“على أطلال سراييفو”.. عائلة بوسنية تكافح من أجل البقاء في ظل سجن الأب المحارب

الأب "إبرو" لديه إعاقة في ساقيه قد تكون ناتجة عن إصابته في حرب استقلال البوسنة عن الاتحاد اليوغسلافي السابق

“على أطلال سراييفو” هو اسم الفيلم الذي شاركت الجزيرة الوثائقية في إنتاجه، وأخرجه الإيطالي الشاب “فرانشيسكو مونتانيير”، وكان قد حصل في أغسطس/آب 2021 على الجائزة الأولى في مهرجان لوكارنو السينمائي في سويسرا، أثناء انعقاد دورته الـ74، عن فئة “المسابقة السينمائية”.

وقد فاز الفيلم أيضا بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان “الجزيرة بلقان” للأفلام الوثائقية، في دورته الرابعة التي أقيمت في سراييفو، وذلك في سبتمبر/أيلول 2021. وسوف نسلط الضوء من خلال هذا التقرير على شخصيات الفيلم، وبعض الرسائل والمضامين التي حفلت بها أحداثه.

عائلة إبرو.. عوالم دولة البوسنة بعد الاستقلال

تدور أحداث الفيلم على أطراف العاصمة البوسنية سراييفو، ويحكي قصة عائلة بوسنية مسلمة مكونة من الأب “إبرو”، وهو جندي سابق في الجيش البوسني، ولديه إعاقة في ساقيه قد تكون ناتجة عن إصابته أثناء المشاركة في حرب استقلال البوسنة عن الاتحاد اليوغسلافي السابق.

للأب ثلاثة أبناء، أكبرهم جابر وعمره حوالي 22 عاما، والأوسط أسامة وعمره 18 عاما، والصغير عزيز وعمره 14 عاما، ولاحقا ستشير أحداث الفيلم إلى أن الوالدة قد توفيت في وقت سابق. وتسكن العائلة في بيت متواضع على أطراف العاصمة سراييفو، ولديهم قطيع من الأغنام يتناوبون على رعيه وحراسته.

الأب المجاهد إبرو قبل ذهابه إلى السجن يوزع المهام على أبنائه الثلاثة

كان الأب يبدي كثيرا من الجدية والجمود في تعامله مع أبنائه، سواء في توجيههم للاهتمام بواجباتهم الدينية كالصلاة وقراءة القرآن، أو الالتفات إلى واجباتهم المنزلية والعملية من رعي الغنم ومتابعة شؤون المنزل والدراسة، ولذا كان يمكن رؤية تفلّت الأولاد في أي لحظة تخف فيها وطأة أبيهم عليهم أو غيابه عنهم، مثل التدخين والألعاب الإلكترونية والتلهي بمغازلة الفتيات على فيسبوك.

“لم أطلق النار على أحد”.. تهمة القتال في سوريا تقود إلى السجن

كان الوالد “إبرو” قد عاد لتوه من سوريا، وهو يواجه عقوبة السجن بتهمة الإرهاب. وقد قال مرارا أثناء التحقيق أنه لم يقتل أحدا ولم يُرهِب أحدا، وأن الذين يدَّعون غير ذلك عليهم إثبات العكس، “ذهبتُ إلى سوريا لأرى ما يحدث بنفسي، وعدت ولم أطلق النار على أحد”.

أما جهات التحقيق والادعاء العام، فكانت تتذرع بأن الوضع الأمني خطير في البوسنة، وذلك بعد عودة حوالي 50 من مواطنيه من سوريا، “وهؤلاء قد يشكلون خطرا حتميا، ذلك أننا لا نستطيع توقع ردود أفعالهم، ولا خطوتهم القادمة”. وفي نهاية المطاف أصدرت المحكمة حكمها على “إبرو” بالسجن مدة 23 شهرا.

المقاتل السابق في الجيش البوسني متهم بالمشاركة في الجهاد في سوريا وهو يدافع عن نفسه

وبعد صدور الحكم ازدادت مهمة الأولاد تعقيدا، وخصوصا الكبير جابر، فقد ذهبت أدراج الرياح كل آماله في السفر إلى أوروبا. وفي ليلة سفره لقضاء محكوميته اجتمع “إبرو” مع أبنائه وحدد لهم مهام عملهم أثناء فترة غيابه:

جابر، أنت ستهتم بأمور المنزل والعمل، أنت الكبير وأنا أثق بك. أسامة، أنت مسؤول عن الأغنام، عليك بيع الخراف للذبح، ورعاية القطيع إلى أن أعود. أما أنت يا عزيز فعليك الاهتمام بدراستك حتى تكمل تعليمك. سأعود بعد 23 شهرا إن شاء الله، وآمل أن أجد كل شيء على ما يرام.

أبناء البوسنة والهرسك.. ذكريات الإبادة والبطولات في ليالي السمر

في ليالي السمر يتذكر الأبناء بشيء من المرارة بعض قصص الحرب التي يحكيها لهم الكبار، تلك الحرب التي دارت رحاها قبل عقدين من الزمن بين قوميات يوغوسلافيا السابقة من الصرب والكروات والبوسنيين، وذهب ضحيتها مئات الآلاف من مسلمي البوسنة نتيجة التطهير العرقي الذي مارسه الصرب ضدهم.

حتى ألعاب الأولاد الإلكترونية، كانت تحاكي القتال والجهاد

كما يتذكرون بعض القصص البطولية التي قام بها جنود البوسنة في تصديهم لاعتداءات الصرب على قراهم، وأنه لولا هذه البطولات والتضحيات، وحب الموت في سبيل بلدهم لما نجت قراهم التي يعيشون فيها اليوم من الدمار. يقول أسامة: كانت كلمات مثل “تكبير” و”الله أكبر” تخيف أعداءنا كثيرا وتفقدهم صوابهم”.

حتى ألعاب الكمبيوتر التي يتسلى أبناء “إبرو”، فكان معظمها ألعابا حربية، وأبطالها هم رجال “القاعدة” من أمثال أسامة بن لادن، وأرضها هي أفغانستان أو سوريا، ومادتها هي الجهاد الهجومي، ودحر الكفار المعتدين على أرض المسلمين، قبل أن أن يُعرَض عليهم الإسلام.

شباب البوسنة.. حصون العائلة الملتزمة تنهد أمام طوفان الثقافة الغربية

بغياب الأب ينصرف الابنان الكبيران إلى اللهو، ويمضيان كثيرا من الوقت في النوادي الليلية في بلغراد عاصمة صربيا، ويضيعان وصية أبيهما في الحفاظ على المنزل والأغنام، ويضيع بالفعل كثير من الأغنام بفعل هجمات الذئاب أو سطو الرعاة من القرى المجاورة، ويشعر الاثنان لأول مرة بالهزيمة الداخلية بسبب تضييعهما الأمانة.

تنفيذا لوصية أبيهم، الأولاد ينتبهون لأنفسهم بعد أن كانوا ضيعوا كثيرا من وقتهم

ويواجه الصغير عزيز أوقاتا صعبة في مدرسته، فلم ينجح في الكثير من المواد الدراسية، ومعلمته تؤنبه بشدة على تقصيره، وتذكره أن مصيره سيكون مثل أخيه أسامة، راعيا للغنم، إذا لم يبذل جهدا أكبر في تحصيله الدراسي، وفي المقابل فهو لا يبذل جهدا يذكر لتصحيح مساره، وبدلا من ذلك يمضي معظم وقته في ألعاب هاتفه المحمول.

تنتاب أسامة صحوة عابرة، فيبدأ من جديد بالاهتمام بأغنامه، ويقوم بتوجيه أخيه الأصغر للاهتمام بدراسته، تنفيذا لوصية والده، لكن عزيز لا يصغي لكثير مما يقال له، بينما يأخذ الأخ الأكبر جابر طريقه إلى المدينة للبحث عن عمل يستقر فيه، ويبدو أنه وجد ضالته مؤقتا في محلّ للحدادة.

تدخلات الدول الأجنبية.. فكر الجسد الإسلامي الواحد

يتحلى الابن الأوسط أسامة بشيء من المسؤولية والتفكير بالواجبات المناطة به وبإخوته، لذا تجده في كثير من الأحيان يحض أخاه الصغير على الصلاة في وقتها وقراءة القرآن، ويعلمه الرياضة والمصارعة ليعتمد على نفسه ويدافع عن ممتلكاته، ولا يفوته أيضا أن يتذكر والدته المتوفاة ويدعو لها بالجنة.

حكايا الجهاد البوسني ضد الغزو الصربي

ومثل كل ليلة، يدور جدال بين أسامة وصديقه الراعي الكرواتي عن مهمة الوالد “إبرو” في سوريا، ولماذا ذهب إلى هناك، ويتحدث الكرواتي بلغة الدولة الحديثة التي تجرّم التدخل في شؤون الدول الأخرى، أو القتال على أراضيها دون إذن منها، ويضرب مثالا الحالة البوسنية، فلولا التدخل الدولي، والحزم في إلزام جميع الأطراف بوقف الحرب، لما آلت الدولة إلى الاستقرار الذي تعيشه الآن.

بينما يحمل أسامة فكرة دولة الإسلام التي ليس لها حدود، والتي يجب على كل فرد فيها أن يضحي بنفسه وماله وعائلته في سبيل نصرة المسلم المظلوم في أي بقعة من الأرض. ويتحدث عن بطولات والده، وأنه ربما قد أصابهم ضرر بسسب سجنه، ولكنه فعل الشيء الصحيح في الدفاع عن إخوانه المسلمين في سوريا.

عودة الوالد.. خطة الشتاء القادم لتصحيح الأوضاع

خرج الوالد من السجن، واجتمع مع أبنائه في المصلى من أجل تقييم تجربتهم في العامين الماضيين، وبدأ بجابر حيث قال إنه أناط به مهمة البحث عن عمل من أجل أن يعيل أسرته، وقد كان نجاحه نسبيا، أما أسامة فبدل أن يحافظ على أغنامه ويزيدها فإنه أضاع 50 رأسا منها بسبب إهماله وقلة رعايته لها.

بعد سنتين، يعود الأب ليعيد تنظيم شؤون البيت

ثم نظر إلى الصغير عزيز الذي كان من المفروض أن يهتم بدراسته ويرفع درجاته حتى يصبح إماما في المستقبل، ولكنه لم يفعل، وكانت نتائجه المدرسية متواضعة جدا في معظم العلوم. وبدلا من محاولة استدراك ما فات فقد أضاع وقته في اللهو مع الأصدقاء وألعاب الهاتف المحمول.

ثم رسم لهم أبوهم خطة الشتاء القادم، فجابر سوف يسعى للالتحاق بعمل في ألمانيا، وأسامة سيرعى أغنامه في الغابة القريبة، حيث سيقضون الشتاء في منزلهم ولن يغادروه إلى المراعي البعيدة، أما عزيز فسيهتم بدراسته وينهي المرحلة الثانوية بتفوق، ويجب أن يحفظ القرآن كاملا عن ظهر قلب حتى يصبح إماما في المستقبل.

معالم النجاح.. عودة إلى الطريق المستقيم تحت ظل الأب

اتضحت معالم الأسرة من جديد بوجود أبيهم، بعد أن كان الأولاد في حالة من التيه على مدى العامين الماضيين، فعزيز يجلس مع أبيه بشكل متكرر بعد الصلوات ويتلو عليه بعض سور القرآن التي بدأ بحفظها، وأسامة يتعاون مع بعض الرعاة الآخرين في الاهتمام بأغنامه، ينظفها ويجز أصوافها، ويؤمن لها الكلأ في المراعي الخصبة، أما جابر فإنه لم يظهر مؤخرا، ويبدو أنه وجد طريقه إلى العمل في إحدى الدول الأوروبية.

الابن الأصغر عزيز يجلس مع أبيه بشكل متكرر بعد الصلوات ويتلو عليه بعض سور القرآن التي بدأ بحفظها

كانت هذه قصة إحدى العائلات البوسنية التي ستجدها شبيهة بقصص عائلات أخرى كثيرة، يعيشون على ذكريات قائدهم الملهم علي عزت بيغوفيتش، ويحلمون بالانضمام للاتحاد الأوروبي، وينظرون بعين الأسى إلى روابطهم التي تكاد تكون متقطعة مع إخوانهم دول العالم الإسلامي.