“رسائل خفية”.. لغة ثورية تبتكرها المرأة الصينية في المجتمع الإقطاعي

لكل لغة أسرارها ومفاتيحها، وكل لغة إنما تظهر نتيجة للحاجة إليها بوصفها وسيلة للتخاطب والتواصل بين البشر في ظروف طبيعية، لكن هل يمكن أن تبتكر المرأة لنفسها لغة خاصة “سرية” لا يفهمها سوى مثيلاتها من النساء اللاتي يعشن نفس ظروفها ومعاناتها وراء الأسوار؟ وهل تصلح مثل هذه اللغة السرية للغناء أيضا؟

يهتم مهرجان لندن السينمائي كثيرا بالأفلام التي تتناول دور المرأة في المجتمع، وتكون أيضا لمخرجات من مختلف دول العالم، ومن الأفلام الجديدة التي عرضت في الدورة الـ66 من المهرجان الفيلم الوثائقي الصيني الجديد “رسائل خفية” (Hidden Letters) الذي اشتركت في إخراجه المخرجتان “فيوليت دو فنغ” و”تشينغ تشاو”.

“نوشو”.. لغة التعبير عن الهم المشترك في الريف

يصور الفيلم كيف وجدت أجيال من النساء الصينيات صدوعا في مجتمعهن القمعي الأبوي في الماضي، فابتكرن طريقة للعثور على نفحة أمل وسط ظلام دامس فُرض عليهن فرضا داخل البيوت في المجتمع الريفي الإقطاعي.

هذه الطريقة تسمى “نوشو” (Nushu)، وهي في الحقيقة لغة خاصة اخترعنها لكتابة الرسائل لبعضهن، لمشاركة آلامهم وتحقيق الشعور بالارتياح، من جراء هذا التبادل المشترك للمشاعر والتعبير المشترك عن الهموم.

فتاة من الجيل الجديد تتعلم لغة خفية مهددة بالانقراض

لا يفهم هذه اللغة المكتوبة -التي يجري التعبير عن معانيها أيضا من خلال الغناء- إلا قليل جدا من الأشخاص في الصين اليوم، وبالتالي يركز الفيلم الجديد على المحاولات المتعددة التي بذلها عدد قليل من النساء المتفانيات المليئات بالإصرار على إحياء لغة الـ”نوشو”، والحفاظ عليها باعتبارها أكثر من مجرد قطعة أثرية يجب أن تظل محصورة داخل المتاحف.

“يانشين”.. آخر النساء اللاتي عرفن لسان البؤس

ينتقل الفيلم بين ثلاث شخصيات لنساء جعلن إحياء “النوشو” هدفا رئيسيا في حياتهن، أولهن هي “هو تشين”، وهي امرأة شابة من الريف تتدرب على الغناء بهذه اللغة على يدي “يانشين”، وهي سيدة تجاوزت الثمانين من عمرها، وتعتبر واحدة من آخر سلالة النساء اللاتي عرفن لغة النوشو.

أما “هو تشين” فتعمل مرشدة سياحية في متحف مخصص للغة النوشو في مقاطعة جيانغ يونغ، وهي ترى أن هذه اللغة تدور في الغالب حول البؤس والشقاء النسائي، وكانت تعكس مشاعر نساء خاضعات للرجال عندما كان ربط القدم أمرا شائعا (مثل الزواج المرتب)، ولم يكن مسموحا بالطلاق، أي أن هذه اللغة الخاصة جدا وُلدت من قلب اليأس.

لغة النحل.. قصائد غنائية تحمل آلام المرأة الغائرة

كان النساء يكتبن كلمات هذه اللغة بحروف صغيرة عُرفت بلغة النحل، وعلى المراوح اليدوية والمناديل بخط دقيق، أو عبر الغناء، وكانت تتوارث عبر الأجيال. لكن هل “هو تشين” تكشف لنا أن هذه “الرسائل الخفية” لم تكن تتعلق أبدا بالرجال، بل كان موضوعها دائما هو التعبير عن روح الأخوة التي تربط بين النساء اللاتي يجمع بينهن العذاب أو المعاناة المشتركة؟ ولم تكتشف هذه اللغة أو الرسائل الخفية سوى في عام 1983؟

سيمو مغنية النوشو التي تقدم أغاني مبهجة

“هو تشين” انفصلت عن زوجها الأول الذي أحبته، فقد كان يسيء معاملتها كثيرا، ويرفض الإنجاب منها، بل وقد أرغمها على إجهاض الجنين الذي حملت منه. وهي تعبر خلال حواراتها مع المخرجة عن آلامها وشعورها القاسي بالوحدة، وكيف أصبح ملجأها لغة “النوشو” التي تتفانى في استعادتها والتعبير بها عن لوعتها وتجربتها الشخصية في الحياة، فأصبحت تبتكر قصائد بهذه اللغة تغنيها كما تقوم بتعليم الأخريات الكتابة بهذه اللغة.

“سيمو”.. صانعة الأغاني المبهجة ذات الدلالات الحزينة

أما “سيمو” فهي مغنية تنشد أغاني النوشو لجمهور صغير من المهتمين، وتقول إنه على الرغم من أن لغة النوشو تدور حول الألم والحزن، فإنها تستخدمها لتقديم الأغاني التي تجعل جمهورها يشعر بالسعادة والتفاؤل والأمل، فهي تستمد ذخيرتها الموسيقية من الموسيقى المبهجة بغض النظر عن الكلمات، أي أن الكلمات تتناقض مع الطابع المبهج للموسيقى، لكنها تبرر ذلك بأن معظم الناس لا يفهمون ما تغنيه، ورغم ذلك يحبون الاستماع إلى أغانيها، فمن الصعب للغاية أن يتمكن نساء اليوم من لمس روح موسيقى النوشو كما كان الأمر في الماضي.

“سيمو” مخطوبة لأحد الشباب، وتسرد علينا كيف أن زوجها المنتظر يتوقع منها أن تعمل في وظيفتين في اليوم الواحد، حتى يتمكنا من شراء منزل تقيم معهما فيه والدته الأرملة.

وبينما تخلصت “سيمو” من خطيبها الذي لا يمكنه تقبل اهتماماتها بالنوشو، بل يريد استغلالها وتشغيلها للحصول على دخل مالي كبير دون أدنى مراعاة لمشاعرها وقدراتها أيضا؛ فإنها تعبر عن شعورها بالفشل في الحياة، بعد أن تقدم بها العمر وفشلت في بناء أسرة وإنجاب أطفال.

استغلال النوشو في تحقيق المكاسب المادية.. طرق التحايل التجارية

توجه المخرجتان “دو فنغ” و”تشاو” نقدا شديدا لتصاعد القيم الرأسمالية في الصين الحديثة، وقد أصبح بعض الرجال يحاولون التحايل من أجل ابتكار طرق جديدة لتحقيق الكسب المادي من “النوشو”، فقد وظفوا كل شيء من أجل المكاسب المالية، بما في ذلك استخدام عرائس أو دمى شخصيات النوشو في كل شيء، من لعب الأطفال وحتى ملابس الرجال، بدعوى أنه من دون التسويق الأوسع على مستوى المجتمع كله سيموت “فن النوشو”.

الغناء والرقص على موسيقى النوشو رغم عدم فهم معاني الكلمات

فعلى سبيل المثال ابتكر أحد الرجال تطبيقا يترجم لغة الماندرين (الصينية) إلى لغة النوشو، ويبيعه بما يعادل 300 دولار لكل هاتف ذكي. ويقول الأشخاص الذين حضروا معرضه إنهم لا يستطيعون قراءة لغة النوشو أصلا، إذن فما هي فائدة التطبيق لهم؟ ورغم ذلك، ربما يكون المستفيدون من هذا التطبيق هم القلة الذين يقرؤون النوشو، أو الجواسيس الذين يشفرون الرسائل.

تتمتع النساء في الصين الحديثة بخيارات أكثر بكثير من تلك التي كانت متاحة لدى الأجيال السابقة، لذا فقد تضاءلت الحاجة إلى النوشو بالطبع، فلا حاجة للنساء اللاتي خرجن الى أسواق العمل في الصين، للحديث عن عذابهن الداخلي وراء أسوار المنازل. ومع ذلك لا تزال النساء الصينيات المعاصرات يواجهن خيارات صعبة ومواقف راسخة تجعلهن يبحثن عن طرق للوقوف في وجه الرجال وتحقيق الاستقلال النفسي.

هنا يتطرق الفيلم إلى النقطة التالية التي تركز على موضوع علاقة المرأة بالرجل في الصين الحديثة.

“ماو تسي تونغ”.. ثورة أعلنت المساواة وفتحت باب القهر

تعرض المخرجتان لقطات كثيرة من الأرشيف للمرأة في الثورة الصينية بعد انتصار “ماو تسي تونغ” وإقامة جمهورية الصين الشعبية الاشتراكية، فقد أعلن عن مساواة المرأة بالرجل في جميع المجالات، وإتاحة الفرصة أمام النساء لبلوغ أرقى المناصب. لكن يبدو أن الأمر لم يعد كذلك اليوم، فالفيلم يتوقف أمام نوع آخر من القهر تتعرض له المرأة، فمطلوب منها العمل ضعف ما يعمله الرجل، وفي الوقت نفسه الاهتمام بالبيت ورعاية الأبناء.

في مشاهد مختلفة تسجل المخرجتان حوارات مباشرة حقيقية غير معدة سلفا تدور بين “سيمو” وخطيبها أمام الكاميرا، فهو يعتبر ولعها مثلا بغناء “النوشو” مجرد هواية يجب أن تتخلى عنها لصالح العمل مقابل أجر، وعندما تطلب النصيحة من نساء أخريات حول هذه المشكلة التي تواجهها مع خطيبها، تسهل رؤية مدى تشابه مشاكلهن.

جيلان من النساء تجمع بينهما اللغة الخفية القديمة

يظن بعض الرجال -كما يخبرنا الفيلم- بأن الفتاة التي تباعد بين قدميها وهي واقفة تجلب الحظ السيئ، وأحدهم طلّق زوجته لهذا السبب وحده.

لغة النوشو.. تراث بين الاستغلال وتعقيدات الصين

من أكثر عناصر الفيلم الفنية بروزا التصوير السينمائي الذي اشترك فيه “تيبين فينج” و”وي جاو”، إذ تمتزج لقطات الطائرات بدون طيار (الدرون) التي تعبر بين وقت وآخر سماء القرى، مع اللقطات القريبة الكبيرة للتعبيرات المرسومة على وجوه النساء، وخصوصا ما يبدو على وجه “سيمو” من قلق على المستقبل الغامض الذي ينتظرها، وعلى وجه المرأة المطلقة “هو يين”.

وتحافظ المخرجتان على إيقاع يشبه إيقاع قصيدة النوشو نفسها.

قد يتساءل البعض في الفيلم، وأيضا خارج الفيلم: هل أمام لغة النوشو فرصة للعيش والبقاء في المستقبل مع كل ما تشهده الصين اليوم من تعقيدات، سواء في الصناعة أو في الحياة؟

يرى المتفائلون أن من الضروري إعادة إحيائها لا كمادة تراثية، بل كوسيلة من وسائل التعبير الفني. ومع ذلك فمن الواضح أن روح هذه اللغة نفسها مهددة بالزوال مع كل هذا التهافت من جانب مجتمع الرجال -كما يقول الفيلم- من أجل استغلال هذا الفن أو اللغة استغلالا تجاريا بحتا.

وتبقى “الرسائل الخفية” القديمة تشحذ قلوب وعقول الكثير من النساء الشابات في الصين، للمحافظة على ذاكرة أجيال سابقة كافحت من أجل البقاء والتعبير عن الذات بالابتكار والإبداع.