“احبس أنفاسك”.. غوص تحت الجليد يكسر أعظم الأرقام القياسية

يبدأ الفيلم بصور بانورامية في غاية الدقة والجمال ملتقطة من زوايا عدة، وأهمها تلك التي التقطت من الأعلى، إذ تعكس فضاء ممتدا من الأشجار والثلوج يوحي بالفضاء الذي ستجري فيه الأحداث، ويُمهّد بطريقة ذكية إلى المعطيات القادمة، خاصة المشهد الأول الذي التُقط من الأعلى، وذلك في اللحظة التي شارفت فيها الشمس على الغروب، فقد ضبطت مع النهر المتجمد وجبال الثلج والأشجار الموزعة على المساحة، وهو ما يشحن المتلقي بطاقة روحية وجمالية تشكل اشتباكه المباشر مع موضوع الفيلم.

 

لقد زرع المخرج هذه المعطيات الأولية في نصف الدقيقة الأولى من العمل، تخللتها موسيقى هادئة وعميقة، وهو ما يوحي بأن المخرج يمتلك الأدوات الضرورية التي تُسيّر الفيلم الوثائقي وتدفعه إلى الأمام، كما أنه يفهم جيدا نفسية المشاهد.

بعد ذلك الوقت تظهر البطلة بلباس السباحة في إحدى البحيرات المتجمدة، تحيط بها الثلوج من كل جهة، بينما ترتدي هي اللباس الخاص برياضيي الغطس، مع مجموعة من المدربين والمشرفين على العملية، تستعد للغطس من فتحة مائية بالبحيرة المتجمدة، ليكون هذا هو المشهد الافتتاحي للفيلم الذي اختاره المخرج قبل أن يدخل في جو المقابلات وإبراز الشخصية، لكنه يقوم بقطعه بمجرد أن يبدأ المدرب في العد، وتدخل الرياضية في الحفرة، ليثير المتلقي ويجعله متلهفا لنتيجة هذه الغطسة والرقم الذي ستحققه، وقبل أن يجيب يسافر بعدها إلى مشاهد أخرى للحفر في محطاتها ودروبها قبل أن تصل لتلك المرحلة المحورية.

جوانا نوردبلاد تستعد لغطستها التي حطّمت بها الرقم القياسي العالمي

تحطيم الرقم القياسي العالمي.. رحلة الكاميرا مع الكفاح

استطاع المخرج السينمائي “إيان دري” في آخر أفلامه الوثائقية -الذي أنتجه سنة 2022- أن يتتبع مسار الرياضية الفنلندية “جوانا نوردبلاد” المختصة في رياضة الغطس تحت الجليد، وقد رافقها خلال تدريباتها الشاقة من أجل تحطيم الرقم القياسي العالمي في الغوص تحت الجليد، خاصة أنها لا تحمل في رصيدها سوى الرقم القياسي العالمي الوحيد الذي حطمته، وهو الغطس لـ50 مترا في صنف السيدات، وهناك احتمال أن يحطم ذلك الرقم في أي لحظة، لكنها كانت تحلم بتحطيم الرقم القياسي الخاص بالرجال أيضا، وهو 80 مترا.

اختار المخرج لهذا الفيلم عنوان “احبس أنفاسك.. الغوص على الجليد” (Hold Your Breath: The Ice Dive)، وقد نقل فيه اللحظات الحاسمة والتدريبات الشاقة التي سبقت تلك العملية، خاصة أنها سيدة بيت ولديها كثير من المسؤوليات، وقد اقترب منها كثيرا حتى يعرف علاقتها بالماء والبرد والمحيط الخاص بها، والرياضات التي مارستها في طفولتها، وقد نجح في هذا لأنه استخرج منها أشياء ثمينة ومعلومات قيّمة يمكن أن تكون سُلّما قويا للدرجات يسير عليه كل حالم وصاحب أمل في أي نقطة من العالم.

كما زرع المخرج عددا من القيم النبيلة التي يمكن استخلاصها خلال مشاهدة الفيلم، وربما أهمها بأنه ليس هناك نجاح بغير عمل، والإرادة وحدها هي التي توصل صاحبها للقمة، وهذا ما عكسته هذه الرياضية الرمز من خلال مرورها على محطات مهمة في حياتها، ولم تكن كلها محطات مضيئة، بل هناك عدة مطبات ونكسات صادفتها قبل أن تصل إلى هدفها المنشود الذي دفعت من أجله الغالي والنفيس لتحقيقه.

لم تقنع جوانا بتحطيم الرقم القياسي للإناث، بل حلمت بتحطيم الرقم القياسي الرجال أيضا

“منذ أن وعت ذاكرتي وأنا أستمتع بوجودي في الماء”

شكلت البطلة العالمية “جوانا نوردبلاد” علاقة قوية بالماء، فلم تعد تنظر له على أنه مادة سائلة، بل هو بالنسبة لها أكثر من ذلك بكثير، فهو إحساس وصفاء ونقاء، وعندما تكون فيه تتغير نظرتها للأشياء والعالم، وتستمتع به إلى أقصى درجة.

لقد عبّرت “جوانا” عن العلاقة التي تجمعها بالماء بحميمية كبيرة في مقابلة بالفيلم قائلة: منذ أن وعت ذاكرتي وأنا أستمتع كثيرا بوجودي في الماء.

إنها تتحدث عن الماء كأنما تتحدث عن حبيب أو قريب، وقد قامت بتفكيك العلاقة التي تربطها به، انطلاقا من طفولتها التي عرفت فيها الماء في مسبح كان في بلدتها، حيث كانت تسبح في أعماقه، وتراقب أجساد الناس في الأعلى، وكانت تظهر لها مثل الحيوانات وبأشكال متعددة.

لقد أشعرتها تلك المشاهد بلذة ما، ومن ذلك الحين ازدادت علاقتها بالسباحة وتوطدت كثيرا، حتى أنها كانت تبقى طويلا في الأعماق حتى تستمتع بتلك الأشكال الغريبة، كما كانت تقول إن الماء يعطيها “الإحساس الطبيعي بالنقاء”.

 

مارست “جوانا” أيضا عددا من الرياضات المهمة التي كانت مولعة بها، مثل ركوب المنحدرات على الدراجات النارية، وقد كانت تلك التجربة قاسية بالنسبة لها، إذ أصيبت بحادث خطير جدا كاد أن يودي بقدمها، فقضت زمنا لم يلتئم جرحها، وكادت أن تُصاب بالغرغرينا، وحتى بعد شفائها بقي الألم الشديد يصاحبها ثلاث سنوات أخرى، إلى أن قرأت في إحدى المرات بأن الماء البارد مفيد، وهكذا فعلت، فقد بدأت تغطس في المياه الجليدية إلى أن زال الألم، وفي الوقت نفسه أصبحت تلك الطريقة هي متنفسها الوحيد لترتيب مشاعرها وتقوية علاقتها بالماء.

تحديات اللحظة الأخيرة.. كسر جدران الجليد والإحباط

كان التفكير بتحطيم الرقم القياسي العالمي (80 مترا رجال) حلما صعب المنال، بل هو شيء قريب من المستحيل، لكن “جوانا نوردبلاد” أرادت فعل هذا بكل جوارحها، وقد ساعدتها أختها “إليانا” التي كانت بمثابة مدربتها، وبدأتا العمل معا لتحقيق هذا الحلم.

انطلقت “جوانا” في التدريب بشكل يومي في المنطقة التي تسكن فيها، وقد كثّفت من عملها بداية من يناير/كانون الثاني عام 2020، قبل ثمانية أسابيع من القيام بأهم خطوة في حياتها، وحينها بدأت أسرتها والجميع يشعرون بخوف شديد عليها، خاصة أن أي خطأ صغير يُرتكب يمكن أن يكلفها حياتها.

وفي الوقت ذاته بدأت المشاكل في الظهور، إذ كان شتاء ذاك العام دافئا، لهذا كان الجليد أقل سمكا مما كان مخططا له، وقد أصابها هذا الأمر بإحباط شديد، خاصة أنها قررت السفر إلى بحيرة أولوري بهوسا الواقعة شمال فنلندا، وهو الأمر الذي لم يرق لها لأنها تدربت في البحيرة التي تعرف تفاصيلها، وانتقالها لبحيرة جديدة شكّل نكسة جدية بالنسبة لها.

إضافة إلى إصابتها بمرض مع ظهور بقة سوداء على رئتها، وهناك احتمال كبير أن لا تشارك بسببه، لكن الطبيب أمرها بالمشاركة، وعندما اقتربت ساعة الصفر انتشر فيروس كورونا (كوفيد 19) في العالم، وأغلقت فنلندا على غرار باقي دول العالم الفضاءات العامة، وقررت إلغاء كافة النشاطات، بما فيها النشاطات الرياضية، ومن هنا بدأ الإحباط من جديد.

جوانا مع اختها الينا التي كانت سندها ومدربتها ووقفت معها في كل خطوة قبل تحقيقها الرقم القياسي

ساعة الصفر.. جو من الترقب تحت الماء

رغم النكسات والمطبات، لم تركن “جوانا” إلى بيتها وتنسَ حلمها، بل واصلت التفكير فيه بجدية أكبر، واستأنفت التدريب من جديد، كما لم تلتفت للأخطار الكبيرة التي تحيط بهذه الرياضة، ومنها السكتة القلبية، وإن لم تخرج من البحيرة في الوقت المناسب فسوف يغمى عليها، مما يؤدي إلى الموت المؤكد أو الشلل، وهي المخاوف الكبيرة التي تحيط بعائلتها، كما يمكن لأي سبب صغير أن يودي بحياتها، مثل أن تشعر بالذعر أو التردد أو الخوف، حينها يقدم العقل قراءة خاطئة، وبالتالي تحدث الكارثة.

كانت “جوانا” وعائلتها وأختها المقربة منها يعون جيدا هذه الأخطار، لكنها في النهاية قررت إتمام المغامرة واستئناف التدريبات من جديد، وهذا خلال شهر مارس/آذار عام 2021، أي بعد سنة من التوقف، وقد رتبت كل المعطيات الضرورية.

حضرت اللجان والصحافة والمسعفون ليشهدوا على الخطوة الكبرى، ولتبدأ المغامرة، واستطاعت أن تتجاوز الرقم القياسي العالمي الذي حقق قبلها، وتصل إلى 103 أمتار في ثلاث دقائق كاملة وهي تحت الماء، وقد كان الجو مهيبا ومرعبا، خاصة بين الحضور الذي ذهبت أنفاسهم من شدة الإثارة والترقب.

التصوير المائي.. جماليات تخلق التحاما بين الصورة والمُشاهد

صنع التصوير السينمائي الدقيق والفضاءات التي جرت فيها الأحداث خلال تدريبات البطلة “جوانا” جماليات متعددة في الفيلم، خاصة التصوير المائي الذي قام به المختص “جان تشارلز غرانجون”، حيث نقل لنا عوالم الأعماق وتفاصيلها، وهي المشاهد التي خلقت نوعا من الرهبة والوقار، بعد أن تجاوزت بكاميراتها مظاهر الأشياء وذهبت صوب عمقها.

وقد ساعد في هذا شكل الماء والجليد وانسياب “جوانا” داخله كسمكة، حتى أنها أصبحت مع الوقت وكأنها كائن مائي، لا فرق بينها وبين الكائنات التي تعيش في البحيرات والأعماق، وهي المعطيات التي خلقت نوعا من الالتحام العاطفي والروحي بين المتلقي والفيلم بشكل عام، انطلاقا من النقاء البصري الذي نقلته الكاميرا بسلاسة ورهبة كبيرين.

لقد أضحت الكاميرا في هذا الفيلم أكثر من كونها آلة توثق بصريا لحدث ما، بل ولدت مشاعر متدفقة طوال المدة الزمنية للفيلم، ومن هنا تحول فيلم “احبس أنفاسك.. الغوص على الجليد” إلى وثيقة بصرية روحية نقلت محطات “جوانا نوردبلاد” الداخلية والخارجية، وربط بينهما بجماليات متعددة.