“تراجيديا الإيغور”.. إبادة شعب وطمس تاريخ برعاية الحزب الشيوعي

يكشف الوثائقي الفرنسي “الصين: تراجيديا الإيغور” (Chine: le drame Ouïghour) ممارسات وخطط السلطات الصينية المُبيّتة لطمس الهوية القومية والدينية لشعب الإيغور المسلم، من خلال زجّ الملايين منهم في معسكرات اعتقال يجري خلف أسوارها العالية تعذيبهم وإجبارهم على التخلي عن معتقداتهم، إلى جانب المحاولات الحثيثة لتقليص عدد نفوسهم في منطقة شينجيانغ التي يقيمون فيها، وذلك عبر تهجير نسائهم منها، إلى جانب تعريضهن لعمليات عُقم متعمدة، لمحو وجودهم كأقلية لها خصوصيتها الثقافية التي تنظر إليها السلطات كعامل مهدد لمشروعها السياسي المراد له خلق صين جديدة يهيمن عليها فقط الصينيون الهانيون (نسبة إلى شعب الـ”هان” الذي يتشكل منه أغلب سكان الصين).

يفضح الوثائقي ما حاولت قيادة الحزب الشيوعي الصيني إخفاءه عن أنظار العالم، ومن خلال بحثه الاستقصائي وتحليله التاريخي المُعمق يقدم صورة حقيقية لما يتعرض له شعب الإيغور من اضطهاد وتصفيات جسدية ونفسية ترتقي إلى مستوى “الإبادة الجماعية”، رغم أن الصين كانت تريدها أن تتم دون ضجة عبر تأطيرها بحملات دعائية تلصق كذبا بهم صفة الإرهابيين.

شهادات الناجين.. فضائح سود أفلتت من يد الجناة

لا يكتفي الوثائقي بتقديم الأدلة الدامغة على عمليات الإبادة الجماعية للإيغور، وكشف المخططات الموضوعة لتحقيق ذلك الهدف، بل يذهب إلى توثيق شهادات المعذبين والمنكل بهم، وفي جانبه التحليلي يراجع تاريخهم، ويكشف المحاولات المستمرة لتزييف ذلك التاريخ، من خلال نكران السلطات الصينية والحزب الشيوعي الحاكم لخصوصيتهم العرقية والدينية.

يستعين المُخرج “رامين فرانكلين” وزميله “فرانسوا رينارت” بمحللين سياسيين وعلماء اجتماع، وببعض الناجين من بطش السلطات الصينية الذين وثقوا شهاداتهم أمام الكاميرا، إلى جانب استعانتهما بناشطين مدنيين وصحفيين ساهموا في فضح ما كانت تريد الصين التستر عليه.

يقدم صانعا الفيلم الفرنسيان للمُشاهِد معلومات تفصيلية عن شعب الإيغور الذي يقطن سكانه البالغ عددهم 11 مليون نسمة في منطقة جغرافية واسعة تسمى شينجيانغ، وهي تقع في شمال غربي الصين، وتحدها 8 دول من دول آسيا الوسطى، وهي غنية جدا بمواردها الطبيعية التي تقدر بـ60%من مجموع الثروة الطبيعية في الصين.

هجرة الهان.. لعبة من أعلى هرم سياسي في الصين

على المستوى التاريخي والثقافي كانت علاقة الإيغور بجيرانهم الآسيويين قوية، لهذا يريد الحزب الشيوعي الصيني تغييرها عبر خلق توازن سكاني جديد في المنطقة، وينقل لتطبيقه أعدادا كبيرة من الصينيين من قومية الهان إليها، ويمنحهم امتيازات تجعلهم أكثر نفوذا وتحكما فيها، وبفضل الهجرة المنظمة للهان صار عددهم اليوم متساويا تقريبا مع عدد السكان الإيغور الأصليين.

وعلى المستوى السياسي تتشدد مواقف زعيم الحزب الشيوعي الصيني “شي جين بينغ” مع الأقلية المسلمة، ويعاملهم كقوة مارقة تقف في وجه مشاريعه التوسعية، وبشكل خاص مشروع “طريق الحرير الجديد” الذي يمر بمناطقهم ويتصل بالدول الآسيوية المحيطة بها، ويعتمد نجاحه بشكل خاص على الثروات الطبيعية الموجودة في مناطقهم.

الممارسات القمعية ضد شعب الإيغور لم تتوقف في الصين منذ عقود

تختزن طبيعة المنطقة على ثلث المجموع الكلي لخامات الفحم والنفط والغاز الطبيعي في الصين، كما تتميز المنطقة بصناعاتها القطنية، إذ تشكل ما يقارب 20% من الإنتاج العالمي للقطن.

من أجل تشديد قبضتها على تلك الموارد والسيطرة المطلقة على المنطقة منعت السلطات الصينية على الإيغور زيارة المساجد، وجرمت قراءة القرآن أو الاحتفاظ بنسخ منه في بيوتهم، كما فرضت عقوبات بالسجن على المطلقين للحاهم، وبنفس الحكم على النساء المحجبات. فبالنسبة لزعيم الصين هناك عقيدة واحدة فقط مسموح بها، وهي عقيدة الحزب الشيوعي، أما غير الصينيين الهان والموالين له فلا يوجد سوى “المارقين الإرهابيين” و”أعداء السلطة”.

“الخط الأمامي للإرهاب”.. حجة الدولة البوليسية للسيطرة على الإيغور

يراقب الوثائقي ويحلل توجهات الزعيم “شي جين بينغ” لمحو وجود الإيغور من خلال استغلاله التنافر الحاصل بينهم وبين الهان الذين حصلوا على سلطات تكفيهم للتحكم بالمنطقة.

يستغل الحزب حوادث 2014 والتفجيرات التي حصلت في منطقة كونمينغ ذريعة لتوجيه تهمة ارتكابها إلى إسلاميين متشددين، وأن مناطق الإيغور صارت “الخط الأمامي للإرهاب”، وقد وفرت هذه التهمة لأجهزة الأمن والجيش مجالا أكبر للتدخل في حياة الإيغوريين ومراقبة تصرفاتهم.

يصف المحللون الذين استعان بهم الوثائقي تلك الإجراءات بأنها مقصودة لإخضاع مناطق الإيغور للدولة البوليسية، وهنا يبرز جانب حاولت السلطات التستر عليه، ويتمثل بزج قرابة مليون إيغوري في معسكرات اعتقال شُيّدت خصيصا لهم، والغرض منها هو معاقبتهم وإجبارهم على الخضوع الكلي لسياسة بكين، والتخلي في الوقت نفسه عن معتقداتهم الدينية وثقافتهم الوطنية.

“مدارس التعليم”.. قلاع التعذيب والاضطهاد والاغتصاب

لم يسمع العالم بوجود “مدارس التعليم” في منطقة شينجيانغ قبل أن يكشف عنها عالم الاجتماع الألماني “أدريان زينغر”، فقد قام بدراسة مخططاتها الهندسية من المتوفر منها على صفحات الإنترنت، إلى جانب ما كشفه ناشطون وصحفيون من الإيغور هربوا إلى الخارج، وسعوا لكشف ما يتعرض له شعبهم من اضطهاد.

معسكرات اعتقال جماعية باسم التعليم

من بين هؤلاء صحفي اسمه “شَورَت هوتور”، ومن خلال اتصالاته ومحاولاته الكشف عن حقيقة تلك المراكز توصّل إلى أنها أبنية أُعدت لسجن الإيغور فيها، وأن الدولة روّجت كذبة تخصيصها لتعليمهم وتثقيفهم فيها.

تكشف التحريات الخاصة أن أجهزة الأمن الصينية كان تدير تلك المراكز، وفي زنزاناتها كانت تقوم بتعذيبهم واغتصاب نسائهم، فقد اعتقل أكثر من مليون إنسان فيها، بينهم أشخاص قدموا شهاداتهم أمام كاميرا الوثائقي، وفي واحدة منها حكت امرأة شجاعة عن عملية اغتصابها من قبل رجال الشرطة في أحد غرفها، وفي أخرى يصف رجل إيغوري تفاصيل تعذيبه الهمجية، وكيف أنه ظل مقيدا طيلة أشهر بسلاسل حديدية، ومرتديا بدلة من القماش برتقالية اللون كالتي يرتديها سجناء غوانتانامو، وأن كثيرا منهم كانوا يُجبَرون على العمل بالسخرة في مصانع قريبة من معسكرات الاعتقال.

وثائق الحزب المسربة.. خطط الإذلال وقطع النسل لشعب كامل

بفضل شهادات الضحايا في الخارج ونشاط الصحفيين تسربت إلى العالم المعلومات الخاصة بـ”مراكز التعليم المهني”، فما كان من السلطات الصينية إلا تكذيبها، في الوقت الذي سربت فيه وثائق أخرى من داخل مقرات قيادة الحزب الشيوعي الصيني تُبيَن وجود المخطط التفصيلي المكون من 400 صفحة، والذي وافق عليه سكرتير الحزب.

خطة خبيثة لترحيل النساء الشابات إلى مناطق أخرى من البلاد لغرض العمل، وأملا في تزويجهن برجال من الهان

يوصي المخطط بإذلال وتحجيم الإيغور وحرمانهم من ممارسة شعائرهم الدينية، ومن بين الأساليب المتبعة لتقليص عدد نفوسهم إجراء عمليات عقم للسجينات في مراكز الاعتقال، إلى جانب وضع خطة لترحيل النساء الشابات إلى مناطق أخرى من البلاد لغرض العمل، وأملا في تزويجهن برجال من الهان.

تكشف شهادات الضحايا وما يتسرب للصحفيين من معلومات من الداخل أن العقوبات الموجهة ضدهم تكتسب طابعا جماعيا، وأنها ليست محصورة بالمتشددين الدينيين كما تدعي الجهات الرسمية.

تقوية العلاقات بين مكونات المجتمع.. غطاء التجسس

تتمثل واحدة من الخطط المنفذة في تنظيم زيارات عوائل من الهان لأخرى من الإيغور. وتفضح الزيارات وما يجري فيها من مراقبة لبيوت الإيغور جانبا من المخطط الجهنمي، فالزيارات المرتبة يراد بها معرفة تفاصيل عيش الإيغوري في منزله.

دخول عائلة من الهان يتيح لها الاطلاع على جوانب شخصية ربما يصعب على الجهات الأمنية معرفتها، بالرغم من أن عدد كاميرات المراقبة الموجودة في المنطقة تعد الأكثر في العالم.

تبرر السلطات ترتيبها للزيارات العائلية المتبادلة بأنها تنشد تقوية العلاقات الاجتماعية بين مكونات المجتمع الصيني، لكنها في الحقيقية تهدف للتجسس على طرف تريد تدميره بدهاء وخبث.

“تركستان الشرقية”.. مسح تاريخ الإيغور من المناهج الدراسية

من بين ما هو منصوص عليه في الوثيقة الداخلية للحزب إزالة كل مظاهر الإسلام في مناطق الإيغور، بما فيها تهديم مساجدهم وإخفاء كل المظاهر الدالة على ثقافتهم وخصوصيتهم القومية. وتظهر في تسجيلات (فيديو) بعض تلك الإجراءات المنفذة لهدم المساجد، وفي تسجيلات أخرى يتحدث شهود عن عمليات غسل الدماغ المتبعة في “مراكز التعليم”.

حذف تاريخ دولة تركستان الشرقية من المناهج الدراسية

ينقل الوثائقي مشاهد لعمليات إزاحة تماثيل وهدم نصب لشخصيات ثقافية معروفة في المنطقة، وإقامة مواقف سيارات أو ما شابه بدلا منها، كما يتحدث شهود عن عملية تغيير كامل في المناهج الدراسية تفضي إلى حذف تاريخ الإيغور منها، وبشكل خاص الإشارة إلى دولتهم القديمة التي تأسست تحت اسم “تركستان الشرقية”.

يراجع الوثائقي تاريخ الإيغور السياسي، ويلاحظ أن السياسة نفسها التي يتبعها زعيم الحزب الشيوعي الصيني الحالي كان قد اتبعها الزعيم “ماو تسي تونغ” في الخمسينيات من القرن المنصرم.

لقد أراد محو هويتهم القومية واستبدالها بهوية الصين الشعبية التي أعلنها بعد انتصار ثورته. لم يفلح ذلك، لكن بقوة النفوذ والإجراءات القمعية أجبر الإيغور على القبول بها مقابل بعض الامتيازات، مثل التمتع بحكم ذاتي شكلي يسمح لهم بتعليم أبنائهم بلغتهم الأصلية وممارسة شعائرهم الدينية، حتى هذه الامتيازات البسيطة انتهت الآن، ولم يعد للحكم الذاتي أي وجود يذكر.

أطفال السجناء.. غسيل أدمغة في دور رعاية خاصة

في الوثائقي الكاشف للحقائق والمهم أن أطفال السجناء في معسكرات الاعتقال ينقلون إلى دور رعاية خاصة يغسلون فيها أدمغتهم ويتلقون فيها تعاليم الحزب.

ينقل الفيلم مقاطع فيديو يظهر فيها أطفال ينشدون النشيد الوطني الصيني ويمجدون زعيم الحزب، كما يكشف الناشطون أن الهدف الحقيقي من ترحيل الشابات إلى مناطق أخرى من البلاد، ليس الهدف منه -كما تدعي السلطات- السعي إلى تعزيز استقلالهن الاقتصادي، بل يراد به تزويجهن برجال من أعراق أخرى، حتى يقل عدد نفوس الإيغور تدريجيا، وتسيطر بالتالي قومية الهان على المنطقة وثرواتها.

رغم خبث الإجراءات وقساوتها فإن الصراع بين الهان والإيغور أخذ في التصاعد، وفي عام 2009 وأثناء انعقاد دورة الألعاب الأولمبية خرجت تظاهرات للإيغور، طالبوا فيها بالمساواة والكف عن تحجيم وجودهم ومسخ هويتهم الدينية والعرقية، وسرعان ما تحولت التظاهرات إلى صراع مفتوح في الشوارع بين الهان وبينهم، وراح ضحيته عدد من الأشخاص.

عبد الرحمن جيني.. إيغوري ناجٍ يصرخ في وجه السلطات الصينية

من المفارقات اللافتة لشدة انحياز السلطات المحلية للهان أنها أدانت الإيغور وحدهم واعتبرتهم مذنبين، بينما برّأت كليا الطرف الثاني. بعد الأحداث الدامية صعّدت الأجهزة الأمنية من ممارساتها القمعية ضد الإيغور، فقتلت وسجنت الكثير منهم بذريعة “مكافحة الإرهاب” الذي اتخذته شعارا لها بعد أحداث 11 سبتمبر لتبرر به قمع المسلمين.

لم يسكت الناجون منها في الخارج عن تلك الممارسات القمعية، وينقل الوثائقي لقطات لإيغوري اسمه عبد الرحيم جيني يخصص من كل أسبوع يوما واحدا يقف فيه أمام مكتب القنصلية الصينية في مدينة لاهي الهولندية، يخاطب موظفيها عبر مكبر الصوت بالكف عن ارتكاب الجرائم بحق شعبه، ويذكرهم أن العشرات من عائلته يقبعون داخل الزنازين.

ينقل الوثائقي نشاطات أخرى ويربطها بتحرك دولي، بدأ يرفع صوته مطالبا الصينيين بالكشف عن الحقائق المتعلقة بسياستهم القمعية ضد الشعب الإيغوري، وبأن التكتم عليها لم يعد مجديا، لأن الحقيقة بدأت تظهر، وبدأ العالم يدرك ما يجري خلف أسوار دولتهم البوليسية.