“أجساد معذبة”.. نزوات شاذة تحمل براعم الطفولة إلى دور البغاء

تنتشر في عالمنا الحديث جرائم الاتجار بالبشر والاعتداءات الجنسية على الأطفال، ومع أن هذا النوع من الجرائم تحرمه كافة الأديان وتمنعه القوانين المحلية والدولية، فإنه ما زال يستشري كالوباء الخبيث في مجتمعاتنا، ولا يفرق بين دول العالم المتقدم أو الثالث، ولا بين السود دون البيض أو الآسيويين دون الأفارقة.

هذا الفيلم أعدّته “سيدفي سيدهالي شيري”، وهي راهبة وناشطة في مجال حقوق الإنسان ومكافحة الاتجار بالبشر والاعتداءات الجنسية على الأطفال، وقد عرضته الجزيرة الوثائقية بعنوان “أجساد معذبة”، وهو تستقصي المراكز العالمية لهذه الجرائم، وجهود المنظمات الأهلية لمكافحتها، وسبل توعية الناس بأخطارها.

استغلال الأطفال.. جرائم تفوق حدود الخيال

يتحدث “جون كينغ” مؤسس منظمة “أعلوا صوتهم” عن نفسه قائلا: بدأ أول اعتداء جنسي عليّ عندما كنت في عامي الرابع في البيت، ثم يتحدثون عن تأثير ذلك على الطفل، إنها حقيقة، ولكنها ستظهر آجلا، فإن رأيت طفلا يعتدي عليه 30 رجلا دفعة واحدة، ثم تراه بعد سنوات يقتل أمه بطريقة بشعة، فلن يكون ذلك مستغربا.

وتقول أخرى: ترعرعتُ في تايلاند، وشهدتُ أنماط الاستغلال الجنسي وتصاعدها، وهو يشكل ثاني أكبر تنظيم إجرامي في العالم، إنهم إذا أرادوا أن يستغلوا طفلا لأعمال التسول، وهيئته لم تكن مثيرة للشفقة، فسيبترون ذراعيه، ليستدرّ عطف الناس ويعطوه المال.

الناشطة الحقوقية “سيدفي سيدهالي شيري” صاحبة مبادرة مكافحة الاتجار بالبشر والاعتداءات الجنسية على الأطفال

تقول الراهبة “سيدفي”: عندما بدأنا بإعداد هذا الفيلم لم نكن نتخيل أن نواجه هذه التفاصيل الصادمة، فقد كنا نطمع فقط في أن نحدث فرقا وأثرا إيجابيا بنشر الوعي بين الناشئة وتعليمهم اتخاذ قرارات حاسمة وصائبة خلال حياتهم، فالفيلم غير ربحي ولن يعود عليّ أو على المنظمة بمنفعة مادية، فقط نريد منه الوصول للناس وزيادة وعيهم من خطر جرائم الاتجار بالجنس.

وتضيف: كانت لدي رهبة من التواصل مع الأشخاص المهمين الرسميين، وكذلك المنظمات الدولية كاليونيسيف، ولكن ذلك تحول إلى دعم ومساعدة وتشجيع على إخراج الفيلم، ما دام سيساهم في زيادة الوعي لدى الأجيال الشابة. وقد بدأنا العمل بالسفر إلى الفلبين والمكسيك ونيو أورلينز وحتى دالاس، من أجل مقابلة أبطال القضية، لكن اتضح لنا أن ما نبحث عنه مغاير تماما لتصوراتنا وتطلعاتنا، وتبين لنا أن مفهوم الاتجار بالجنس -حسبما نتخيله- مغاير تماما لمشاهداتنا على الواقع.

تسليع الجسد.. عبودية العصر الحديث تعبث بمصائر الأطفال

يقول الدكتور “بن رايت” عضو منظمة “مؤرخون ضد العبودية”: كنا نتخيل أن مفهوم العبودية هو استرقاق البشر والتجارة بهم عبر الأطلسي، وأن هذا الأمر انتهى منذ 200 سنة في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن تبين لنا أن مفهوم الاستعباد يتعدى ذلك إلى مصادرة الحريات وتسليع الجسد، وهذا مع الأسف ما زال قائما ومستمرا في أماكن شتى من العالم.

وتحدثت “سيسيليا أويبادا” من “مؤسسة صوت الأحرار ودار الأمل للأيتام” قائلة: أعملُ في هذا المجال منذ 25 عاما. لقد أصبح الضحايا أصغر سنا مما مضى، فقد استقبلنا فتاة عمرها سنة واحدة، من أصل 20 فتاة جرى بيعهن بالاتجار والجنس عبر الإنترنت، ويبلغ حجم ضحايا هذه الجرائم 20-30 مليون ضحية سنويا، ولا يمكن الجزم بأرقام حقيقية، لأن الضحايا يتحرجون أو يخافون الحديث عنها بحرية.

في أمريكا، يبلغ متوسط أعمار الفتيات المتاجرات بالجنس بين 12- 14 سنة

وتختلف أسعار الفتيات بحسب الأعمار، فكلما كان العمر أصغر كان السعر أكبر. تقول “سيسيليا أويبادا”: أعرف رجلين أمريكيين من المنظمات التي تكافح الاتجار بالبشر، يسافران إلى أمريكا الجنوبية، ويتظاهران برغبتهما في شراء فتيات، ويقابلان أحد زعماء العصابات، فيسألهما عن عمر ومواصفات الفتاة التي يريدانها، فإذا كانت بعمر 12 سنة فإن سعرها يصل إلى 20 ألف دولار، لأنه سيجني من ورائها هذا المبلغ لو بقيت معه، أما الفتاة التي بلغت 16 عاما فسعرها 4 آلاف دولار فقط.

تايلاند.. بؤرة عالمية لإرضاء النزوات الشاذة

تقول “لوتا سيلواندر”، وهي ممثلة دولة في تايلاند: ينخدع الكثير من الأهالي بأنهم عندما يبيعون أولادهم فسيؤمنون لهم حياة أفضل، لكن مع الأسف، فغالبية الأطفال الذين يتعرضون للاعتداء لا يأتون من الشوارع، بل يسلمهم أهلهم طوعا للعصابات.

تعتبر تايلاند بؤرة عالمية للاتجار بالأطفال لأغراض الجنس، ويجلب إليها سنويا 60% من الضحايا من بلدان أخرى. وفي المكسيك يتعرض 70 ألف طفل للاتجار والجنس، ويستغل 50 ألفا منهم جنسيا على الحدود الأمريكية المكسيكية وحدها.

تعتبر تايلاند بؤرة عالمية للاتجار بالأطفال لأغراض الجنس

وينقل آلاف الأطفال من بلدان مختلفة -مثل ميانمار وكمبوديا ولاوس وماليزيا- إلى بانكوك لإرضاء نزوات الرجال الشاذين، أو للتسول والسرقة، ويُخدَع أهلهم بأنهم ذاهبون لغسل الأطباق في المطاعم، مقابل مبالغ سيرسلون جزءا منها لذويهم.

صدمة الصبا.. مأساة منزلية تقيد الطفل مدى الحياة

وعندما ينشأ الطفل بين أناس يعتدون عليه ويغتصبونه يوميا فسيعتاد على ذلك غالبا، ولن يجد داعيا للاستغاثة، لأنه يرى أن هذه هي الحياة المعتادة، وأن غيره من الناس مسحوقون مثله، وأكثر الذكريات مرارة وصدمة للطفل هي الاعتداء الجسدي في المنزل من قبل والديه.

قرأت ذات مرة عن امرأة عملت في مكتب التحقيقات الفيدرالية الذي كان يحقق في استغلال الأطفال إباحيا، ونصحها صديقٌ أن تكتم صوت المقاطع المصورة، ولكنها لم تسمع لنصيحته، فكانت مفاجأتها صاعقة عندما لم تسمع أي صوت للأطفال الضحايا.

معظم الذين يتاجَر بهم يكونون قد تعرضوا لصدمة العنف الأسري وهم صغار، ويتعرضون من التجار للعنف الجسدي والجنسي المروع، ثم يباعون وقد تحطمت شخصياتهم واستسلموا لقدرهم كما يتخيلونه، وقد يقعون فريسة للخداع فيوهمهم المشترون أنهم جاءوا لإنقاذهم وإسعادهم، ويكتشفون بعدها أن ذلك مجرد شباك لاصطيادهم.

على جميع الأطفال والفتيات أن يصرخوا ويسمعوا صوتهم للمسؤولين بأنهم ضد الاتجار بهم كبشر

ويسود اعتقاد خاطئ أن هذه الجرائم تحدث فقط في العالم الثالث والمجتمعات المتخلفة، ولكن الصادم أن مدنا كثيرة في أمريكا تعاني من هذه الجرائم، وتعتبر مدينة لوس أنجلوس مركزا مهما للاتجار بالفتيات والأطفال المستقدمين من المكسيك، وتقدر قيمة هذه التجارة بـ32 مليار دولار سنويا، بمعدل 90 دولارا للعبد الواحد، وبهذا تتربع أمريكا على قمة الدول التي تمارس هذه الأنشطة العبودية.

صمت الضحايا وتغاضي المجتمعات.. بيئة تجارية خصبة

إن الفقر والجهل هما عاملان مهمة في ازدهار هذه التجارة، وكذلك فقدان التعاطف مع الآخرين، وعدم الرغبة في إنقاذ ومساعدة المتورطين، وعدم الرغبة في محاربة ظلام النفس الداخلي، واستمراء العيش على هامش الحياة وفي مستنقعات الهزيمة. فلماذا لا نضبط شهواتنا الحيوانية؟ ولماذا نستغل قوتنا في سحق الآخرين؟

إن السمو بالنفس عن هذه الممارسات السفلية يمكن أن يخفف كثيرا من النسبة الكبيرة للاتجار بالبشر من أجل الجنس ويُضعِف الطلب عليها، وهذا يساهم في تلاشيها.

إن غياب الرادع القانوني أيضا يسهل الحصول على الرغبات الشهوانية بمبالغ زهيدة ودون أي مسؤوليات تذكر، وهذا يشجع رجالا عاديين من الطبقات الوسطى وما فوقها على الاستجابة لنداء غرائزهم وتلبية رغباتهم الجسدية، دون خوف من العقاب.

وما يروِّج لهذه التجارة الرديئة هو أن كثيرا من الضحايا يسكتون، فلا يرفعون أصواتهم بالاستغاثة وفضح الجناة، ويعتبرون القضية برمتها من المحرمات التي لا يجب البوح بها، ويحاولون بسكوتهم إظهار الصلابة وعدم الانهزام، والحقيقة أنهم يزيدون هذه التجارة ازدهارا بصمتهم.

“قبل أن أصبح جلادا كنتُ الضحية”

وسائل التواصل وتكنولوجيا الاتصال الحديثة لها دور كبير في رواج هذه التجارة، كما للمكالمات الصوتية والمرئية دور كبير في شيوع تجارة الجنس الافتراضي، وقد اعتاد كثير من الرجال على دخول مواقع المواعدة، أو حتى أدمنوا عليها، فلا فرق في ذلك بين أبيض وأسود وآسيوي أو لاتيني، فسهولة الأمر وتوفر المال يدفعانهم إلى المزيد، ولو على حساب عائلاتهم.

كما يفتح الفقر والجهل وإدمان الممنوعات أبوابا يستغلها المتاجرون بالبشر، وتتحول حالات التسول في بلدان مختلفة إلى شكل من الاتجار بالبشر، فبعض فئات المجتمع تستلذ بتدمير الأشياء الجميلة، وليس أجمل من ابتسامة تعلو وجه طفل أو طفلة.

في الفلبين ينخرط ما بين 60- 100 ألف طفل تحت سطوة عصابات الاتجار بالبشر

يقول “ماريو غارفياس”: سُجنت 12 سنة بتهمة الاتجار بالبشر، فقد نشأت في وسط من الحثالة، ولست أبرر جريمتي، ولكنني قبل أن أصبح جلادا كنتُ الضحية، فقد بدأت باختطاف الفتيات من أماكن مختلفة، وورطت إخوتي في توزيع الفتيات على الزبائن، ثم يعودون بهن إلى منزلي، كُنّ يبكين ويتوسلن إلي، لكنني لا أكترث بهنّ، فهنّ في نظري مجرد سلعة أتاجر بها.

ويتابع: يقودك السجن غالبا إلى منعطفين، إما أن تتحسن حياتك أو تسوء، فإن أحببتم أن أشارككم قصتي لأقول لكم إن هذه الجرائم موجودة، والسبب فيها يعود إلى الجهل والعائلة السيئة، وأنا نادم على كل الألم الذي سببتُه، لأن ما سببته للآخرين سيرافقني طول حياتي.

فيتنام.. بؤرة تبيع فلذات أكبادها لهواة الرذيلة

تتحدث فتاة فيتنامية تعمل مضيفة طيران قائلة: أتواصل مع أهلي عبر فيسبوك، وأرسل لهم النقود والملابس، فيرتدونها وأراها عليهم عبر الكاميرا، وقد رأيت إحدى قريباتي تبدو بملابس فاضحة في الصور، فاستغربت من الأمر، وفي أول عطلة قابلتها، وسألتها عن سر هذه الملابس، فأخذتني إلى مقهى به بنات كثير مثلها، ورجال أمريكيون.

لقد أصبحت فيتنام بؤرة تتصاعد فيها جرائم الاتجار بالبشر، ويأتيها الزبائن من أمريكا وأوروبا وآسيا، فتنتهك عفة الفتاة ويُغتال جسدها، لتمتلئ جيوب العصابات بالدولارات، وتموت الضحية 20 إلى 30 مرة في اليوم، ولا أحد يشعر بصراخها. وعلى الطريق تسير سيارات الأجرة مسرعة، يركبها أفراد العصابات وعلى حجورهم أطفال وفتيات ذاهبون إلى المجهول.

تقول مضيفة الطيران: لقد فهمتُ الأمر، هؤلاء الفتيات يغرين الرجال ويقضين الليل معهم مقابل المال، ثم فهمت من قريبتي أن عمّها أجبرها على هذا العمل، لأنه أبرم صفقة مع العصابات. وهناك فتيات ما بين 9-13 عاما يمارسن الرذيلة 20 مرة في الليلة الواحدة، وأنا في الحقيقة خجلة من نفسي أنني لم أفهم معنى الاتجار بالبشر إلا وقد بلغت 27 عاما من العمر.

أصبحت فيتنام وجهة للتجارة الجنسية التي سلعتها الأطفال والمراهقون وزبائنها معتدون من شتى أنحاء العالم

هؤلاء الفتيات سُلبن الإحساس لأنهن أصبحن موصومات بالعار، ويعشن حالة من العداء مع أجسادهن الممزقة، ويجبر معظمهن على الإجهاض من أجل التخلص من عبء الخطيئة، أما التي تقاوم منهن وتصر على حملها، فمصير الجنين أن يوضع قرب حاوية أو حتى عند بوابة دار البغاء.

كما تغتصب الطفولة حتى عند بعض العائلات المتعلمة والغنية وفي أحياء راقية في بعض المدن الأمريكية، وأيضا في مواسم وبطولات كرة القدم التي تقام للتعبير عن المتعة والحرية والترفيه البريء، فهنالك دائما من يستغل هذه الأجواء ليعرض بضاعته الرديئة، ويسوّق الرذيلة، ومع الأسف هنالك كثير من الرجال الذين يدفعون المال لإشباع نزواتهم.

“كنتُ ضحية الاغتصاب يوما ما”.. قصة الراهبة التي كسرت جدار الصمت

تقول الراهبة “سيدفي”: أعددتُ هذا الفيلم للتوعية من خطر الاتجار بالبشر، لأنني أنا نفسي كنت ضحية الاغتصاب يوما ما، لقد اغتصبني أحدهم وأنا في عامي السادس، ثم هدد بقتلي وقتل عائلتي إن أنا تفوهت بكلمة، فبقيت صامتة حينها، لكنني لن أصمت بعد اليوم، وسأدعم جميع الأطفال والفتيات والمجتمعات من أجل أن يصرخوا ويسمعوا صوتهم للمسؤولين: نحن ضد الاتجار بالبشر.

إن التربية الروحية لها كبير الأثر في التعويض عن الجروح الجسدية التي يتعرض لها ضحايا الاغتصاب، وتوعية الناس بأماكن العصابات، والضغط على المسؤولين لتشريع القوانين اللازمة للحد من هذه الجرائم، والكف عن مشاهدة المواقع الإباحية، كل ذلك يمكن أن يساهم في تخفيض نسبة هذه الجرائم.

السكوت عن الاتجار بالبشر يزيد الأمر سوءا، فعلى كل الضحايا أن يصرخوا ويطالبوا بحقهم

أيها الرجل: قم بزيادة الوعي، أنت مهمّ مهما كان تعليمك أو وظيفتك، اذهب إلى هناك، إلى حيث تمارس هذه الجرائم، وحاول أن تنقذ شخصا -ولو واحدا- من مستنقع الرذيلة.

أيتها الفتاة: أنت قوية ومستقلة، آمني بنفسك وبمقدرتك على مقاومة الظلم والاغتصاب، القوة في الكثرة، فيجب أن نحشد الناس وننظمهم ونحسن قيادتهم تحت شعار معين، ساعتها يمكن أن ننجح ونحدث تغييرا مهما