“عائشة”.. إجراءات بيروقراطية تطبع جحيم اللجوء في أيرلندا

فرت النيجيرية المسلمة عائشة من بلادها هربا من الموت على أيدي قطيع من الأشرار المجرمين الذين أفسدوا في الأرض، ولجأت إلى بقعة نائية في جمهورية أيرلندا، لكنها وجدت نفسها قد أصبحت سجينة محرومة من أبسط الحقوق الإنسانية، مهددة بالطرد وإعادتها إلى حيث جاءت، وأصبحت تواجه وحدها عنصرية بغيضة وتسلطا إداريا لا قبل لها به.

فيلم “عائشة” (Aisha) هو من إنتاج أيرلندي، وإخراج وكتابة “فرانك بيري” (2022)، وهو أحدث الأفلام التي تتناول العلاقة بين المسلمين والغرب، وبين اللاجئين والسلطات الغربية، وكيف يمكن للإجراءات البيروقراطية أن تحوّل حياة من ينشدون اللجوء من أصحاب القضية العادلة إلى جحيم.

يُعرف “فرانك بيري” بأسلوبه الواقعي واهتمامه بالشخصيات الهامشية، وهو يقدم هنا واحدا من أفضل أفلامه الواقعية التي لا تميل إلى المبالغات العاطفية أو الاستطرادات في السرد، فالسيناريو الذي كتبه يراعي الاقتصاد في الزمن، والاهتمام فقط بالتفاصيل التي تخدم موضوع الفيلم، وقد اقتبس كثيرا من تفاصيله من الوقائع الحقيقية التي مرت بها بطلة فيلمه عائشة.

أموال الجامعة.. بداية المأساة التي مزقت العائلة

جاءت عائشة (الممثلة لاتيتا رايت) إلى أيرلندا هربا من القتل على أيدي عصابة من الأشرار الذين قتلوا والدها وشقيقها، وقصتها التي ترددها على مسامع المحققين في طلب اللجوء طبقا للنظام الأيرلندي؛ تتلخص في أن والدها اقترض مبلغا من المال لضمان أن تتعلم في الجامعة، لكنه لم يتمكن من رد المال لأصحابه، فقتلوه مع ابنه الأكبر، ثم اعتدوا على زوجته وابنته (عائشة)، وبينما تمكنت الزوجة من الاختباء، فقد نجحت عائشة في الفرار إلى أيرلندا، خصوصا أنها كانت قد انفصلت عن زوجها الذي كان يسيء معاملتها، فمشكلتها إذن مركبة.

لا يطلعنا الفيلم على كل هذه التفاصيل دفعة واحدة، بل يصور القصة في تسلسل درامي، بحيث لا يظهر تدريجيا إلا ما يخدم القصة ويبقي على اهتمام المتفرج، فعائشة خائفة، تخشى إن هي أطلعت المحققين على الحقيقة كلها وما تعرضت له هناك في نيجيريا، فيمكن أن يتشككوا فيها ويرفضوا طلبها.

ومن جهة أخرى فعائشة لا تريد استعادة ما وقع لها بسبب بشاعته وانعكاسه بقسوة على نفسها، لكن سيأتي وقت لا مفر فيه من التصريح بالحقيقة كاملة، استجابة لنصيحة المحامي (الرسمي) الذي يتولى عرض قضيتها أمام السلطات.

نظام اللجوء في إيرلندا.. سجن كبير يخالف الاتفاقيات الدولية

طبقا لنظام اللجوء في أيرلندا، حصلت عائشة على غرفة للسكن، في البداية داخل فندق صغير مخصص لإيواء طالبي اللجوء، وكان مسموحا لها في هذا المكان بطهي طعامها في المطبخ، لكنهم يفتشون ما تأتي به من طعام من خارج المكان، ويصادرون اللحم الحلال الذي تشتريه بالمال القليل الذي تحصل عليه من عملها في محل تصفيف لشعر النساء، فممنوع عليها أن تأتي بأطعمة من الخارج، بل يجب أن تشتري مما يوفرونه حتى لو تعارض مع معتقداتها كمسلمة ومحجبة أيضا.

عائشة عملت في محل لتصفيف الشعر حتى تشتري اللحم الحلال

لا يتوقف الأمر على هذا فقط، فرغم أنهم يسمحون لها بالعمل لساعات محددة، فلا يمكنها شراء أي من الأطعمة التي تقدم في المقصف بعد نهاية ساعات العمل، كما يتعين عليها أن توقع عند الذهاب والعودة، ويحظر عليها التغيب أو استقبال زائرين، وإن خالفت النظام البيروقراطي المتزمت المفروض، فيمكن رفض طلبها باللجوء وترحيلها.

هذا النظام سبق له أن واجه كثيرا من الاعتراضات من جانب منظمات حقوق الإنسان، فقد اعتبرت أنه يتعارض مع الاتفاقيات الدولية والأوروبية التي وقعت عليها الجمهورية الأيرلندية، لكن الحكومة دافعت عنه وتمسكت به، وتحت مزيد من الضغوط أعلنت الحكومة أنها تعتزم استبدال هذا النظام بنظام أقل تشددا، لكن في عام 2024.

إذن فالكاتب والمخرج “فرانك بيري” درس نظام احتجاز طالبي اللجوء بكل دقة، لذلك جاء فيلمه شديد الصدق والتأثير، وقد اختار الكشف عن مأساة بطلته عائشة على نحو متدرج، يتفق مع خوفها من التهديد الماثل باستمرار فوق رأسها بترحيلها وإعادتها رغم إرادتها إلى نيجيريا.

“كونور”.. حب يتسلل إلى قلب الحارس الخجول

نرى عائشة تتصل بوالدتها بين فترة وأخرى، تطمئن عليها في المكان الذي انتقلت إليه، واختبأت فيه بعيدا عن عيون الذين يهددون حياتها، الأم مريضة، وعائشة ترسل إليها بعض المال القليل الذي تكسبه من عملها في تصفيف الشعر، وسيأتي خبر مقتل عمها على أيدي الأشرار، فيزداد شعورها بالخوف على حياة أمها.

هناك شخص واحد فقط من خارج محيط زميلاتها طالبات اللجوء يهتم بأمرها، ويتعاطف معها ويبدي شعورا إنسانيا رقيقا تجاهها. إنه “كونور” (الممثل جوش أوكونور) حارس الأمن الأيرلندي الذي يعمل في المداومة الليلية في هذا المكان، فهو يلتقي بها كل صباح ويشاركها ركوب الحافلة وهو في طريقه للعودة، بينما تكون هي في طريقها إلى العمل، وسنعرف أنه قضى فترة في السجن لفترة بسبب جنحة صغيرة لا يكشف عنها الفيلم، لكنها غالبا تتعلق بالمخدرات التي كان قد أدمنها ثم عولج من الإدمان.

الممثل جوش أوكونور الذي قام بدور كونور حارس الأمن الإيرلندي الذي يقع في حب عائشة

إنه مثلها أيضا، خائف ومتردد وجل، لا يتمتع بالثقة الكافية في نفسه، لكنه يشعر بالود تجاهها، وربما بما هو أكثر أيضا ويخشى أن يعبر عنه. يريد أن يساندها، وتدريجيا سيكتسب ثقة في نفسه، وسيأتي وقت يعلن فيه موقفه منها وحبه لها بوضوح أكثر، لكن الواقع سيقف حائطا أمام نواياه الطيبة.

جلسات المحكمة.. نظام يعامل اللاجئين معاملة المجرمين

من مواقف الفيلم الجيدة التي تعمق من إحساس المشاهدين، ليس فقط بأزمة عائشة وما تواجهه، بل أيضا بقسوة النظام البيروقراطي الصارم في التعامل مع طالبي اللجوء في أيرلندا؛ صدور قرار عاجل من مدير المكان، وهو شخص متزمت كثيرا ما يكشف عن نزعة عنصرية إزاء عائشة، فهو يأمرها بجمع حاجياتها تمهيدا للانتقال على الفور إلى مركز كبير لاحتجاز طالبي اللجوء، وهو أقرب ما يكون إلى سجن كبير في بلدة أخرى بعيدة عن العاصمة دبلن، مما يفقدها بالضرورة عملها الذي تكسب منه قليلا من المال تُرسل بعضه لمساعدة أمها التي تعيش دون مأوى، لكن لا أحد مستعد لأن يستمع أو يتفهم.

يتعين على عائشة أن تستعد لجلسة الاستماع الثانية أمام من يتشككون مسبقا في قصتها، ويريدونها أن تقدم لهم أكبر قدر من التفاصيل لما تعرضت له، يدربها المحامي على إجابة الأسئلة الصعبة التي يمكن أن توجه إليها، ويطلب منها أن تشرح بالتفصيل الجوانب الخاصة في قصتها، وستضطر إلى أن تروي لهم كيف تعرضت للاغتصاب من جانب مجموعة الرجال الأشرار الذين ينشدون الانتقام من والدها الراحل الذي ربما يكون قد تورط مع عصابة من مهربي المخدرات، لكن الفيلم لا يكشف عن هذا الجانب حتى لا يشوش على القضية المركزية في الفيلم، أي قضية عائشة نفسها.

عائشة وكونور في لحظة بوح

يجسد المشهد بشكل واقعي صارم تماما وشديد الوطأة على المشاهدين مدى وحشية النظام الذي يصر على النظر إلى طالبي اللجوء على أنهم “مجرمون” أو “كاذبون” يتحايلون، وبعد انتهاء الجلسة يجب أن تنتظر عائشة فترة طويلة قبل أن تعرف قرارهم.

رفض طلب اللجوء.. حالة حزن وزجاج مكسور وإبعاد

تعلم عائشة بموت أمها، ومع ذلك يرفض القائمون على أمرها أن تسافر لحضور الجنازة، فهي إن فعلت ستفقد وضعها بوصفها طالبة لجوء، ويتعين عليها البقاء نهائيا في نيجيريا، وستبقى عائشة طوال الوقت محتفظة برباطة جأشها وشعورها بالاعتزاز والكرامة، رافعة رأسها أمام كل أشكال العنصرية والاستفزاز، خصوصا من مدير السكن الذي قرر نقلها فجأة، بعد أن لاحظ تقرب “كونور” منها، كما أنه شعر بالإهانة الشخصية لرفضها تناول الأطعمة المتوفرة في المكان، وتفضيلها شراء الأطعمة التي تتلاءم مع كونها مسلمة.

تفقد عائشة هدوءها مرة واحدة فقط عندما تتلقى خبر رفض طلبها اللجوء، فهي –كما تكرر كثيرا- لا تطلب إحسانا، بل جاءت إلى أيرلندا فقط من أجل السلامة والأمان، وقد صدقت أن هذه المجتمعات تمنح الأمن والسلامة، حتى أنها تكسر زجاج نافذة الغرفة التي تشترك فيها مع امرأة صينية، وتكون النتيجة ترحيلها مجددا إلى مخيم آخر في مكان أبعد، ورغم هذا البعد والإبعاد، فإن “كونور” لا يتوقف عن زيارتها.

لا تنتهي قصة عائشة برفض طلبها بشكل نهائي، فالمحامي يقول إنه يمكن أن يصعد بالطلب إلى المحكمة العليا. هل ستحصل على الأمان أخيرا؟ لا نعرف ولا يقول لنا الفيلم ماذا يمكن أن يحدث لها، لكنه سينتهي على عائشة وهي وحيدة كما كانت أبدا، تتطلع إلى مناظر الخضرة الجميلة في الحقول القريبة، التي تتناقض تماما مع الوضع البائس الذي تعيش فيه منذ عامين “تحت الاحتجاز”.

أبطال الفيلم.. أداء متفرد يتماهى مع ملامح الشخصية

أسلوب إخراج “فرانك بيري” هو أسلوب يخفي أكثر مما يظهر، أي يميل إلى الإشارات المختزلة الخفية الموجودة تحت طيات الصور والابتعاد عن المباشرة، وهو نفس طابع الموسيقى التي يستخدمها، فهي تدفع إلى التأمل أكثر من الانفعال، وإلى الاهتمام كثيرا بجماليات الصورة، حيث التكوين والإضاءة وتفاصيل المكان التي تعكس ما يدور داخل عمق الشخصية.

المخرج فرانك بيري وسط بطلي فيلمه في مهرجان لندن السينمائي

ولولا وجود ممثلة يمكنها أن تذوب داخل دور عائشة مثل “لاتيتا رايت”، لما جاء الفيلم على كل هذا القدر من التأثير، ولا نجح في الوصول إلى قلب المتفرج مباشرة من دون مبالغات ميلودرامية، فـ”لاتيتا” تتماهى على نحو بديع مع شخصية عائشة، تعايشها وتعبر عنها بالنظرات الحزينة القلقة، لكن دون أن تفقد قط شعورها بالسمو والنبل، لكونها حاصلة على قسط من التعليم العالي، وأنها امرأة تتمتع بالذكاء والقدرة على التعامل مع الجميع بكل فطنة.

لا تفاجئها أسئلة سخيفة من نوع “لغتك الانجليزية جيدة” كما لو كان المفترض أن كل القادمين من الخارج لا يعرفون الإنجليزية، رغم أنهم في نيجيريا يتحدثونها كلغة أساسية.

وعلى الجانب الآخر، بدا “جوش أوكونور” مدهشا في دور “كونور” الشاب المتردد المتلعثم الذي يريد أن يعبر عن حبه لها، لكنه يخشى رد فعلها، ويريد أن يقترب منها ويساعدها أكثر وأكثر، لكنه لا يعرف ماذا يمكنه أن يفعل، لكنه يصبح تدريجيا أكثر شجاعة وقدرة على البوح بما في داخله من مشاعر، ورغم كل ما يتضمنه الفيلم من دفء في المشاعر، فإننا نظل في النهاية أمام عمل سينمائي يدور عن الوحدة وعن الغربة والاغتراب، وعذاب انتظار تقرير المصير الإنساني، إنه عمل مصنوع بأقل قدر من المباشرة وصيحات الإدانة المباشرة، أو الاحتجاج الصاخب.