“الاختيار”.. قصة “ترامب” و”بايدن” منذ الطفولة حتى الشيخوخة

أزمة صحية كبيرة أجبرت والدة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” على الابتعاد لسنوات عن طفلها عندما كان في منتصف عامه الثالث، وهو الأمر الذي سيحدد ويؤثر إلى حدود كبيرة على علاقات “ترامب” بالنساء، إذ سيشوبها عدم الثقة والتخوين، فهو لن يأتمن امرأة في حياته، سواء زوجاته أو صديقاته العديدات.

أما “جو بايدن” -المرشح الديمقراطي آنذاك الذي نافس “ترامب” في سباق الرئاسة- فقد مر أيضا بطفولة صعبة للغاية، إذ جعلته التأتأة معزولا عن الطلاب في صفه في المدرسة، وكان أحيانا مصدرا للسخرية لهم، فكانت تجارب الطفولة وتحدياتها الحافز الأكبر لكل الخطوات والخيارات الكبيرة القادمة في حياته المهنية والخاصة.

هذا ما يخبرنا به الفيلم التسجيلي “الاختيار” (The Choice 2020: Trump vs. Biden)، وقد أنتج سنة 2020 (قبل إجراء الانتخابات)، وعُرض على قناة “بي بي س” الأمريكية المستقلة في تقليد للقناة التلفزيونية التي تعتمد على المساعدات الحكومية والتبرعات، إذ تقدم فيلما تسجيليا عن المتنافسين على لقب الرئيس الأمريكي قبل أسابيع من كل انتخابات أمريكية.

يستعرض الفيلم خلفيات المرشحين السياسية والعائلية عبر الغوص في مئات الساعات الأرشيفية، والحديث مع مقربين من المرشحين وصناع القرار والتاريخ في الولايات المتحدة.

لا يبدو الاستعجال على الفيلم التسجيلي الذي أخرجه “مايكل كيرك”، واستغرق إنتاجه شهورا قليلة فقط، فالعمل يتنقل بثقة كبيرة بين أبرز المحطات السياسية العامة للمرشحين “ترامب” و”بايدن”، كما أنه لا يغفل الحياة الخاصة والعائلية للمرشحين، فيوليها وقتا شافيا واهتماما وافيا لما لها من شأن وتأثير على مسارات حياة المرشحين.

“كان يقف لساعات أمام المرآة”.. شبح حي من أيام الطفولة

يتنقل الفيلم التسجيلي الطويل بين الفترات الزمنية ذاتها للمرشحين الأمريكيين، فيبدأ من الطفولة، وينجح في الحصول على شهادات قيمة لشخصيات كانت قريبة من المرشحين في تلك الفترات، منها واحدة لأخت “بايدن” واسمها “فاليري”، وقد وصفت الألم الكبير الذي عاشه أخوها في طفولته بسبب التأتأة، وكيف أنه قرر أن يترك يوما ما صف المدرسة -بسبب استهزاء المُدرسة به- والعودة وحده لبيت أهله.

يصف الكاتب الشاب “جون هندريكسون” طفولة “بايدن” التي استند فيها على شهادة السياسي الأمريكي نفسه قائلا: “كان “جو بايدن” يقف لساعات أمام المرآة في البيت، ويُعيد نطق الكلمات نفسها حتى يتمرن عليها”، و”هندريكسون” نفسه يعاني من مشكلة التأتأة، وقد أضاف بشهادته بعدا غير معروف كثيرا عن هذه المشكلة التي يُمكن أن تعرقل أو حتى تشل الصعود الاجتماعي للذين يعانون منها.

“ماري ترامب” ابنة شقيق الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” تتحدث عن الفترة التي دخل فيها “ترامب” إلى الكلية العسكرية حيث وجد آماله

تغلب “بايدن” على التأتأة، وإن ظل شبح هذه المشكلة يخيم على حياته كلها، وسيتحول الصبي المولود لعائلة من الطبقة المتوسطة إلى أحد الشباب ذوي الشعبية في المدرسة لذكائه وطيبته ووسامته، وهذا قد مهد لدخوله معترك السياسة وهو في صفوف المدرسة الإعدادية.

“ترامب”.. ظلال التربية القاسية في العالم المخملي

على الجانب الآخر من المقارنة بين المرشحين لم يكن “ترامب” يعاني من مشاكل صحية، بيد أن تأثيرات والده الغني المتسلط القاسي كانت لها عواقب مُدمرة على شخصية الطفل الأمريكي، لكنه حظي باهتمام أبيه بعد أن رفض الابن الأكبر للعائلة “فريد” أن يسير وفق مخططات الأب المسبقة لأبنائه.

دخل “ترامب” الكلية العسكرية وجذبه نظامها القاسي، بل إنه تحول إلى جزء من هذا النظام عندما تولى مسؤولية القاعة التي كان يسكن فيها في المعسكر.

صورة بورتريه للرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في صباه

يُنقل عن تلك الفترة قسوة “ترامب” المبالغ فيها ضد زملائه، وعدم اشتياقه إلى أهله، حتى أنه لم يفكر بزيارتهم في سنوات الكلية العسكرية، فالشاب الأمريكي –حسب ابنة أخيه “ماري ترامب”- وجد المحيط الملائم لشخصيته وأحلامه.

إفلاس نيويورك.. حقبة الظلام التي بزغ فيها نجم “ترامب”

بعد أن بحث الفيلم في طفولة وشباب “ترامب” و”بايدن” قفز إلى عقد السبعينيات، وبالتحديد إلى مدينة نيويورك التي كانت تمر بأكثر حقبها الزمنية سوءا، إذ كانت المدينة تقترب من الإفلاس، وكانت الجريمة والفقر يهيمنان على الحاضرة العالمية التي كانت بعيدة كثيرا عن سنوات توهجها السابقة.

بزغ نجم “ترامب” في هذه الأجواء المعتمة كرجل أعمال شاب يحمل اسم أسرته الغنية، ويحمل أيضا أحلام أبيه في الثراء والنجاح، وكان هَم “ترامب” أن يضع بصمته في سوق العقارات في حي مانهاتن الشهير، فاستغل أزمات المدينة الكبيرة في الحصول على عقد لترميم أحد الفنادق الفخمة هناك، بعد أن أصابه الإهمال والنسيان.

“روي كون”.. ملهم “ترامب” المثير للجدل

لم يكن “ترامب” وحده، إذ إنه حصل على دعم “روي كون”، وهو سياسي ديمقراطي مثير للجدل في حي مانهاتن، وهو الذي سيمهد له الطريق في الدخول إلى سوق عقارات الحي والمدينة، وسيكون له تأثير كبير للغاية على “ترامب” يوازي ما تعلمه من أبيه.

صورة تجمع الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” مع “روي كون” السياسي الديمقراطي المثير للجدل

حصل “ترامب” على مبلغ كبير من بلدية المدينة لترميم الفندق وتشغيله، وكان فاتحة لمشاريع أخرى بعضها جدلي للغاية، وكثير منها كان نصيبه الفشل والخسارات.

ترك “كون” أثرا كبيرا للغاية في تشذيب شخصية الشاب “ترامب”، إذ تعلم منه أن يهاجم أعداءه دائما، وأن لا يعتذر يوما عن أفعاله، وأن يستغل الأزمات من حوله، ويعرف ثمن كل شخص يقابله أو يتصدى له.

“بايدن”.. بداية الحلم السياسي على نهج “كينيدي”

بينما كان “ترامب” يشق طريقه في عوالم المال كان “بايدن” مشغولا ببناء مستقبل سياسي في الحزب الديمقراطي الأمريكي، وكان قدوة السياسي الشاب حينذاك الرئيس الأمريكي “جون أف كينيدي”، حتى أن بعض المقربين من “بايدن” في بداية السبعينيات تنبؤوا له بمستقبل واعد مثل مستقبل الرئيس الأمريكي الراحل.

اختار “بايدن” منذ بداية مساره السياسي أن يقف مع المهمشين، فتقرب كثيرا من طبقة الأمريكيين السود، وأصبح -وهو الأمريكي الأبيض- ممثلا وصوتا لها.

صورة بورتريه للمرشح لمنصب الرئاسة الأمريكية “جو بايدن” في طفولته التي عُرف فيها بتعثره بالنطق

يتذكر أمريكيون من أصول أفريقية علاقاتهم مع “بايدن”، وأرجعوا تعلقه بمجتمع الأمريكيين السود إلى شبابه، حيث عمل كمشرف على مسبح في منطقة كان يعيش فيها أمريكيون سود، وهناك تعرف “بايدن” عن قرب على مشاكل هذه الفئة من الأمريكيين.

فضيحة الخيانة الزوجية.. “ترامب” تحت أضواء الإعلام

يفرد الفيلم مساحة للحياة العائلية للمرشحين الأمريكيين، إذ اختار “ترامب” منذ بداية شبابه أن يقترن اسمه بعارضات الأزياء، فتزوج زوجته الأولى “إيفانا” في عام 1977، وقد كان لها شأن كبير في دفع اسمه في عالم الأعمال والمال في نيويورك.

عندما بدأت معركة الطلاق بين الزوجين بسبب الخيانة في بداية عقد التسعينيات؛ تحولت قصة الانفصال إلى واحدة من قصص الفضائح التي تتصيدها صحف الإثارة، ودعم هذا من اسم “ترامب” كأحد مشاهير مدينة نيويورك والولايات المتحدة.

بداية السبعينيات.. حادثة كادت تقتل مستقبل “بايدن” السياسي

في بداية السبعينيات كانت تنتظر “بايدن” كارثة عائلية كبرى، فأثناء قيادة زوجته الشابة لسيارتها في عام 1972 اصطدمت بشاحنة، وماتت في الحال مع ابنتها الرضيعة، كما أصيب الطفلان الآخران في السيارة إصابات جسيمة، وبقيا في المستشفى لأشهر طويلة.

يعرض الفيلم مشاهد أرشيفية للأب المثكول وهو يزور أبناءه في المستشفى. كان يمكن لتلك الحادثة أن تقضي على مستقبل “بايدن” السياسي، وحتى أنه كشف في مقابلة تلفزيونية حينها أن مهمة رعاية ولديه بدون زوجته ستكون كبيرة، وربما لن يكون باستطاعته الجمع بين العمل السياسي ورعاية أسرته.

صورة تجمع كل من المرشح لمنصب الرئاسة الأمريكية “جو بايدن” مع شقيقته “فاليري” التي كانت جزءا من الفيلم

تلقى “بايدن” مساعدة من أهله وأصدقائه، وبدأ على مهل حياته السياسية التي ستكون نجاحاتها قليلة. فرغم أنه وصل إلى مجلس النواب، فإن محاولته للترشح لمناصب أعلى ستواجه عدة مشاكل، منها ما هو بسبب “بايدن” نفسه الذي ارتكب أخطاء قليلة، لكنها رغم قلتها ستكون مؤثرة.

نائب الرئيس.. “بايدن” قاب قوسين أو أدنى

من الأخطاء التي ارتكبها “بايدن” وركز عليها الفيلم استعارته لخطبة سياسي أمريكي دون الإشارة إلى صاحبها، وادعاؤه أنه كان متفوقا في دراسته للحقوق في جامعته، بينما حل في المراتب الأخيرة لجهة الدرجات التي حصلها في الكلية. أما الخطأ الأكبر فكان تصريحا خاصا له وصل إلى الإعلام يمدح فيه الرئيس “أوباما”، لكنه وفي التصريح نفسه –وعلى الأرجح دون قصد- يحط من قدر الأمريكيين السود.

لم يستطع “بايدن” في كل محاولاته السابقة الوصول إلى السباق النهائي على منصب الرئيس الأمريكي، فخسر السباق داخل الحزب الديمقراطي في عامي 1988 و2008،  بيد أن هذا لن يبعده عن البيت الأبيض، إذ اختاره الرئيس “باراك أوباما” ليكون نائبه في فترتي رئاسته ما بين 2009-2017.

وعندما توفي ابنه ذو الـ46 عاما بسبب السرطان عام 2015؛ بدا أن السياسي الأمريكي قد وصل إلى نهاية رحلته مع السياسة في بلده، حتى أنه اعتزل الحياة العامة لبضع سنوات قبل أن يعود في السباق الرئاسي الأخير، ليتحدى “دونالد ترامب”.

حادثة اعتداء على أمريكية بيضاء.. عنصرية آل “ترامب” الوراثية

يجمع الفيلم التسجيلي عدة تصريحات تلفزيونية لـ”ترامب” من فترات مختلفة كان يؤكد فيها أنه لن يخوض السباق الرئاسي. لم يكن رجل الأعمال الأمريكي بعيدا عن قضايا المجتمع في مدينته نيويورك حيث يعيش أو في الولايات المتحدة، إذ كان يتدخل في قضايا معينة، وأثارت بعض تدخلاته الكثير من الغضب عند أمريكيين.

يولي الفيلم التسجيلي أهمية لقضية الاعتداء على أمريكية بيضاء في حديقة السنترال بارك في نيويورك في نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وقد اتهم بها أربعة أمريكيين سود، وصدرت ضدهم أحكام بالسجن الذي حبسوا فيه لسنوات طويلة قبل أن تتبين براءتهم.

تدخل “ترامب” أثناء التحقيقات بالقضية، ونشر إعلانا على أبرز الصحف الأمريكية يدعو فيه إلى معاقبة المتهمين حينها بأقسى العقوبات الممكنة، وقد اعتبر كثيرون حينها أن إعلان “ترامب” هو رد فعل شخصي بدوافع عنصرية، وحتى أن “ماري” ابنة أخي “ترامب” استعادت تاريخ عائلتها وأعلنت أن العنصرية ضد السود كانت سائدة في بيت جدها، حيث كان يعمل الكثير من الأمريكيين السود كخدم.

أسرار “ترامب”.. شهرة إعلامية تغطي خسائر الأعمال

يجمع الفيلم مجموعة كبيرة من الخبراء والمهتمين بحياة “دونالد ترامب”، ويكشفون جوانب مختلفة من حياة الرجل الإشكالية.

ومن هؤلاء الخبراء من يهتم به كرجل أعمال، وكيف أنه كان يخسر في معظم المشاريع التجارية التي دخلها، وأنه كان يحيط حياته المهنية بالكتمان خوفا من أن تكشف تفاصيل عنها، وخاصة أنه كان يفاخر طوال السنين الماضية بنجاحاته التجارية غير المسبوقة.

عوض النجاح الإعلامي لـ”ترامب” -عبر البرامج التلفزيونية التي كان يطل منها أو ينتجها- خساراته في عالم العقارات، وبدا أن هذا النجاح التلفزيوني سيكون مقدمة لدخول “ترامب” عالم السياسة، فهو -حسب الفيلم- هو شخص مهوس بالشهرة ولا يستطيع العيش دونها.

فرسا الرهان.. عثرات غير متساوية في مضمار السباق

يمر الفيلم على أبرز المحطات العائلية والعامة للمرشحين الأمريكيين لمنصب رئيس الدولة الأكثر تأثيرا في العالم، وقد بدا أن عثرات “بايدن” لا تقارن بعثرات منافسه، كما أن “بايدن” كان دائما يعتذر عن أخطائه وعثراته، وهو الأمر الذي لم يفعله “ترامب” أبدا في حياته.

بوستر فيلم “الاختيار” الذي يتحدث عن حياة كل من المرشحين لمنصب رئيس الدولة الأكثر تأثيرا في العالم “ترامب” و”بايدن”

كما بدا من الفيلم التسجيلي الأمريكي أن ما حدث في طفولة المرشحين وصباهم ما زال مُؤثرا في حياتهم الحالية، فهاجس تعثر النطق لدى “بايدن” ما زال يشغله حتى اليوم، رغم أنه تغلب وإلى حدود كبيرة على مشكلة التأتأة.

أما نشأة “ترامب” القاسية في عائلة كانت تعتبر النجاح المهني القيمة الأهم، فستحدد مسار حياته، وستجعل منه الرجل الذي نراه اليوم على شاشات التلفزيون، والذي يمكن أن يفعل أي شيء للحفاظ على نجاحاته والصورة التي رسمها لنفسه.