فرنسي يؤمن أن الجزائر تنتمي لفرنسا، فيتمرد جندي مواجها إياه عندما يُطلب منه إعدام جزائري يُطالب بالحرية، وتتوالى الأحداث وصولًا إلى المشهد الأخير في الصحراء الحارقة، حيث يحاول الجندي الهرب من مصير حالك. وقال لخضر عن التجربة “الصحراء مناخ رائع لإظهار الجانب الإنساني لكل شخصية”.

“البئر”.. حين تُرسم الذاكرة في الصحراء
بعد عام من إنتاج “غروب الظلال” أعطت وزارة الثقافة الجزائرية الضوء الآخر لإنتاج فيلم “البئر”، وقد كانت الصحراء بوابة أول تجربة سينمائية روائية طويلة للمخرج لطفي بوشوشي تحديدا من مدينة الأغواط الصحراوية ليتناول جوانب من تاريخ الثورة الجزائرية، مصوّرا معاناة سكان الجنوب وسط حصار قوات الاستعمار الفرنسي.
هذه التجربة السينمائية راهنت عليها الجزائر للفوز بالأوسكار عام 2016، حيث تم اختيار “البئر” ممثلا للجزائر. وعلّق المخرج أحمد راشدي على الفيلم قائلا “سر نجاح البئر هو تفوقه في إدارة التمثيل وأداء مدير التصوير في التقاط المشاهد في الجنوب الجزائري”. وحسب راشدي فإن لطفي بوشوشي تمكّن من تجاوز صعوبات التصوير في المنطقة الصحراوية التي كانت مناخا مناسبا لرسم مشاهد من الذاكرة الجزائرية.
وبشكل عام فإن الصحراء كانت مناخا مناسبا لتصوير الكفاح الذي قاده المواطن الجزائري ضد المستعمر، كما تُجسّد الجملة الشهيرة للشهيد الراحل العربي بن مهيدي “ألقوا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب”، والعبارة الشهيرة التي تختزل كفاح الثورة الجزائرية “بطل واحد هو الشعب”.
الصحراء الجزائرية.. محطّ أنظار الأجيال
لا تستهوي الصحراء الجزائرية المخرجين الأجانب ولا مخرجي الجيل القديم فقط، بل إن عيون الشباب تتجه أيضا نحو الصحراء في السنوات الأخيرة، ولا يوجد أفضل دليل من تجربة ثلاثة من المخرجين الجزائريين الشباب الأكثر تميزا، منهم فيلم “في انتظار السنونوات” للمخرج كريم موساوي الذي سافر إلى ولاية بسكرة لتصوير مشاهد من الفيلم ونجح به في دخول مسابقة “نظرة ما” لمهرجان كان عام 2016، وفيلم “مسخرة” للمخرج إلياس سالم الذي حصل على جائزة “المهر الذهبي” لمهرجان دبي، وأفضل فيلم في مهرجان القاهرة، وجائزة أفضل فيلم عربي في أمريكا عام 2008.
واليوم قرر المخرج الجزائري الشاب أمين سيدي بومدين -هو الآخر- أن يجعل من الصحراء بوابة لأول عمل سينمائي طويل في مساره، فبعد أن قدم فيلمين قصيرين قرر التوجه إلى الصحراء الجزائرية لتصوير فيلم “أبو ليلى” إنتاج عام 2018، وهو العمل الذي حصل منه على دعم من “سيني فوناسيا” لمهرجان كان السينمائي عام 2016.
كما يستعد مخرج الفيلم القصير “غدا الجزائر” مع شركة “تالا فيلم” لخوض تجربته الروائية الطويلة الأولى، وذلك في رحلة تتتبع خطوات “أبو ليلى”، وهي حكاية رجل يعيش في تسعينيات القرن الماضي ترميه أمواج العشرية في داومة العنف والظلم ويبحث عن مفاتيح لحياة مختلفة. ويستعد المخرج لتصوير الفيلم بين ثلاث ولايات جزائرية صحراوية هامة، بداية من تمنراست وتيميمون وأدرار، مع الاعتماد على ممثلين محليين ينحدرون من الصحراء الجزائرية سيرافقون أمين بومدين رحلة تصوير الفيلم لمدة سبعة أسابيع.

الصحراء الجزائرية.. انبهار برتغالي
رغم التطور الذي وصلت إليه تقنيات التصوير فإن مواجهة الكاميرا لقوة الصحراء يُصنف ضمن خانة “السهل الممتنع” كما تُشير المنتجة الجزائرية أمينة موسى حداد لـ”الجزيرة الوثائقية” في معرض حديثها عن تجربتها في إنتاج فيلم “زوس” للمخرج البرتغالي باولو فيليب مونتيرو عندما انطلق الفريق الجزائري البرتغالي في تصوير مشاهد الفيلم عام 2016 في الصحراء الجزائرية، وتحديدا في مدينة “جانت” التي تبعد 2300 كلم عن الجزائر العاصمة.
في هذه الرحلة يروى الفيلم سيرة الرئيس البرتغالي الراحل مانوييل تيكسيرا غوميز (1862-1941) الذي توفي بمدينة بجاية بالجزائر. وقد راهن المخرج على الطبيعة الصحراوية الأكثر وعورة، كما تقول المنتجة أمينة موسى حداد لـ”الجزيرة الوثائقية” إن “هناك ثلاثة أنواع من الصحراء في الجزائر؛ الصحراء الرملية التي نجدها في ولايتي وادي سوف وبسكرة وورقلة، وهناك صحراء تمنراست، إضافة إلى صحراء جانت”.
راهن مخرج فيلم “زوس” على طبيعة “جانت” الصحراوية “، ليصور مشهد أول لقاء للرئيس البرتغالي مع الأرض الجزائرية عام 1930، فما تحمله الصحراء من سحر كان كفيلا بنقل الذاكرة إلى تلك اللحظة، وهو ما ذكرته المنتجة الجزائرية أمينة حداد حين قالت “مشهد الكثبان الرملية في بداية الفيلم ينقلنا إلى عمق شخصية لا نعرف عنها الكثير، ولم نقرأ عنها في التاريخ إلا صفحات قليلة”، وأكدت أن اختيار الصحراء أضاف الكثير للفيلم على نسقين “الأول له معنى معنوي ضمني مرتبط بطبيعة شخصية بطل الفيلم، والثاني يتعلق بالجوانب الفنية لما تعكسه الصحراء الجزائرية من سحر يتشكل منذ شروق الشمس حتى غروبها”.
وتؤكد أمينة أن التعامل سينمائيا مع طبوغرافيا الصحراء الجزائرية يحتاج إلى جهد كبير، فبحسبها فإن “بعد المسافة يتطلب ضبط أجندة خاصة ومحددة بعناية لترتيبات التصوير، بداية لا نقبل أكثر من 900 كلغ من معدات التصوير، والاستعانة بفريق متكامل يضم حوالي 20 تقنيا محترفا”. وأضافت “عملنا لمدة خمسة أيام دون توقف، للخروج بالمشاهد الأكثر إبهارا في الفيلم الذي تم تصوريه بين مدينتين مختلفتين تماما في كل شيء، بين ولاية بجاية الساحلية وتمنراست الصحراوية”.
أوضحت أمينة أن سكان المناطق الصحراوية الجزائرية علامة مميزة تساهم في تسهيل تصوير الأفلام، لتكون النتيجة مذهلة ومميزة. وهذا يظهر بوضوح عندما يجلس الجمهور الأوروبي أمام أفلام صُورت في الصحراء، فكما قالت أمينة إننا “لاحظنا انبهارا للجمهور البرتغالي بالفيلم منذ المشهد الأول، وهي حالة الإعجاب التي عبّر عنها الرئيس البرتغالي مارسيلو ريبيلو دي سوزا شخصيا عند العرض الأول للفيلم بالعاصمة البرتغالية لشبونة”.