عالم الصوت الساحر.. أسرار الذبذبات التي ترسم الصور وتشفي الأمراض

إن للصوت لسحرا، فبعض المخلوقات ترى من خلال الصوت، بل إن بعض المكفوفين من البشر يفعلون ذلك، كما يمكن للصوت أن يتجسد شكلا هندسيا جذابا. والصوت يغير طعم الأكل، وقد يعالج بعض الأورام، أو يشفي من مرض الزهايمر، بل قد يرفع الصوت ثقلا. إن للصوت أسرارا، وهي تخضع للتحليل أكثر من أي وقت مضى.

في هذا الفيلم الشائق الذي تعرضه قناة الجزيرة الفضائية بعنوان “عالم الصوت الساحر”، سوف نتعرف على هذه الظاهرة المعجزة، والأسرار التي أودعها الله سبحانه فيها، ولعنا نفهم بعد ذلك لماذا قدّم المولى جلّ وعلا في القرآن حاسة الصوت في مواضع كثيرة من القرآن على الحواسّ الأخرى.

“سايماسكوب”.. آلة ترسم آثار الصوت على المادة

عندما نحاول تفسير ماهية الصوت نشبهه بأمواج الماء في البركة، ويمكننا أن نضع رسوما للصوت ونقيس شدته وحِدَّته، لكن حقيقة الصوت أكثر تعقيدا من ذلك بكثير، فهو يؤثر في المادة بطرق غريبة، ويمكن أن نتعرف على بعضها بواسطة علم الصوت المرئي “السايماتكس”، وهو طريقة لتمثيل الصوت بحيث يمكن أن نراه، أي أن نرى أثره في المادة.

فلو أحضرنا لوحا معدنيا دقيقا وقمنا برشّ مادة مثل الملح أو الرمل الناعم على سطحه، ثم حرّكنا وتر آلة الكمان على حافته، فسوف تتجمع حبات الرمل المتناثرة عشوائيا بحيث تصبح شكلا منتظما جذابا، وهو الأمر نفسه الذي صاغه “جون ستيوارت ريد” من كيزيك بإنجلنرا (هل يقصد اسم مدينة بإنجلترا؟) باختراع آلة “سايماسكوب” لتشكيل أنماط صوتية مرئية ثلاثية الأبعاد في المياه.

“السايماسكوب”.. آلة ترسم الصوت مرئيا

وحقيقة ما يحدث هو أن الصوت يضغط جزيئات المياه تحت السطح، ويخلق تأثيرا أشبه بتأثير العدسات، ليسمح للضوء بالارتداد والانكسار عن تلك التركيبات، الأمر الذي يجعلنا نرى تأثير الصوت في الماء، وإذا حاولنا تخريب هذا النمط الجميل بإدخال أصابعنا في الماء مثلا، فستحلّ الفوضى، ولكنها ما تلبث أن تختفي ويعود النمط إلى جماله من جديد.

ويمكن لهذا الجهاز أن يرينا أنماطا تشبه كائنات حية نعرفها في المحيطات، فهل هذه مجرد صدفة؟ أم شكل آخر من أشكال علوم الحياة؟ فبعض الحيوانات تستخدم السمع لتجنب افتراسها، وهو نوع من رصد شامل للاتجاهات حولنا. كما أن الصوت حاسة لا تنام، فنحن نسمع حتى عندما نحلم، وسيوقظنا بكاء طفل، ولكننا نتناغم مع هدير عجلات القطار وننام ملء أعيننا طوال الرحلة.

تداخل الأصوات.. بين جماليات الموسيقى وأضرار الصخب

يُجري “تريفور كوكس” تجارب على الموسيقى والكلام، ويحاول تسجيل الصوت في أماكن غريبة، مثل أنفاق محطة المترو أو القاعات الفارغة الكبيرة، ويستخدم آلة تسجيل بشكل الرأس والأذنين، ليحاكي كيفية سماع الإنسان لهذه الأصوات، فارتداد صوت الموسيقى قد يحسنها، بينما ارتدادات الكلام العادي في قاعة كبيرة يجعل الكلمات تتداخل وتبدو غير مفهومة.

ولنضرب مثالا آخر على تداخل الأصوات، سنذهب إلى برج معمودية “ماريوحنا” في إيطاليا، ففي داخل البرج يعبّر مغنّو الأوبرا عن مهاراتهم الصوتية من خلال غناء نوتات تستمر لفترة طويلة في الهواء، فيتمكن المغني من التناغم مع نفسه، بحيث تستمر كل نوتة مقدار 9 ثوان في الهواء، بعد أن يفرغ المغني من أدائها.

وأما الإعلانات الصوتية فهي ليست مجرد ترفيه، فإعلانات القطارات أو المطارات المشوشة قد تؤدي إلى تفويت مواعيد الرحلات، وقد تتطور المسألة إلى حياة أو موت، فالإعلان المشوش عن وجود حريق أو قنبلة تنفجر قد ينهي حياة أشخاص.

“تريفور كوكس” يجري تجارب على آلة تسجيل ذات رأس وأذنين، ليحاكي كيفية سماع الإنسان للأصوات

لهذا يلجأ مهندسو الصوت إلى حيل حاسوبية، منها محاكاة الضجيج في محطة القطار، بتوجيه أصوات الإعلانات إلى أماكن وجود الركاب بدل نشرها في كل الاتجاهات دون فائدة، لإبعادها قدر الإمكان عن الحوائط والجدران العاكسة، بالإضافة إلى توزيع الأسطح الممتصة للصوت بالطريقة المثلى.

وفي قاعة بوسطن السيمفونية، يكمن سرّ الصوت عالي الوضوح هناك في الرياضيات، إنها المعادلة التي كتبها الفيزيائي وعالِم الصوتيات “والاس سابين” من هارفارد في أواخر القرن الـ19، فباستخدام أنبوب وساعة توقيت، أخذ “سابين” آلاف القياسات من أجل احتساب النسبة المثالية بين حجم الغرفة والمواد الممتصة للصوت بزمن تردد يبلغ 1.9 ثانية.

واليوم، تعتبر هذه القاعة السيمفونية إحدى أهم قاعات الموسيقى في العالم، وهو ما يجعل مهندسي الصوت يقصدونها من كل مكان لدراسة المعادلة وإمكانية الاستفادة منها في مواقع أخرى، وذلك عن طريق تطبيقات وبرمجيات “نمذجة الصوت”، بحيث تُركب ألواح متحركة لامتصاص الصوت، ويمكن تحريكها وفق استخدامات القاعة، سواء للكلام أو الموسيقى.

وجبات الطائرة.. تأثيرات طبقات الصوت على المذاق

يستجيب الناس للصوت بطرق مختلفة تعتمد على المستمع ومصدر الصوت. وتعتبر أصوات الطبيعة -حتى وإن كانت مرتفعة- أقل إزعاجا من أصوات الحياة الحديثة. وتقاس شدة الصوت بوحدة “ديسيبل” (DB)، فشدة المحادثات العادية تعادل 60 ديسيبل، وبما أن المقياس “لوغاريتمي” فإن 70 تعتبر ضِعف شدة الـ60 ديسيبل.

ويُوصى بحماية الأذنين عند شدة 85، أما إذا جاوز 90 فيصبح الصوت ضارا، وقد يؤدي التعرض المستمر للضوضاء إلى فقدان السمع، ويبدأ الألم عند 125. وينتج عن الصوت المرتفع التوتر والقلق وزيادة معدل ضربات القلب، أما الأرق والتعب والمشاكل الاجتماعية فهي مرتبطة كذلك بالبيئة الصاخبة.

أثر الصوت والضجيج يفسر لماذا يبدو الطعام أثناء رحلات الطيران على غير مذاقه الحقيقي على الأرض

تجري الطبيبة النفسية “إلين بولياكوف” من جامعة مانشستر تجربة خاصة، فقد درست تأثير الصوت على طعم الأكل، وتتخلص التجربة في تعريض الأشخاص الذي هم تحت الاختبار إلى ثلاثة مستويات من الضجيج، الأول بدون صوت مطلقا، والثاني هادئ بحدود 50 ديسيبل، والثالث مرتفع بحدود 80 ديسيبل، وقد اخترنا مذاقين من الطعام فقط؛ المالح والحلو.

يغمض المشاركون أعينهم، ثم تقدم لهم عينات الطعام في مستويات الصوت الثلاثة. كان يلاحَظ في الأصوات المرتفعة أن مذاق الطعام يبدو أقل حلاوة أو أقل ملوحة، وهذا يفسر لماذا يبدو الطعام أثناء رحلات الطيران على غير مذاقه الحقيقي على الأرض، مما يعني أن الدماغ يكون مشغولا بالضجيج، بحيث لا يسمح له بمعالجة المحسوسات الأخرى.

ترميم المعالم الصوتية.. استنطاق هوية المدائن المسموعة

يتغير حجم الأصوات في المدن الحديثة بشكل مستمر، فالأصوات التي كانت قوية وواضحة في الماضي قد ضاعت اليوم في ضجيج المدن الحديثة. ويحرص “باري ترواكس” أستاذ التواصل الصوتي في جامعة “سايمون فريزر” على استعادة تلك الأصوات الكلاسيكية، ويقول إن المعالم الصوتية هي مثل المعالم المرئية للمدن، وتجب المحافظة عليها وترميمها ما أمكن.

يقوم “باري” بقياس المسافة التي يمكنه منها سماع أجراس كاتدرائية روساري في فانكوفر بكندا، فهو متخوف من أن تُغرِق الضوضاء الأصواتَ الأيقونية في المدينة، إنه يعتبرها علامات ودلائل على الأعراق البشرية التي سكنت المدينة، مثلها مثل علم الأنثروبولوجي، فعندما تدرس ماضي مدينة ما بعينيك، فلماذا لا تدرسه بأذنيك أيضا.

صوت أجراس كاتدرائية روساري في فانكوفر بكندا قبل أكثر من 100 عام كان يبلغ أقصى حدود المدينة

وهكذا باستخدام تكنولوجيا الصوتيات يمكن إنطاق أفلام الأسود والأبيض القديمة الصامتة، من أجل أن نتخيل كيف كانت أصوات الشوارع تبدو قبل أكثر من 100 عام، فلا بد أننا سنحب صوت حوافر الخيل، وعجلات العربات الخشبية وهي تعزف على الطرقات المرصوفة بالحجارة، ثم تأتي في الخلفية أجراس روساري بوضوح شديد.

ما تخيلناه في فانكوفر، يمكن أن نعيش مثله في مدينة البندقية الإيطالية في عصر ما قبل الثورة الصناعية، عندما نمر عبر الأقنعة الضيقة “ريو”، بعيدا عن صخب القوارب البخارية، وسوف نتخيل أن المدينة وسكانها كانوا يتبادلون الحديث بالأصوات، فقبل الراديو والإنترنت، كانت الأجراس وسيلة التواصل الأولى.

نداء الأجراس.. مآذن الكنائس والبلديات والثورة

كانت الأجراس تتحكم بأوقات الناس حتى قبل اختراع الساعات، ولم تكن الكنيسة فقط هي التي تقرعها، فأجراس المارينغونا مثلا تعني أن على عمّال الرصيف أن يكونوا في ترسانة البندقية، وقد تقرع أثناء النهار لتعلن دخول القضاة إلى المحكمة، فالمدينة والناس في تناغم صوتي منتظم.

ينطبق الأمر نفسه على مدن أخرى في عصر النهضة مثل فلورنسا، فقد كان للبلدية برجها الخاص، وكان أعلى من برج الكنيسة، وأجراسها أعلى صوتا من أجراس الكنيسة، لتأكيد شرعيتها وسيطرتها على مفاصل الحياة في المدينة.

قبل اختراع الساعات كانت الأجراس تتحكم بأوقات الناس ومواعيد أعمالهم

ولم تكن البلدية والكنيسة الوحيدتين اللتين تتحكمان بالصوت، ففي عام 1378 قام عمّال الخشب الذين يكدحون في عملهم، وليس لهم صوت في الحكومة والكنيسة، بالسيطرة على 8 أجراس في أنحاء فلوريدا، وخلال دقائق تجمّع عشرة آلاف عامل في ساحة المدينة للمطالبة بحقوقهم، كانت الأجراس بمثابة تغريدات تويتر هذه الأيام، فاستسلمت الحكومة وفاز الشعب.

الإبصار بالصوت.. قدرات المكفوفين تنافس الخفافيش

الصوت منتج طبيعي للنشاط البشري، فالصمت واستخدام تكنولوجيا أكثر هدوءا أصبحا تقنية مطلوبة في مدننا الصاخبة، لذا فقد قامت شركة “رايداوت” لتنسيق مناظر المدينة، باستخدام آلات أقل ضجيجا تعمل على بطارية الليثيوم، من أجل التنظيف وجزّ العشب، فسلامة البيئة لا تعني نظافة الأجواء من المواد السامة، بل ومن الضوضاء كذلك.

وماذا لو كان الصوت هو الوسيلة الوحيدة لإيجاد الطعام؟ أو للبقاء على قيد الحياة أساسا؟ الخفافيش البنية مثال على ذلك، فهي تعتمد على إصدار أصوات بذبذبات فوق صوتية لا نسمعها نحن البشر، ومن خلال ارتداد الأصوات يستطيع الخفاش تحديد مساره بين متاهات أغصان الأشجار، وتحديد مكان فريسته لينقضّ عليها.

“دانيال كيش” يطور تقنية اسمها “فلاش سونار” تسمح برسم صور ديناميكية ثلاثية الأبعاد عن ما حوله

إنه يحوم حول الفريسة في أكثر من اتجاه من أجل رسم صورة ثلاثية الأبعاد، من خلال معالجة موجات الصوت المرتدة إلى دماغه، إنه يقوم بعملٍ يشبه “السونار” إلى حد كبير. فهل نستطيع أن نقوم بالعمل نفسه؟ نعم نستطيع، ولكن بشكل محدود، فحواسيبنا التي نستخدمها أقل سرعة من المعالج الموجود في دماغ الخفاش، فهو يرسم الصورة أثناء طيرانه بسرعة كبيرة.

وما هو أكثر إبهارا، أن بعض المكفوفين قادرون على القيام بنفس التقنية التي يتبعها الخفاش في التعرف على الأشياء، أي أنهم يرون بأسماعهم، فهذا “دانيال كيش” قد فقد بصره وعمره عام ونصف، فقام بتطوير آليات الإبصار لديه بواسطة سمعه، إنه يطلق أصواتا وينتظر ارتدادها إلى أذنيه ليحدد ماهية الأشياء التي تعترض طريقه.

لقد طوّر هذه التقنية بفطرته مذ كان صغيرا، لم يسمع عنها من قبل أو يتعلمها من غيره، وأطلق عليها اسم “فلاش سونار”، إنه يُكوّن صورا ديناميكية ثلاثية الأبعاد عن ما حوله، ويستطيع أن يتخيل بزاوية 360 درجة، أي يدرك ما يحيط به من كل الجهات. لقد أصبح الفلاش سونار علما يقوم بتدريسه المختصون، ويتحدث عنه “دانيال” في محاضراته، ويقوم بتعليمه لغيره من المكفوفين.

علاج الأمراض.. نغمات الصوت تبشر بالمعجزات

نعود إلى الحديث عن الخفافيش، فلدينا آلاف من هذه المخلوقات تعيش في كهف واحد وتنطلق بشكل جماعي، ولك أن تتخيل كثرة الأصوات التي تطلقها هذه الخفافيش، وقد يصل مستوى شدتها أكثر من 135 ديسيبل، مع هذا فإنها لا تتأذى، ويجري الباحثون دراسات لمعرفة كيفية حماية نفسها من هذه الضوضاء، من أجل تطبيقها على البشر.

يتضرر السمع عند البشر من كثرة الضوضاء، أو عند التقدم في العمر، والسبب في ذلك هو تلف الخلايا الشعرية التي تلتقط الأصوات وتعمل على تكبيرها، وبذلك لا تصل إشارة كافية للدماغ من أجل تحليلها. ويعمل العلماء اليوم، على عقار ينشط قنوات الأعصاب السمعية في الدماغ، وهكذا يمكن أن يأتي يومٌ نعالج فيه فقدان السمع بحبة دواء.

علماء وباحثون يطورون تقنيات لمعالجة بعض الأورام السرطانية بالموجات فوق الصوتية

إن عالم الصوت فيه من السحر الكثير، رأينا في البداية كيف أن الصوت يعيد ترتيب حبيبات الرمل في أنماط منتظمة جميلة، والآن يمكن بحيلة بسيطة أن نجعل هذه الحبيبات عالقة في الهواء، بوضعها بين صفين متوازيين من مكبرات الصوت.

والأعجب هو معالجة بعض الأورام السرطانية بالموجات فوق الصوتية، فتسليط هذه الموجات على الأنسجة الليفية يجعل خلاياها تهتز، الأمر الذي ينتج طاقة حرارية تقضي على الخلايا غير المرغوب فيها.

وتُجرى في جامعة دريسدن بأستراليا أبحاث للاستفادة من الأمواج فوق الصوتية، من أجل علاج حالات من مرض ألزهايمر، فنبضات الأمواج فوق الصوتية تفتح ببطء الحاجز الذي يحمي الدماغ من العدوى، وتسمح لبروتينات الدم بتنشيط الخلايا الطاردة للسموم والنفايات من اللويحات العصبية، وبهذا يمكن استعادة الذاكرة.