“ديستوبيا”.. جشع الأثرياء يلتهم أراضي الغجر في بورتو

“خلال عشرة أيام أريد إخلاء هذه الأحياء الفقيرة، أريد أن تُسوّى كل الأكواخ بالأرض. إنها أوامر عُليا”.

“هوو هوو هوو.. سيدي، إذن غدا سأرحل من كوخي، من تحت سقفي. نعم سأرحل، فلن أسمع زعيق الجراء. ليس لدي مشكلة في الرحيل. في أي ركن يُمكنني أن أستقر، إنني قادر على أن أكيف نفسي في أي مكان، لأنني غالبا لا أملك شيئا. أموالي قليلة جدا يكفيها جيب السروال الخلفي. لكن ماذا عن هؤلاء الناس يا سيدي؟ ها، ماذا سيفعلون؟”.

ما سبق ليس سوى كلمات حوار بين إنسان فقير هامشي ومساعد المأمور عندما ذهب لمنطقة العشوائيات في بورتو ليُسلم الأهالي أمر الإخلاء مطالبا بالتوقيع، وذلك ضمن أغنية راب يُختتم بها الفيلم البرتغالي “ديستوبيا” (Dystopia) للمخرج “تياغو أفونسو” (2022).

أطماع الأغنياء.. تطور رأسمالي على حساب الطبقة العاملة

يأتي عنوان الفيلم متناقضا مع تعريف “اليوتوبيا” أو المدينة الفاضلة التي يكون فيها كل شيء مثاليا، فالتعريف القاموسي لكلمة “ديستوبيا” هو “الواقع المرير بدولة أو مجتمع مُتخيَّل يتميز بالمعاناة الكبيرة أو الظلم، حيث ينظم كل شيء فيه بطريقة قمعية مروَّعة أو شمولية”. وهو ما يبدو متطابقا مع عينات هذا الفيلم.

ينهض بناء السرد الفيلمي على فكرة “التحسين” لصالح مركز المدينة التي ظهرت كمصطلح للمرة الأولى في دراسة عن المجتمعات الأفريقية في لندن عام 1964، فعبر التطور الاجتماعي تزاح الطبقة العاملة من مركز المدينة لصالح الطبقتين المتوسطة والعليا، بينما تهمش الطبقة العاملة وتزاح إلى الهامش وعلى الأطراف.

يتتبع الفيلم على مدار ما يقرب من عقد ونصف من الزمان (منذ 2007 وحتى 2021) ثلاث حالات يُمكن اعتبارها مجرد مثال واحد لما يحدث في المراكز الحضرية، ويمكن أن تنطبق على أي بلد في العالم الشرقي أو الغربي، وفي دولنا العربية أيضا، حيث يُطرد الفقراء من بيوتهم، وتُنزع منهم ملكية أراضيهم، لأن الأثرياء يطمعون فيها ولديهم خطط استثمارية مستقبلية بشأنها.

أبراج “أليكسو”.. شرفات تمد حبال الوصل بين الجيران

يرصد الفيلم التغيرات في النسيج الاجتماعي لمدينة بورتو التي تُعد ثاني أكبر مدينة في البرتغال بعد مدينة لشبونة، وذلك من خلال عمليات الهدم والإخلاء وإعادة التوطين، مقدما بحثا ودراسة ميدانية تعتمد على تقديم نماذج واقعية تؤكد فكرة “التحسين” لصالح الأثرياء، أو بالأحرى التهميش الذي يتعرض له الفقراء خصوصا قبائل الغجر في بورتو، وذلك من خلال ما حدث أثناء تلك السنوات في ثلاث مناطق تمثل ثلاث حالات رمزية معبرة عن تلك المشكلة.

الحالة الأولى والأكثر عنفا في ذلك الماضي القريب لمدينة بورتو هي تدمير بيوت جماعة الغجر في باسيلو، موثقا جوهر عملية التفاوض وإعادة التوطين أثناء رئاسة العمدة “روي ريو”. أما الحالة الثانية فهي هدم أو تفجير الأبراج الشاهقة في حي “أليكسو” أمام الكاميرا في مشهد مرعب.

تتضمن عملية التحسين أيضا التحولات في مجال التصنيع والتسوق التجاري، واختفاء البدائل الاجتماعية في الأماكن العامة أيضا أثناء تفعيل هذه العملية المسماة بالتحسين، فمثلا في عام 1986 رصد “بيتر ماركوس” اختفاء الأماكن التقليدية للقاءات والتجمعات الاجتماعية في نيويورك، احتراما لفكرة التحسين فيها، وكان ذلك من أبرز ملامح عملية التحسين.

يظهر الأمر نفسه بوضوح في اثنين من أجزاء فيلم “ديستوبيا”، سواء من خلال فكرة تصميم أبراج “أليكسو” التي صور هدمها بالفيلم، وهي تلك الأبراج التي صممت بشكل يسمح بالتفاعل الاجتماعي وإجراء المحادثات بين الجيران، وقد اشتهرت تلك الأبراج بتصميمها في أوروبا، وذلك على عكس ما كان متعارفا عليه من أن بيوت الفقراء يجب أن تكون منخفضة، ولا تزيد عن ثلاثة طوابق فقط، لكن المهندس المعماري الذي صمم تلك الأبراج كان يُفكر بإنسانية وحب في هؤلاء البشر وفي عاداتهم، وكان مشغولا بالحفاظ على طقوسهم في الحياة وحبهم للتقارب الاجتماعي، فابتكر طريقة معينة في تصميم الشرفات، بحيث تتُيح لهم التحدث والتقارب من خلالها.

“نصف تنظيف”.. جوع في العراء الطلق برعاية العمدة

بالإضافة إلى هدم المباني أدت عملية التحسين إلى تدمير دخل الأسر البائعين في سوق “فاندوم” الذي لم يكن مجرد سوق مفتوح، بل كان يُعد مكانا اجتماعيا فريدا للقاءات الجيران والأصدقاء والمعارف، وإقامة الأحاديث والتفاعل الاجتماعي، فهذا السوق كان يُشكل مصدر رزق أساسي لعدد من الأسر على مدار نصف قرن من الزمن، وعدد كبير منهم صاروا مسنين ولا يملكون أي مصدر رزق آخر، مما يعني أن هدم هذا السوق هو قتل لهم وتجويع إجباري، ورغم الاحتجاجات والإضراب، فإن رأس المال والسلطة كانت لهما اليد العليا.

سوق “فاندوم” المفتوح كان يُعد مكانا اجتماعيا فريدا للقاءات الجيران والأصدقاء والمعارف، ومصدر رزق أساسي لعدد من الأسر

يحمل عنوان الجزء الأول “نصف تنظيف”، حيث نرى محاولات خداع سكان الغجر بطردهم من الأكواخ الخشبية التي يعيشون فيها، إذ يحاول المسؤولون إقناعهم بأن ينتقلوا لأكواخ خشبية أشد سوءا وفقرا، حيث لا مكان للمطبخ أو دورات المياه، فقط أماكن للنوم، وبعض هذه الأماكن للنوم فقط في ساعات محدودة، بحيث لا بد من تركها منذ العاشرة صباحا، كما أنه لا يسمح لهم بالعودة إليها إلا بعد العاشرة مساء.

العمدة المسؤول الذي كان يحاول إقناعهم بالرحيل والسكن بأكواخ خشبية مؤقتة وعَدَ الغجر بأن يوفر لهم شققا سكنية بديلة بعد شهرين، وظلت المفاوضات تروح وتجيء بين الطرفين، وكانت مخاوف الغجر من الخداع، فإذا كان الأمر مجرد شهرين فلماذا لا يبقى الغجر في أكواخهم الحالية حتى توفير الشقق السكنية لهم، لكن المفاوضات أسفرت في النهاية عن طردهم بالقوة، في ظل وجود قوات من رجال الشرطة.

“ما وراء التنظيف”.. تغطية لعجز الميزانية تحت الطاولة

“ما وراء التنظيف” هو عنوان هذا الجزء الذي يبدو شديد القسوة، لا شك أنه يتضمن أيضا دلالة رمزية، فليس المقصود فقط تنظيف المكان من السكان الأصليين من الغجر لمنحه للأثرياء، لكن العنوان يتضمن أيضا تلميحا لتلك المشاكل الاقتصادية والعجز في الميزانية ومتطلبات واحتياجات الدولة منذ عام 2005، فكان الهدف من المرحلة الأخيرة وجود خطة شديدة الطموح، من هنا كان الاستيلاء على بيوت الغجر في المناطق الثلاث كأنه جزء من تنظيف العجز في ميزانية الدولة ببيع هذه المناطق للمستثمرين.

صحيح أن سكان تلك المناطق الثلاث قد تمردوا، فأقاموا المناقشات والمداولات، واستعانوا بالصحافة، ورفعوا لافتات احتجاجية تقول “الأكواخ الخشبية ليست حلّا، نريد الحق في السكن”، صحيح أنهم كانوا عُصبة واحدة إذ تجمع السكان وتبادلوا الآراء وطلبوا المشورة من آخرين، مع ذلك كان البعض يعتبرها فرصة، خصوصا أنه لا يوجد خيار آخر أمامهم، ففي النهاية سيأتي المسؤولون بمكان أو شيء مشابه، يضعون فيه بعض الحواجز المؤقتة سواء في حقل ما، أو حتى يضعونهم في مخزن أو مستودع، أو أي شيء يشبه الثكنات العسكرية.

واحدة من بيوت الغجر التي تم الاستيلاء عليها من قبل الأثرياء

هنا يتوهم البعض أن اقتراح المسؤولين بالانتقال للأكواخ الخشبية المؤقتة ربما يكون اقتراحا جيدا لجماعته، ستقول المسؤولة المفوضة لهم لطمأنتهم إنها ستفعل ما بوسعها حتى صباح الغد، بينما يؤكد لها السكان على أنهم يرفضون فكرة السكن على الحدود، على الهامش، إنهم يقبلون بفكرة وجود فضاء في مكان ما، لكن ليس على الحدود، كأنها عملية طرد واستبعاد.

هنا ستجيبهم المسؤولة “دعونا نرى ماذا يمكن أن يحدث، وما يمكن أن نفعله”. لكنهم سينتظرون طويلا ردا بدون إجابة، رغم أن السكان يُشيرون إلى أعداد كبيرة من المساكن الخاوية بجوارهم، لأن الحقيقة أنها عملية طرد واستبعاد ونهب منظمة. لأن -المسؤولين- يريدون تهيئة المكان للأثرياء من الطبقة الراقية، ويُريدون وضع أكبر مسافة ممكنة بينهما.

ألاعيب المسؤولين.. محاولات نضالية ونهاية مأساوية

إذن يخصص “تياغو أفونسو” زمنه الفيلمي لتسليط الضوء على الأشخاص الذين حرموا من حقوق المواطنين، ومن التمتع بالحقوق الأساسية، لأنهم لم يساهموا كثيرا في الاقتصاد، فتجري تنحيتهم جانبا دون البحث عن سبل لمساعدتهم بشكل فعال في تنمية هذا الاقتصاد.

رغم المساعدات التوعوية التي قدمها البعض لهؤلاء الغجر، ومنها مثلا التحذير من بعض الخدع والألاعيب التي قد يتعرض لها سكان الغجر، مثل ضرورة الإحصاء بشكل رسمي حتى لا يجري خداعهم لاحقا، أو التنصل من العهود التي أعطاها لهم المسؤولين بحجة أنهم أكبر من العدد الحقيقي، وبأنه من الضروري والحتمي أن توجد الجهتان المخولتان بالأمر، وأن تحضرا أثناء عملية الإحصاء، ويسجل كل طرف أعداد السكان بالمنطقة، ثم يبدأ التفكير في الخطط البديلة، بمعنى رفض النقل المؤقت إلى محطات الإطفاء أو المساكن على الحدود، وبأنه يجب الإصرار على الانتقال مباشرة من منطقة الطرد إلى الشقق الجديدة.

اثنتان من نساء الغجر تقارنان بين حياتهما الحالية وما فقدنه بعد طردهما من بيوتهما

كانت تلك الاقتراحات أشكالا للمقاومة، وإن جرى التحذير من أخطارها، ومنها الإخلاء الجبري، فساعتها سيعود الناس إلى حلقة الصفر. بالفعل، أُجبر السكان على الرحيل وهدمت بيوتهم، لكن المثير للريبة أن الأماكن الجديدة التي نقل سكان الغجر إليها قضت على حياتهم الاجتماعية وعلى وحدتهم، فقد صاروا فرادى منعزلين، أصبحوا يتجمعون فقط في المناسبات تحت الجسور أو في فضاءات خاوية للاحتفال، فهل كان ذلك مقصودا كتطبيق لفكرة “فرق تسد”؟ فحين تتفرق الشعوب تستطيع أن تحكمهم السلطة القمعية وتخضعهم لإرادتها.

“إنهم لا يشبعون أبدا”.. حوار مع ابنة المخرج المهموم بالنضال

صحيح أن المادة البصرية الخلاقة بالفيلم تكاد تكون شحيحة جدا، إذ يعتمد المخرج على التوثيق الدقيق الواقعي ونقل الحقيقة الخام كما هي، والعودة لتاريخ المدينة الاجتماعية، وكيف خرجت الطبقة العاملة من المدينة المعزولة للوسط، مع ذلك لا يخلو العمل من خصوصية فنية تجعله مكتفيا بذاته، فبعد سنوات عدة من التعايش أصبح المخرج جزءا من هؤلاء الناس، ويمكن ملاحظة هذا القرب في عدة نقاط أثناء تصوير العمل، كما أنه يبدأ الفيلم من حوار متخيل بين المخرج وابنته، فنسمع صوتهما دون رؤيتهما يتحدثان:

الأب: رجل فقير.. ماذا يعني؟

الابنة: شخص لا يمتك المال، وليس لديه منزل.

الأب: هذا الشخص يمكن أن يمتلك منزلا، لكن أن تكون فقيرا فهذا يعني أنك بدون مال، وبدون أي حقوق.

ثم يختتم المخرج بكلمات ابنته التي تقول: في هذا الزمن لم يعد الناس يفكرون إلا في الأموال فقط، حتى إنهم لا يفكرون في أن الآخرين ربما يحتاجون إلى منزل يأويهم أكثر من احتياجهم للمال. أجل، إنني أرى أن هذا أصبح ملمحا يُميز أغلب الأثرياء جدا. إنهم دائما يريدون المزيد، إنهم لا يشبعون أبدا، لقد صاروا جشعين.. لكل هذا، لو أنني كنت قد ولدت بالفعل سأقوم بتنظيم حشد ضد هذا كله.

بقي أن نشير إلى شخصية “تياغو أفونسو”، فهو منتج ومخرج مهموم بقضايا الفقراء والمناضلين في موطنه، له أكثر من ثلاثين فيلما حصدت عددا من الجوائز، من أبرزها “السبب والظل” (A Causa e a sombra) إنتاج عام 2015، كما شارك في إخراج فيلم “مناجم بوراليا” (Minas da Borralha) الذي يقدم شهادات تتناول عدم المساواة الاجتماعية والعنف العمالي والحوادث في العمل والحياة اليومية التي خلفتها صناعة التعدين المدمرة، والفقر المدقع الذي يعيشه الناس.