“لا مكان مثل الوطن”.. نرويجية تبحث عن كواليس تبنّيها المريب في سريلانكا

قصة شابة نرويجية سريلانكية الأصل تبنتها عائلة نرويجية منذ كان عمرها سبعة أشهر؛ تقود إلى كشف جوانب متعددة من موضوع التَبني وما يواجهه الطفل المُتَبنى من أسئلة تتعلق بشعوره الدائم بالاختلاف عن بقية الأطفال، رغم نشأته في المجتمع الجديد الذي يُنقل إليه.

إلى جانب الإحساس الملازم له بأنه ينتمي بشكل ما إلى بلد آخر ربما لا يعرف عنه الكثير، لكن الحاجة للتواصل معه ومعرفة العائلة التي جاء منها تظل تلح عليه، كما ألحت على “بريانجيكا سمانتي” طيلة حياتها، وقد قادها البحث عن جذورها الحقيقية إلى الكشف عن حقائق جديدة تتعلق بجرائم الاتجار بالبشر، وبوجود فساد إداري يُسهّل ترتيب عمليات التبني بشكل غير قانوني، إلى جانب الكشف عن الاستغلال الممارس ضد الأمهات الفقيرات وتجهيلهن بالوجهة التي يذهب إليها أطفالهن.

“من هي أمي الحقيقية، وهل ستعرفني عندما ألتقي بها؟”

تجد المخرجة النرويجية “إميلي بيك” في حماسة الشابة “بريانجيكا” وقدرتها في التعبير عن مشاعرها بصدق ووضوح، ما يشجع على إنجاز فيلمها الوثائقي “لا مكان مثل الوطن” (No Place Like Home) الذي أخرجته عام 2022، وعلى الذهاب معها حيثما يتطلب الأمر.

تلازمها وتظل معها منذ إعلان قبولها الشروع بالتصوير والبحث عن والدتها الحقيقية (البيولوجية)، رغم شح المعلومات عن مكان إقامتها في سريلانكا، ومصدر بحثها الدائم هو قلق وأسئلة محيرة تتعلق باختلافات ناشئة من كونها غريبة، مختلفة اللون والشكل عن بقية سكان المكان الذي تعيش فيه، رغم أنها تحمل الجنسية النرويجية، ومتزوجة من نرويجي ولديها طفلان منه.

أسئلة لازمتها منذ طفولتها ولم تكف عن طرحها على نفسها حتى اليوم “من أين أتيت أنا إلى هذا المكان؟”، “لماذا شكلي يختلف عن بقية النرويجيين؟”، ومن بين أكثرها إيلاما “من هي أمي الحقيقية، وهل ستعرفني عندما ألتقي بها؟”. أسئلة ستحملها المخرجة معها، وتذهب للبحث عن أجوبة شافية عليها.

سريلانكا.. رحلة لمقابلة الأم المشردة في شوارع كولومبو

من بحثها الدائم عن عائلتها وأسئلتها لوالديها الذين تبنياها عن المكان الذي أخذوها منه، تعرف “بريانجيكا” أن والدتها الحقيقية تعيش في مدينة كولومبو السريلانكية، لذا قررت السفر إليها والسؤال عنها هناك.

بصحبة ابنتها وزوجها تصل إلى سريلانكا، وبعد بحث طويل يجدون الأم، وكان لقاؤها بوالدتها حزينا ومؤثرا يفضي إلى معرفة البؤس الذي تعيش فيه، لا سكن لديها ولا مصدر مادي، بل إنها تنام لسنوات في الشوارع أو في محطات الحافلات، وكل ما تعرفه هو أن ابنتها تعيش حياة جيدة في كنف عائلة أخرى. تطلب الأم المساعدة من ابنتها لتأمين سكن لها، والغريب أنها لم تمكث طويلا في الشقة التي أجرتها لها ابنتها، وكانت تخرج منها ليلا لخوف يعتريها أثناء النوم فيها.

الإحساس بالغربة ملازم للمتبناة رغم عيشها في النرويج

تستغل “بريانجيكا” وجودها مع أمها لتسألها عن كل ما يحيط بحياتها، تسمع منها حكاية ولادتها، وكيف طردها زوجها من البيت بعد معرفته بأنها تحمل جنينا في بطنها منه، فقد كانت علاقتهما الزوجية سرية، ولم يفصح الزوج عنها رسميا لأنه كان متزوجا من امرأة توفيت بسبب مرض ألمّ بها، وتركت له أطفالا كانت أمها ترعاهم، لكن بعد حملها بها طردها إلى الشارع، فما كان منها إلا اللجوء إلى منظمة “جيش الخلاص” التي أسكنتها عندها، وعندما وُلِدت نقلوا طفلتها إلى ملجأ للأيتام. لقد حرموا الأم من الدخول إليه، ومنعوها من السؤال عنها ما دامت طفلتها باقية عندهم هناك.

“أمك لا تريدك، لقد تركتك في الشارع”.. تنمر الأطفال في الملجأ

تقرر الشابة “بريانجيكا” بصحبة صانعة الوثائقي الذهاب لرؤية الملجأ. من نافذة السيارة التي تنقلهما تشاهدان بالصدفة شابة تسلم رضيعا لأصحاب الملجأ، فتتصور السريلانكية نفسها هي تلك الرضيعة التي سلموها لنفس الملجأ ذات يوم.

حالة الحزن التي تعتريها جراء رؤيتها المشهد تدفعها للسؤال: هل سيذهب هذا الطفل إلى قارة أخرى، أليس من الغريب أن يلد طفل ما في قارة معينة ثم يجد نفسه يعيش في قارة أخرى؟

يقودها هذا السؤال إلى ماضيها وطفولتها التي عاشتها في النرويج طفلة مختلفة عن أقرانها، حيث تفاتح والديها بالعزلة التي عاشتها أثناء دراستها الابتدائية، وكيف تعرضت خلالها لتمييز وتنمر من قبل أطفال آخرين كانوا يضعون العلكة على شعرها ويقولون لها؛ الطفل الفقير يجب أن يكون شعره قذرا مثله. تخبرهم كيف كانوا يضعون رأسها في قاعدة المرحاض، ويصرخون في وجهها؛ “أمك لا تريدك، لقد تركتك في الشارع”.

أخوة التبني.. يتحد الواقع وتختلف المواقف

منذ أيام الطفولة و”بريانجيكا” لا تكف عن البحث عن أصلها، ولا تُخفي رغبتها في العودة إلى المكان الذي جاؤوا بها منه، ويعترف والداها النرويجيان بأنهما لم يقوما بما يكفي لصد تلك التصرفات، وأنهما لم يعيروها اهتماما كافيا، أما هي فقد كانت تخفي ما يجري لها في المدرسة عنهما.

لقاء حزين بين الأم وابنتها في سريلانكا

تنتبه صانعة الوثائقي إلى أن هذه الأسئلة ليست بالضرورة تمر في ذهن كل طفل مُتبنى بنفس الدرجة، فأخوها المتبنى الذي جاء إلى العائلة قبلها بأربع سنوات قَبِل بواقعه، ولم يأبَه لما يجري حوله.

الحوارات التي تجري بين الأخوين تشي بفوارق في المواقف وتباين في مستوى ردود الأفعال، لكنها في الوقت نفسه تكشف عن حجم التمييز العنصري الموجود في المجتمع النرويجي.

وثائق المستشفى.. خيط مريب يفضح جرائم الاتجار بالبشر

بعد عودتها من سريلانكا ومقابلة والدتها شاهدت “بريانجيكا” فيلما وثائقيا هولنديا يستقصي عمليات التبني غير الشرعية، وجرائم الاتجار بالبشر الجارية بين هولندا وسريلانكا.

يثير الوثائقي عندها مخاوف قديمة تتعلق بإحساسها بأن عملية تبنيها فيها شيء مريب وغير صحيح، حيث تذهب لمقابلة صانعة الوثائقي وتستفسر منها عن الحقائق التي كشفتها، وتطلب منها في الوقت نفسه مساعدتها في أخذ أسلم الطرق لمعرفة مسار إجراءات تبنيها الرسمية.

تنبهها صانعة الوثائقي إلى خطورة التعامل مع رجال فاسدين في مؤسسات سريلانكية لهم علاقة بزعماء عصابات تزوير وثائق معاملات التَبني، وضرورة أخذ الحيطة والحذر حين تتحرك هناك.

تبدأ “بريانجيكا” رحلة بحثها عن الوثائق المتعلقة بها، من المستشفى الذي ولدت فيه، وقد سمعت باسمه من والدتها التي فاجأتها وأحزَنتها كثيرا حين لامتها على ضعف لغتها السنهالية.

الأخ المتبنى الأكبر لا يعبأ بما يجري حوله

لم تكن تعرف الأم بحقيقة تبنيها من قبل عائلة تعيش خارج البلاد، ولا علم لها بأن ابنتها قد عاشت حياتها في النرويج، ولا تتحدث هناك لغتها الأصلية. لم يخبرها موظفو الملجأ بكل ذلك، بل أوحوا لها بأن عائلة سريلانكية قد أخذتها، وأنها تعيش حياة جيدة معها داخل البلد.

مقابلة خالتها في سريلانكا بعد موت والدتها بجلطة قلبية أكدت لها صحة ما قالته والدتها، وأنها أيضا لم تكن تعرف بوجودها خارج البلاد إلا بعد وصولها إليها باحثة عن أمها.

“جيش الخلاص”.. سجلات ولادة في مؤسسات فاسدة

تدخل الزائرة الغريبة “بريانجيكا” في معمعة بحث صعب داخل المؤسسات السريلانكية، فبعد العثور على اسمها وتاريخ ولادتها في الخامس عشر من سبتمبر/ تشرين الأول 1992 مثبتا في سجلات مشفى الولادة التي ولدت فيها؛ لاحظت خلو وثيقة ولادتها من رقم سجل مولدها، رغم أنه ينبغي أن تتوفر كل أم على نسخة منها. يخبرها موظف الأرشيف بأن السجلات والوثائق يجري إتلافها بعد مرور 25 سنة على إصدارها، وبالتالي لا توجد فرصة لديها الآن للعثور على بقية الوثائق المتعلقة بتسجيل ولادتها رسميا.

بعد التقصي ينصحها أقارب لها بالبحث عن سجلات الولادة عند “منظمة جيش الخلاص”. لم يتعاون موظفوها معها، وأكدوا لها بأنهم منذ سنوات لم يعد لهم علاقة بترتيب معاملات التبني، وأن كل سجلاتهم قد أكلتها الفئران الكبيرة.

يتضح لها من البحث أن ملجأ الأيتام يقوم بترتيب عمليات التبني بعد حصوله على قرار موافقة من المحكمة المختصة. لقد وقع تبنيها مباشرة من قبل الملجأ، وسُلّمت لعائلتها النرويجية بناء على نسخ تبدو ظاهرا سليمة ومستوفية للشروط القانونية.

البحث في سجلات المستشفى الذي ولدت فيه

يؤكد والداها لها بأن موظفي الملجأ فور استلامهم المال المتفق على دفعه لهم سلّموا الأوراق الرسمية لهما، ولم يتطرقوا إلى أي نقص في معاملة تبنيهم لها، ومن جانبها وافقت المؤسسات النرويجية عليها، ولم تدقق فيما إذا كان هناك تلاعب في وثائق الولادة.

تزوير التبني.. ضحايا جشع العصابات وإهمال الحكومات

يتفحص المحامي الذي استعانت به “بريانجيكا” للوصول إلى الحقيقة الوثائق الواصلة من سريلانكا إلى النرويج، ويستمع منها للأجوبة التي تلقتها من الملجأ وأرشيف مستشفى الولادة ومنظمة “جيش الخلاص”، وبعد دحضه كل افتراءاتها وكشف كل كذبها يؤكد لها أن معاملة تَبنيها لم تكن شرعية، بل قام موظفون فاسدون بالتعاون مع عصابات تزوير التبني بترتيبها وتقديمها لوالديها، وبالتالي إلى الجهات الرسمية النرويجية.

تخبر “بريانجيكا” والدموع تنهمر من عينيها والديها بالحقيقة، وأنهم قد خُدعوا، كما أن الجهات الرسمية النرويجية -وفق رأي المحامي- تتحمل قسطا كبيرا من المسؤولية، لعدم تدقيقها الوثائق الواصلة إليها بالشكل المطلوب.

يشير الوثائقي إلى رفض تلك الجهات الإجابة على أسئلته، وعدم استعدادها للتعاون معه، مع ملاحظات يردها في نهاية مساره تشير إلى أن إجراءات التبني بين النرويج وسريلانكا بين الأعوام 1975-2015 قد وقعت الموافقة عليها بعد حصولها على موافقات صادرة من المحاكم السريلانكية ومؤسساتها المعنية بمعاملات التبني.

لم يكتفِ الوثائقي من جانبه بهذا القدر، بل يسجل عودة “بريانجيكا” إلى حياتها الطبيعية مع عائلتها وأطفالها في النرويج، ومحاولتها التواصل مع إخوتها غير الأشقاء، ويحرص على تثبيت ملاحظة تبدر منها تُنبّه فيها إلى ضرورة اعتبار مسعاها مدخلا أوّليا، يمكن من خلاله الولوج لاحقا لفضح الكثير من الأسرار الخفية المتعلقة بجرائم الاتجار بالبشر، وتزوير عمليات التبني في النرويج وبقية الدول.

أما صانعة الفيلم فقد أهدت فيلمها -تعبيرا عن امتنانها لدور بطلتها- إلى والدتها التي عاشت حياة بائسة خسرت فيها ابنتها، وماتت بسبب الأحزان الكثيرة التي استوطنت دواخلها منذ ذلك التاريخ.