“خديجة”.. قصة نجاح تتحدى الضمور الحركي أربعين عاما

يندرج فيلم “خديجة” للمخرج التركي “مراد إيرون” ضمن الأفلام الوثائقية المُلهِمة التي لا تُغادر ذاكرة المتلّقي بسهولة، وذلك لأنها تترك بصمتها الخاصة وتأثيرها القوي الذي يأخذ بتلابيب الإنسان، ويحرّك مشاعره الإنسانية المرهفة.

ويبدو أن هذا المخرج قد كرّس قسما كبيرا من حياته لأصحاب الهِمم وذوي الاحتياجات الخاصة، فقد سبق له أن أنجز فيلم “800كم حواجز” سنة 2012، ويتابع فيه رحلة صديقين مُعاقَين جسديا تستغرق 13 يوما، قاما بها على درّاجة نارية من إسطنبول إلى موغَلا.

وفي سنة 2019 وضع اللمسات الأخيرة على فيلمه المعنون “خشية طبيب الأسنان” الذي تابعَ فيه البروفيسور “إرتوغرول صباح” وهو يقضي عطلات نهاية الأسبوع بعيادته المتنقلة لطب الأسنان، ويقدم علاجا مجانيا للأطفال من ذوي الإعاقات العقلية في المدارس الداخلية الإقليمية.

أما فيلمه الثالث الذي يحمل اسم “خديجة”، فهو أشبه بالسيرة الذاتية والأُسرية، ويرصد فيها حياة خديجة منذ طفولتها حتى بلوغها سن الثانية والأربعين.

ضمور العضلات.. رضيعة تكسر القواعد الطبية

ما إن أنجبت الأم طفلتها خديجة حتى انتبهت إلى سكونها التام، ما عدا أنفاسها الصاعدة والهابطة في صدرها، وكانت ترى أنها ستتحسن بمرور الأيام، وحينما يئست الأسرة برمتها من حركات الرضيعة المحدودة، وعدم قدرتها على الإمساك برأسها؛ حملها الوالد مراد أوزكان في عام 1982 إلى مستشفى جابا” في جامعة إسطنبول.

وبعد 45 يوما من الاختبارات في قسم الجهاز العصبي أخبره البروفيسور حفظي أوزكان بأن ابنته مُصابة بمرض ضمور العضلات من دون أن يخوض في التفاصيل، وأن هذا المرض -في ذلك الوقت-لا علاج له، ويمكن أن يعيش الطفل المُصاب حتى ثماني سنوات في تركيا، بينما تمتد أعمار المصابين في أوروبا والدول المتقدمة الأخرى إلى 14 عاما لتطور القدرات الطبية، وأن الأجهزة التنفسية لهؤلاء الأطفال يمكن أن تضعف بمرور الوقت.

وصف الطبيب لخديجة مضادات حيوية وفيتامينات تخفّف من وطأة مرضها في فصل الشتاء القاسي، خاصة أنها ستنتقل مع عائلتها من إسطنبول إلى مدينة آغري الواقعة على الحدود الشرقية من تركيا، حيث يعمل والدها جنديا متطوعا، وسوف يُمنَح سكنا في الثُكنة العسكرية الباردة نسبيا، التي تحتاج إلى وسيلة تدفئة إضافية غير التدفئة المركزية، الأمر الذي سيفضي إلى إصابتها بذات الرئة ويعرض حياتها للخطر.

وحينما رآها الطبيب أول مرة أخبر والدتها بأنها ستفارق الحياة في اليوم الموالي لتفاقم مرضها الرئوي وضمور عضلاتها، لكن الأم أخذتها إلى ممرضة كبيرة السن، وأسعفتها ببعض المضادات الحيوية، فالتقطت أنفاسها من جديد، وانتصرت على مرضها الرئوي، لتواصل رحلتها الحياتية الشاقة وهي تنتقل مع أسرتها من مدينة إلى أخرى من شرق البلاد إلى وسطها، لينتهي بها المطاف في مدينة أزمير غربي تركيا.

ملصق فيلم خديجة وتظهر فيه البطلة في مواجهة العالم والإعاقة

مسيرة الدراسة.. حلم تواجهه العقبات الجسدية والنفسية

رغم التشخيص النهائي للأطباء المختصين بأن خديجة مُصابة بضمور العضلات الشوكي الحاد، ومن النوع الأول الذي يُدعى “مرض ويردنغ هوفمان”، وما تعانيه من ارتخاء العضلات، والمشكلات التنفسية، وصعوبة البلع، وتناول الطعام بواسطة أنبوب مثبّت في المعدة مباشرة؛ فإنها كانت تصر على الذهاب إلى المدرسة والتعلم مثل أقرانها الآخرين، فالتحقت بالمدرسة الابتدائية سنة 1989.

وبما أنها لا تستطيع أن تقلّب صفحات كتبها المدرسية أو تفتح دفتر الواجبات المنزلية، فقد اضطرت الأم “دوندو أوزكان” إلى مرافقتها طوال اليوم، الأمر الذي أثار حفيظة التلاميذ، وصاروا يطالبون المعلمة بحضور أمهاتهم أيضا، مما دفع المعلمة إلى منع والدة خديجة من المجيء إلى المدرسة، فقررت خديجة التوقف عن مواصلة دراستها الابتدائية بعد أن شعرت بالتمييز، وتدهورت أوضاعها النفسية، لأنها كانت تجد في الدراسة طريقها المُفضي إلى تحقيق أحلامها وطموحاتها الشخصية.

تعتمد خديجة على أمها في كل صغيرة وكبيرة، بدءا من الأكل والشرب والاستحمام، مرورا بقضاء الحاجة، وتقليب جسدها الهامد على الفراش كلما شعرت بالخدر أو التنمّل يسري في بدنها أو أطرافها الأربعة، وانتهاء بتصفح أوراق الكتب والمجلات التي تقرأها.

المخرج مراد أيرون الذي كرس أعماله لتسليط الضوء علي معاناة ذوي الاحتياجات الخاصة

لقد ظلت الأم “دوندو أوزكان” ترعى ابنتها وتقدّم لها هذه الخدمات المتواصلة على مدى 35 سنة من دون أن تشكو أو تتذمر، وحينما سرح زوجها مراد أوزكان من الجيش وبدأ بعمله الجديد مقاول بناء وإنشاءات عمرانية صار يتفرغ لابنته، سواء في المنزل أو أثناء اصطحابها للتنزه في حدائق المدينة وشوارعها، أو عند ساحل البحر وغيرها من أماكن الراحة.

كما كان يصطحبها بسيارته الخاصة سواء لأداء الامتحانات أو مراجعة الأطباء، أو للمحاضرات التي ستقدمها لاحقا في الندوات والأماسي الثقافية والأكاديمية.

عصر الحاسوب.. ثورة معرفية تتفجر بالشهادات الجامعية

بلغت خديجة في سنة 2001 إحدى وعشرين سنة، ومع إطلالة “التعليم عن بُعد”، أو التعليم الإلكتروني (الأونلاين)؛ بدأت خديجة الدراسة مُجددا وتأدية الامتحانات، ليس في المرحلة المتوسطة والثانوية فقط، بل إنها واصلت تأدية امتحانات المرحلة الجامعية والدراسات العليا المتمثلة بمرحلة الماجستير.

ومن أبرز المتطلبات التي كانت تحتاجها خديجة جهاز الحاسوب الذي يتوفر على خصائص معينة، من بينها أنه يعمل ببصمة العينين، ومن حسن حظها أن إبهام قدمها اليمنى يتحرك، الأمر الذي ساعدها في استعماله لتحريك الفأرة (الماوس)، ولولاه لما استطاعت الكتابة والتواصل مع الآخرين.

ولا بد من الإشادة بالجهود الكبيرة التي قدمها خبير الحاسوب التقني “جوكان أريكان” لجعلها تكتب وتتواصل مع الآخرين، وتؤدي امتحاناتها المطلوبة بكل سهولة ويسر، وصار بإمكانها أن تكتب صفحة كاملة خلال 48 ساعة، إضافة إلى تواصلها بالصوت والصورة مع الآخرين، خاصة في تسجيل الفيديوهات وتنزيلها على اليوتيوب ومواقع التواصل الاجتماعي المعروفة.

استطاعت خديجة منذ سنة 2003 وحتى ساعة إنجاز هذا الفيلم في 2022 تجاوز المرحلة الثانوية بنجاح، كما حصلت على ست شهادات جامعية، وثلاث شهادات ماجستير، منها شهادة كلية الإدارة العامة والاقتصاد من جامعة الأناضول للتعليم المفتوح، والعلاقات العامة من جامعة الأناضول أيضا، وشهادة في العدالة، وبرنامج الإعلان من كلية العلوم الاجتماعية في جامعة إسطنبول، وحصلت على شهادة الماجستير في علم النفس من جامعة تركية في الخارج، والحاسوب والتقنيات من جامعة سلجوق، والتربية الخاصة من جامعة الأناضول.

ظل الآباء.. دفء عاطفي ينحسر عن الأبناء المعاقين

تشعر خديجة بالغبطة والسرور لأن أبويها لم يتخليا عنها لحظة واحدة، ففي أحد لقاءات ذوي الاحتياجات الخاصة التي جمعت مئة عائلة في بلدية نارليدره سنة 2020؛ انتبهت خديجة إلى أن بعض الآباء كانوا حاضرين في هذا اللقاء، بينما غاب عدد كبير منهم، وحينما استفسرت من بعض الأمهات الحاضرات تبيّن أن هناك آباء قد هربوا من بيوتهم، وتركوا أبناءهم المُعاقين يُثقلون كاهل أمهاتهم فقط.

أما خديجة فقد كان والدها يحملها بين ذراعيه كلما طلبت الخروج من المنزل، سواء للنزهة أو لمقابلة بعض الصديقات اللواتي تلتقي بهن بين آونة وأخرى. كما أنه ينقلها من جامعة إلى أخرى، ومن امتحان إلى آخر، وظل يرعاها لمدة سبع سنوات من دون أن يتذمر أو يتأفف ذات يوم.

خديجة أمام شاشة حاسوبها المكيّف ليصلح لاستعماله وفق إعاقتها

حزن الأم على إعاقة ابنتها لا حدود له، وإذا كان الأب يتماسك ويضبط أعصابه فإن الأم لا تستطيع أن تحبس دموعها كلما رأت أقران ابنتها يمشون على أقدامهم أو يهرولون صوب مدارسهم، فتطفر دموعها لا إراديا، ولا تستطيع أن تحبسها في محجريها، وحينما تسألها خديجة عن سبب بكائها واحتقان عينيها تختلق لها حكاية مُفتعلة تخبئ وراءها مشاعر الانفعال والعواطف الجيّاشة، ولا تعترف لها بأنها تبكي لعجز ابنتها عن المشي أو الوقوف على قدميها ولو لمرة واحدة طوال حياتها.

يركز المخرج مراد إيرون على بعض الامتحانات الجامعية التي أدّتها خديجة ليبين لنا بعض المصاعب التي كان يواجهها الأهل حينما يكتشفون أن الامتحان في بعض الجامعات ليس في الطابق الأرضي، وإنما في الطابق الأول، الأمر الذي يتطلب جهودا شاقة يبذلها أربعة أشخاص على الأقل لحملها مع الكرسي المتحرّك المخصص لها، فهو أثقل من الكراسي المتحركة القياسية بسبب المسند الثقيل الذي يثبت الرأس ويمنعه من أي حركة مفاجئة قد تؤذي رأسها المرتخي والواهن أصلا.

بينما قدم لنا المخرج جامعات أخرى كانت تحسب لكل شيء حسابه، ووفرت لها فراشا تستلقي عليه لتؤدي امتحاناتها الشفهية القائمة على ثنائية السؤال والجواب.

مثال المعاق الملهم.. قصة نجاح مبهر تلاحقها الصحافة

حين شاعت أخبار خديجة ونجاحاتها المُتلاحقة في الحصول على ست شهادات جامعية وثلاث شهادات ماجستير، بدأت وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي بنشر هذه الأخبار المُلهمة، وصار الكثيرون يهتمون بها ويتداولون أخبارها ويعرضون عليها المساعدة، ويطلبون صداقتها على فيسبوك، وأرسل البعض أرقام هواتفهم بهدف تقديم المساعدة وتزويدها ببعض البرامج الحاسوبية التي تُسهّل حياتها الشخصية واهتماماتها الثقافية والعلمية والاجتماعية.

كما طلبت منها مؤسسات صحفية وثقافية أخرى أن تروي قصة حياتها للناس، وتبيّن لهم كيف تجاوزت محنة إعاقتها وعجزها التام عن القيام بأي حركة جسدية.

تعترف خديجة بأنها لا تستطيع أن تنقذ إنسانا أو ضحية ما، لأنها مكبّلة على كرسيها المتحرك، أو حبيسة الفراش في أفضل الأحوال، لكنها يمكن أن تصبح أستاذة أكاديمية تقدّم دروسها عن بُعد، سواء بالكلام المباشر أو بالفيديوهات المسجلة التي تُعرض على الشاشة، كما روت قصة نجاحها إلى بعض المؤسسات الثقافية والاجتماعية، وأصبحت نموذجا يُقتدى به، ومثلا يحاول الناس أن يقلدوه ويحذون حذوه.

محاضرات الجامعة.. بصمة خاصة في التعليم الإلكتروني

لم تُصدّق خديجة التي قدمت وثائقها الرسمية إلى جهات حكومية متعددة في مدينتي أزمير وأديرنا، حينما جاء الرد الرسمي أخيرا بقبولها موظفة حكومية في مركز استشارة نفسي بجامعة الأناضول التي تضم 36 ألف طالب، بينهم طلاب من ذوي الاحتياجات الخاصة، إضافة إلى قسم لتعليم الطفولة المبكر، وسوف تُصبح خديجة معلمة رائدة في هذا المضمار.

خديجة في جامعة أزمير ديمكراسي لتقديم محاضرات حول مقاومة المعاناة والإعاقة

لقد شعرت في نفسها بأنها ظلت تُقاتل الأحكام الجائرة والمعايير المزدوجة منذ يفاعتها، وقد جاء دورها لأن تضع بصمتها الخاصة في التعليم الإلكتروني الذي تستطيع أن تقدمه من البيت دون الحاجة إلى تحمّل عناء الذهاب إلى قاعات الدرس في الأروقة الجامعية.

ارتأى المخرج أن يصوِر لنا واحدة من المحاضرات الناجحة التي قدّمتها خديجة في أمسية ثقافية نالت إعجاب الحاضرين، كما رصد لنا محاضرة ثانية قدمتها في جامعة أزمير ديمكراسي، وقالت فيها بصراحة إن ما تقدمه للطلبة ليس معجزة وإنما هي أشياء معروفة لكنها مهملة من دون قصد، فترد عليها رئيسة الجامعة البروفيسورة “بدرية تونجيسيير” بأنها تتكلم بشاعرية، وأن الطريقة التي ترد بها على الأسئلة دقيقة وتامة لا ينقصها شيء، وأن هذه المحاضرة قد أثرت بها كثيرا، ولا تريد أن تكون المحاضرة الأخيرة، واعتبرتها معلمتها الروحية، وطلبت منها أن تلتحق بصفوفهم التعليمية الخاصة لأنها خزان معرفي كبير يمكن أن تفيد به الطلبة والأساتذة على حدٍ سواء.

خديجة.. شمعة تتوقد دون أن تلعن الظلام

لا بد من الإشارة إلى أن عقلية خديجة تنتمي إلى التفكير الإبداعي الخلّاق، وتدعم الطرق البديلة للتفكير، وتتبع في بعض الحالات طريقة مونتسوري لتعليم الأطفال الصغار التي تعوّل على تطوير اهتمامات وأنشطة طبيعية، بدلا من استعمال طرق التدريس الرسمية.

ربما يكون الدكتور “ألبير كايا” قد وضع إصبعه على الجُرح حينما قال إنه مسرور للتعرّف على خديجة، وقد وصفها بأنها عنيدة، لكنها فرحة ومرحة ومتصالحة مع نفسها، وقد تجاوزت الكثير من المشكلات التي كانت تطوِّقها من كل حدب وصوب، فهي امرأة بلغت 42 عاما، وحققت نجاحات كبيرة رغم هذا المرض الخطير الذي حرمها من أي حركة أو التفاتة بسيطة، لكنها ظلت مُشرقة ومتألقة توزع الابتسامات، وتتوقد مثل شمعة منيرة دون أن تلعن الظلام.

مراد إيرون.. ما وراء المخرج المتعدد المواهب

من الجدير بالذكر أن المخرج مراد إيرون قد تخرج في جامعة أنقرة، وحصل على شهادة بكالوريوس في الإعلام والبث الإذاعي.

ومنذ العام 1989 وحتى الآن شغل عددا من الوظائف مصورا ومنتجا ومخرجا تلفزيونيا، وعمل مُحاضرا في جامعتي بهجيشهر وقادر هاس لمدة عشر سنوات، ودرّس الصوت والإضاءة والمونتاج. كما أخرج ثلاثة أفلام وثائقية آخرها فيلم “خديجة” الذي اشترك في مهرجان أنطاليا السينمائي الدولي لسنة 2022.