“بطاطا”.. يوميات النزوح بعيون لاجئة سورية في مزرعة لبنانية

فيلم وثائقي ليس كغيره من أفلام الهجرة واللجوء، وامرأة سورية لا مثيل لها بين النساء، فقد ضحت بسعادتها ووضعت عائلتها قبل نفسها، وأفنت حياتها في العمل الشاق في مزرعة لبنانية لعشرات السنين، فقد لجأت إلى لبنان قبل سنوات من انفجار أزمة اللاجئين السوريين بعد اندلاع الحرب في سوريا.

يحمل الفيلم عنوان “بطاطا” (Batata)، وقد أخرجته السورية اللبنانية الكندية (من أصل أرميني) “نورا كافوركيان” (2022)، وساهم في إنتاجه صندوق دعم الفنون في مؤسسة الدوحة السينمائية (قطر)، مع أطراف إنتاجية من لبنان وكندا، وهو فيلم طويل يبلغ ساعتين وخمس دقائق.

محمد موسى.. أحاديث شاعرية مع مالك المزرعة الأرميني

يصور الفيلم كيف انعكست التطورات السياسية بين سوريا ولبنان على حياة امرأة سورية تدعى ماريا، إذ هاجرت منذ وقت مبكر إلى لبنان، والتحقت بالعمل في مزرعة رجل لبناني، وكانت تطلق عليه مع رفاقها من العمال المسلمين اسم موسى أو محمد موسى، رغم أنه لم يكن مسلما بل مسيحيا، واسمه الأصلي “موفيس دوداكليان”، وهو من أصل أرميني، مثل مخرجة هذا الفيلم.

يتضمن الفيلم مقاطع من مقابلات أجرتها المخرج معه باللغة الأرمينية، وفي إحدى هذه المقابلات يصف موسى علاقة المزارع بالأرض التي يزرعها، ويشبهها بعلاقة الحب بين الرجل والمرأة.

يتميز هذا الفيلم بلغته السينمائية الرفيعة وإيقاعه الشعري وانتقالاته بين الشخصيات المختلفة في سلاسة، منتقلا من الخاص (ماريا وحياتها ومحنتها) إلى العام (وضع اللاجئين عموما)، رابطا بين الإنسان والطبيعة، وبين الأرض والإنسان، ثم تتسع دائرة النظر لنصبح كأننا أمام ملحمة الإنسان من أجل البقاء في ظروف مستحيلة.

حميمية العلاقة.. أجواء الصداقة والعمل في أكناف رجل استثنائي

يغطي الفيلم عشر سنوات من الأحداث التي انعكست على حياة الشخصية المحورية في الفيلم ماريا، وتمتد المتابعة من 2009 إلى 2019، وينقسم الفيلم إلى فصول يحمل كل منها تاريخ العام، وفي السنوات الأولى تتابع المخرجة قصة ماريا، وقدومها للمرة الأولى إلى هذه المنطقة من سهل البقاع في لبنان، عندما كان عمرها 11 سنة.

وقد جاءت مع والدها أبو جميل، وهو مسلم سني من مدينة الرقة السورية، وارتبط بصداقة عميقة مع اللبناني المسيحي موسى، وبينما ظلت ماريا تعمل في مزارع البطاطا التي يمتلكها موسى مع نحو ثلاثين فتاة سورية أخرى؛ فقد عاد والدها مع أمها إلى سوريا، وإن ظل يتردد بين وقت وآخر لزيارة صديقه اللبناني والاطمئنان على ابنته.

تعتبر شخصية موسى شخصية أساسية في النصف الأول من الفيلم، وهو رجل استثنائي في كل شيء، في حبه للناس وترحيبه المدهش بالسوريين، وفيما يبديه من كرم وحب للحياة والطعام الجيد وللموسيقى، كما أنه نموذج للتضحية من أجل الآخرين والرفق بمن يعملون لحسابه، بحيث أصبحت ماريا بمثابة ابنة له، والواضح أيضا أنها اكتسبت بعض المعرفة والثقافة من الأحاديث التي كانت تدور معه، فعلى الرغم من مظهرها “البدوي” ولهجتها السورية الخشنة لهجة سكان الشرق السوري، فإنها تشير أثناء حديثها مع المخرجة (من وراء الكاميرا) إلى لوحة للفنان التشكيلي الفرنسي “مونيه”، بل نرى صورة من تلك اللوحة الشهيرة معلقة على جدار الخيمة التي تقيم فيها.

ماريا اللاجئة السورية التي قامت بكل ما يقوم به الرجال

من البداية نرى كيف كان يتعين على ماريا أن تبني الخيمة بنفسها، وأن تتعلم قيادة الجرار الزراعي، وأن تعمل في الحقل بيدها، تزرع وتحصد ثم تطهي الطعام، وتعيش أيضا لحظات مرح وسعادة مع هذا الرجل النادر موسى، ثم كيف أصبح كثيرون من أبناء الرقة يأتون، يلحقون بها ويطلبون مساعدتها في العثور على عمل في المزارع. ولم يكن لجوء السوريين وقتها مدفوعا بالرغبة في الفرار من الحرب، بل فرارا من واقع البطالة والكساد الاقتصادي.

عداء الغريب.. وجود عسكري يوتر علاقة الشعبين

يتطرق الفيلم في القسم الأول منه، إلى موضوع التشكك وعدم الثقة من جانب اللبنانيين تجاه السوريين، ويروي شاب لبناني يعمل في المزارع مع ماريا أن النظرة السائدة لدى اللبنانيين هي أن السوريين أتوا ليأخذوا مكانهم في العمل، ومن هنا كان الرفض، وكان السوريون يظنون في البداية أنهم لن يبقوا في لبنان أكثر من ستة أشهر، لكن الأمور تغيرت مع اندلاع الثورة السورية في 2011.

ومن خلال استخدام بعض لقطات الأرشيف للوجود السوري العسكري في لبنان لسنوات طويلة، يرصد الفيلم نشوء النفور والرفض، ودرجة من العداء من جانب اللبنانيين، ويروي الشاب اللبناني في الفيلم أن كل حركة أو خطوة كانت تقتضي الحصول على تصريح من السلطات السورية التي صارت تتحكم في كل شيء.

هذا الجانب السياسي أساسي في رسم ملامح الصورة العامة للعلاقة المتوترة بين الطرفين، لكن الأمر سيتغير مع بدء عملية النزوح الكبير فيما بعد.

رحيل موسى.. خبر فاجع لن يتحمله والد ماريا العجوز

في 2012 بدأ الكثيرون سواء من أقارب ماريا وغيرهم في التدفق على مزارع البطاطا، لكن العمل في المزارع يصاب بالجمود مع إغلاق الحدود ووقف حركة التصدير، ويعاني موسى من خسائر مالية باهظة، ويتعين على ماريا أن تذهب إلى العمل في مخبز قريب كل يوم حتى توفر ما تقتات به، لكنها لا تكف عن مساعدة الآخرين من أهلها وأبناء وبنات عمومتها وسائر أفراد القبيلة الذين يتوافدون هاربين من جحيم الحرب، خصوصا بعد استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على الرقة.

موسى اللبناني الأسطوري الذي أقام علاقة مثالية مع اللاجئين

سيأتي وقت في 2014 تنتقل فيه الكاميرا فجأة إلى ماريا وهي تبكي أمام قبر وتضع فوقه شمعة، لقد مات موسى فجأة، ربما بعد أن تكاثرت عليه الضغوط -كما تخبرنا ماريا في مشهد آخر-، لكنها الآن تبكي الرجل الوحيد الذي جعل لحياتها معنى، ولم يكن موسى متزوجا، أما هي فظلت تنتظر أن يظهر الرجل المناسب الذي يصلح زوجا لها دون أن يأتي أبدا، ومع ذلك لم تيأس ولم تدخل دائرة الاكتئاب، بل ظلت دائما تشقى وتجتهد وتعمل، وتشيع التفاؤل بين الجميع، وتوزع الابتسامة والحب على الجميع، فقد وضعت حياة الآخرين قبل حياتها وقبل نفسها، وقدمت نموذجا مبهرا في إنكار الذات.

في البداية تقول لنا ماريا إنهم أخفوا خبر وفاة موسى عن والدها العجوز الذي قد لا يتحمل الصدمة، لكن فيما بعد أخبروه، فأعلن أنه لن يطأ بقدميه لبنان بعد اليوم، لكنه يعود بعد سنوات، لكي يطمئن على ابنته وأقاربه.

مخيمات اللجوء.. لحظات من الفرح في عالم المأساة

لا تتوقف الأزمة السورية بل تتصاعد، فوالد ماريا ووالدتها يرسلان لها لقطات مصورة عبر الهاتف المحمول لهروب مئات العائلات من الرقة، كما ستعلم أن أحد أبناء عمومتها وهو كهربائي طلب منه رجال “داعش” العمل معهم على أن يمنحوه بيتا وأجرا جيدا، لكنه رفض، وأصبح مصيره فيما بعد مجهولا.

ومع اتساع نطاق اللجوء، ينتقل الجميع للعيش في مخيمات اللاجئين التي تشرف عليها منظمة الأونروا، ومن بينهم كثير من الأطفال الذين توقفوا عن الذهاب للمدارس، ولم يحصلوا على أي قسط من التعليم، والظروف الحياتية قاسية، خصوصا في الشتاء مع حلول البرد القارس في المنطقة، وندرة الوقود والماء.

ومع ذلك ورغم كل الظروف الشاقة، يتمكن هؤلاء من الاستمرار في الحياة، فنرى مشاهد من الزواج والإنجاب والاحتفال، وإقامة الأفراح والرقص الجماعي، وكل ما يجعلهم يتوحدون معا في قلب المأساة.

إننا أمام لقطات غير مسبوقة لهذا الجزء من العالم، عالم المخيمات المنتشرة على مساحة واسعة من الأرض، تتطلع إليها ماريا من وراء الأسلاك التي تذكرنا بمعسكرات الاعتقال الجماعي النازية.

المخيمات التي بناها اللاجئون في مزارع البطاطا قبل الحرب السورية

وهنا سيتغير موقف الشاب اللبناني من اللاجئين السوريين، فبعد أن كان يرفض وجودهم، يقول لنا الآن إنه لا يمكنه سوى التعاطف والتضامن معهم في أزمتهم الإنسانية، بعد أن أصبح من العسير أن يعودوا إلى بلدهم في هذه الظروف.

حلم الهجرة.. معاينة لعالم اللاجئين من الداخل

تستخدم المخرجة بذكاء شديد نشرات الأنباء التي تستقبلها ماريا وأقاربها عبر شاشة التلفزيون داخل المخيمات، لوضعنا في التطورات السياسية في السنين التي يغطيها الفيلم. كيف يقتل النظام السوري أبناء شعبه، وكيف تحولت مدن كاملة مثل حلب إلى خرائب، ونرى الضحايا يسقطون يوميا بعد تدخل الجيش الروسي لحماية نظام الأسد، كما نستمع إلى اللاجئين السوريين وهم يصفون مشاعرهم إزاء ما يحدث، ويتحدثون عن النظام الذي يتمنون زواله حتى يمكنهم العودة.

لكنه الحلم الذي ينتهي الفيلم دون أن يتحقق، ويصبح حلم الكثيرين هو الهجرة إلى أوروبا، لكن أشقاء ماريا يحاولون، يفشل من يفشل وينجح من ينجح، ويتقاعس كثيرون بسبب التكلفة المالية الباهظة.

لعل أجمل ما في هذا الفيلم الوثائقي الطويل أننا نطلع على عالم اللاجئين السوريين من داخله، لكن من خلال عيني شاهدة حقيقية، وامرأة عاشت حقبة كاملة وعايشت خلالها كيف تغيرت المصائر، وشهدت على الفقدان، فقدان الأحباء وفقدان الوطن، وكيف ولد من ولدوا، ومات من ماتوا، ذهب الكثيرون، غادروا إلى الجانب الآخر من العالم، وجاء غيرهم يبحثون عن مكان يواصلون منه الحياة، ثم كيف كانت ماريا أيضا شاهدة على تطور العلاقات وعلى الزواج والولادات، والموت أيضا.

“أم اللاجئين”.. كفاح المرأة الجميلة الصلبة الشجاعة

أصبحت ماريا -تلك المرأة الجميلة القوية الصلبة الشجاعة- هي “أم اللاجئين”، وعندما تتحدث في الفيلم عن ما كان يرويه لها موسى مما وقع من مذابح في حق الأرمن، فهي تقارن ما وقع للأرمن في الماضي وما يحدث للسوريين اليوم، ثم تقول إنها أصبحت تخشى أن تصبح مأساة ملايين السوريين اللاجئين المشردين الذين يقبعون داخل مخيمات بدائية، يعانون أشق ظروف الحياة دون أن ينتبه إليهم العالم؛ مثل مأساة اللاجئين الفلسطينيين المستمرة منذ أكثر من سبعين عاما.

إن أكثر ما يصلنا من الفيلم الذي يتخذ عنوانه من حقول البطاطا في سهل البقاع، هو قدرة هذه المرأة على التكيف في أشد الظروف قسوة، وكيف اكتسبت القدرة المدهشة على التعبير، رغم أنها لم تتلق تعليما كافيا، وكيف تخلت أيضا عن حلمها بالزواج، مقابل أن تخصص حياتها لمساعدة الآخرين.

ماريا التي لقبت بأم اللاجئين، وهي امرأة لا تكف عن العمل ولا تتخلى عن الأمل

ومن دون المعايشة الطويلة من جانب المخرجة للاجئين في المعسكرات، وخصوصا قربها الشديد من شخصية ماريا، ما كان يمكنها أن تعبر بكل ما نلمسه من صدق عن هؤلاء اللاجئين، علاقاتهم ببعضهم، وأحاديثهم التي تنساب في تلقائية أمام الكاميرا، في لحظات الشقاء والأسى والمرح والمزاح، كما نرى الأطفال في اللعب والشغب والمشاكسة، بحيث أصبح الفيلم بانوراما شاملة للحياة في زمان ومكان محددين.

“نورا كافوركيان”.. مخرجة تنقل لحظات الفرح والضيق

لم يكن ممكنا أن تستعين نورا بفريق تصوير، فقد أرادت بناء علاقة مباشرة حميمية مع الناس، ولذلك فقد استطاعت أن تقتنص الكثير من اللحظات التلقائية منهم أمام الكاميرا، وهو ما انعكس على الفيلم، وجعله يصل إلى قلوب المشاهدين.

وتستخدم “نورا كافوركيان” في فيلمها اللقطات القريبة التي تركز على الوجوه، وخصوصا وجه ماريا المعبر، لكي تنقل لنا مشاعرها في لحظات الضيق والفرح، كما تركز على العلاقة الأساسية بين ماريا والأرض، وبينها وبين الأخريات والآخرين من حولها، وتركز كثيرا على ثمرات “البطاطا” التي أصبحت الغذاء الأساسي للجميع، فهي الثمرة الحاضرة باستمرار في حياتهم.

وتستخدم نورا شريط صوت يفيض بالنغمات المعبرة مع مقاطع من أغاني فيروز، والأغاني والأهازيج الشعبية اللبنانية والسورية. وينتهي الفيلم بلقطة قريبة على وجه ماريا التي يقول لنا صوتها إنها تأمل في عودة الجميع إلى وطنهم قريبا.

13 عاما مرت منذ أن بدأت المخرجة في تصوير فيلمها، إلى أن اكتمل مونتاج الفيلم، وعرض في عدد من المهرجانات السينمائية الدولية، وحقق أصداء إيجابية، فقد نقل للمشاهدين في كندا والعالم صورة جديدة شاملة للاجئين السوريين في لبنان.