“كذب.. سياسة وديمقراطية”.. ألاعيب الرجل الغاضب الذي اقتحم البيت الأبيض

يسترعي الحضور اللافت للرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” في الانتخابات النصفية الأخيرة انتباه المخرج “مايكل كيرك”، ويدفعه لمعاينة سلوكه السياسي بعد خسارته للانتخابات الرئاسية عام 2020، ومعرفة ما إذا كان قد حدث تغيير في نهجه السابق الذي انتهجه خلال الفترة التي سبقت توليه الحكم، وأيضا المرحلة التي دخل فيها البيت الأبيض، وتميزت بعدم تحمله لأي نوع من الخسارة، وإذا ما حصلت فإنه سرعان ما يلجأ إلى الأكاذيب لنكرانها، كما يستخدمها سلاحا يهاجم بها خصومه في حالة فوزهم عليه.
يراجع الوثائقي الجديد “كذب.. سياسة وديمقراطية” (Lie.. Politics and Democracy) سلوكه السياسي، ويحلل الأسباب التي جعلته رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية وزعيما للحزب الجمهوري، ويشخص أيضا انتهازية قادته الذين سمحوا له بترسيخ سياسة تضر بالديمقراطية الأمريكية وتتعارض مع مبادئها، وذلك لأنهم غلبوا مصالحهم الشخصية على مصلحة الحزب والبلد، ودفعهم خوفهم من خسارة مواقعهم لمهادنته والموافقة على سلوكه التدميري الذي توّجه بتشجيع وتحريض مؤديه على اقتحام الكونغرس الأمريكي يوم السادس من يناير/ كانون الثاني من عام 2020.
سلاح الكذب.. أساليب الهجوم في معارك السياسة
يبدأ الوثائقي بمراجعة مواقف “ترامب” السياسية قبل دخوله عالم السياسة، ثم يكملها بعد خوض غمارها، ويجد في مهاجمته لخصومه وتوجيهه لهم تهما كاذبة نهجا ثابتا يتخذه في حياته الشخصية والسياسية.
من أكثر ما يلفت في سلوكه عدم قناعته بمبدأ الربح والخسارة في السياسية، وأن تبادل السلطة سلميا هو جزء من ديمقراطيتها. تجلى ذلك في رفضه الاعتراف بفوز منافسه “جو بايدن” في انتخابات 2020، وحتى بعد الإقرار الرسمي بتعيينه رئيسا؛ رفض تهنئته وفق العرف السياسي التقليدي. لم يحصر إشهار الكذب سلاحا في وجه خصومه من الحزب الديمقراطي، بل شهره أيضا في وجه أعضاء من حزبه.
يقدم الوثائقي تجربته مع عضو مجلس الشيوخ وحاكم ولاية آيوا الجمهوري “تود تروز” مثالا على نهجه السياسي وسلوكه العدائي الذي تخطى كل حدود، فقد عمد إلى السخرية من مظهر زوجته والإساءة لسمعة والده، من أجل إبعاده من سباق الترشيح عن الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية عام 2016.
وكعادته يدعي “ترامب” أن “تروز” قد سرق أصوات ناخبيه في ولاية أيوا. لم تشفع للفائز بأعلى أصوات ناخبيها المضي في ترشيح نفسه، بعد أن شعر أن تهديدات “ترامب” له قد تهدد مستقبله السياسي بأكمله، لهذا قرر الانسحاب من السباق.
صناعة الرعب.. قدرة هائلة على تضخيم المخاوف
من أجل الإحاطة بالمشهد السياسي الأمريكي الذي يسمح لـ”ترامب” بالتسيد رغم سلوكه السياسي المناهض للديمقراطية؛ يضع صانع الوثائقي نقطة زمنية تتمثل بلحظة اقتحام مؤيديه للكونغرس، ويربطها بممارساته السابقة للحدث، من أجل فهم الآلية التي يعمل بها النظام السياسي، ودور قيادة الحزب الجمهوري الذي يمثل ركنا مهما في الحياة السياسية الأمريكية في تعزيز مركزه.
كما يوثق تاريخيا تبني قيادته البراغماتيةَ مبدأ في عملهم السياسي، والبقاء في الحقل السياسي طيلة حياتهم هدفا لا يسمو فوقه أي هدف آخر، ومن أجل الإلمام بالمشهد الداخلي للحزب يستعين الوثائقي بقيادات منه قدموا شهادتهم أمامه، وتحدثوا إليه عن تجاربهم الشخصية مع “ترامب”، ودعما لمراجعته السياسية استضاف صانع الفيلم صحفيين وخبراء سياسيين أضفوا على منجزه عمقا وموضوعية.
عند أغلبيتهم ثمة إقرار بقدرة “ترامب” على معرفة مخاوف الناس، والعمل بذكاء على تضخيمها من أجل تحقيق أهدافه وغاياته التي يجيد تحديدها بدقة، ويظهر ذلك بشكل جلي من خلال تغذية مخاوف اليمينيين المتطرفين من وجود المهاجرين، وتعزيز توجههم الانعزالي وكراهيتهم للغير، وبشكل خاص للسود من الأمريكيين.

يلاحظون أنه يتعمد الكذب أمام وسائل الإعلام فيما يتعلق بعلاقته بالمتشددين القوميين وببقية الحركات العنصرية، وأنه يعمل من أجل كسب ودهم وضمان الحصول على أصواتهم.
تمزيق المجتمع.. خرق لروح الدستور يدعمه ساسة الحزب
يراجع الوثائقي مواقف “ترامب” السابقة خلال كثير من أحداث العنف التي نشبت بسبب مواقف وممارسات العنصريين ضد السود وبقية القوى المناهضة لتوجهاتهم، وتظهر أنه لم يعبر عن موقف رافض لها أو مستنكر، بل ساوى بينهم وبين المضطهدين والمتضررين من كراهيتهم للغير، وعنفهم الذي أدى إلى اندلاع احتجاجات واسعة أشرت إلى حدوث شرخ مجتمعي كبير في الولايات المتحدة الأمريكية.
سلوكه المؤيد للمتطرفين اليمينيين وسخريته من آليات العمل الديمقراطي التقليدية عمّق الانقسام المجتمعي، وفي الوقت نفسه لاقى صمتا وعدم انتقاد له من أغلبية قيادة الحزب الجمهوري، وقد احتج عدد قليل منهم على سلوكه، لكن بكثير من الحذر والخوف من مواجهة رجل ثري يضمن لهم ولحزبهم قاعدة شعبية واسعة، إذا خسروه خسروها معه.
يراجع الوثائقي مواقفهم الانتهازية والخوف على مصالحهم من خلال مواقف شخصيات متنفذة في الحزب مثل “مارك سانفورد” و”مايك بنس” و”ميتش ماكونيل” و”كيفن مكارثي” وغيرهم، فقد اعترضوا حينا لكنهم عادوا ثانية ووقفوا معه. خوفهم من خسارة مواقعهم ومصالحهم الشخصية شجعه على المضي في سياسته التي تمثل تهديدا حقيقا للسلم الأهلي، وخرقا لمبادئ وروح الدستور الأمريكي.
مقايضة القادة.. تفاهمات تحت الطاولة لصناعة اللعبة
منذ وقت مبكر وعلى ضوء معرفتهم الجيدة بطبيعة شخصيته النرجسية المحبة لذاتها وتحليلهم لتوجهاته السياسية؛ وجد الكثير من المحللين والصحفيين في ذلك مؤشرا على نوعية الرئيس الذي سيحكم أمريكا، وإلى قيم الحزب الذي سيترأسه.
ورغم كل أكاذيبه فإنه كان صادقا في وصفه لمؤيديه العنصريين بأنهم “شعبه” الخاص، فهو وحده قادر على تحقيق حلمه في نظام فوضوي لا يحقق العدالة ولا المساواة، ووحده باستطاعته إسكات كل الأصوات التي تعارضهم.

هذا ما تحقق في الواقع بفعل سلوك قادة حزب تجنبوا مخاصمته، وظنوا أنهم قادرين على ترويضه لمصلحتهم، لكنهم اكتشفوا أنه هو من يحركهم، وهو القادر على طردهم من “جنتهم” السياسية
ويعرض الوثائقي مواقف بعض القادة، وكيف كان يقايضهم للتنازل عن موقف معارض ما، مقابل ضمان منحه لهم مكسبا سياسيا أو شخصيا محددا يريدون الحصول عليه. يأخذ الوثائقي موقف رئيس كتلة الجمهوريين في مجلس النواب “ميتش ماكونيل” من اقتراح تخفيض الضرائب مثالا.
ضمن توجهه الرأسمالي وضمانا لمصالح أمثاله من الأثرياء أراد “ترامب” تخفيض الضرائب العالية المفروضة على أرباح مؤسساتهم الاقتصادية، وقد عارض المقترحَ السياسيُّ المخضرم، لكنه تراجع عنه بعد أن ساومه الرئيس على التنازل عن موقفه مقابل حصول الشخص الذي يريد تعيينه رئيسا للمحكمة الاتحادية.
يقر مجلس النواب القانون ويحصل القائد الجمهوري على ما يريد. هكذا كان يعامل قادة حزبه الذين وجدوا أنفسهم في النهاية أمام حقيقة مفجعة مفادها أنه قد هيمن بالمطلق على الحزب، وصار بإمكانه تسييره وفق ما يريد.
فضيحة أوكرانيا.. تخاذل حزبي لحماية الرئيس من المحاكمة
يتضح السلوك الانتهازي والمتخاذل لقادة الحزب الجمهوري في موقف آخر يتعلق بتقديم رئيسهم للمحكمة بتهمة الكذب والضغط على الرئيس الأوكراني من أجل إثارة فضيحة مفتعلة ضد “جو بايدن”، فقد وقفوا ضد المحاكمة ورفض أكثرهم تقديم شهاداتهم الخاصة أمام القضاء خوفا منه، وحفاظا على امتيازاتهم، ولم يهتموا بما تمثله من خطوة مهمة لصالح ترسيخ العدالة وتحجيم خروقات الرئيس.
تلك المواقف ستشجعه على المضي في نهجه الشعبوي غير الديمقراطي، وسيمهد لاحقا للخطوة الأخطر المتمثلة بتحريض مؤيديه على اقتحام الكونغرس، دون خوف من معارضة حزبية حقيقية.

كما شجعته تلك المواقف الانتهازية لاختلاق المزيد من الأكاذيب، من بين أكثرها شناعة إعلانه الفوز في انتخابات عام 2020 رغم خسارته فيها، مدعيا زورا سرقة الحزب الديمقراطي لأصوات ناخبيه، وأنه لن يكف عن استعادتها حتى لو اضطر لاستخدام العنف، ورغم معرفة قيادة الحزب بحجم الكذبة، فقد لزم أكثريتهم الصمت، ما عدا بعض الأصوات التي وقفت ضد توجهه الخطير لتحطيم أسس الديمقراطية ورمزها مبنى “الكونغرس”.
إعلام اليمين.. دعاية شعبوية تتسق مع الأكاذيب
يحلل الوثائقي ويدرس التفاصيل الدقيقة التي سبقت الهجوم وخلاله وما جرى بعده، ويتوقف عند مواقف أبرز قادة الحزب الجمهوري منها، ويشير في الوقت نفسه إلى الدور الذي لعبته وسائل الإعلام اليمينية التي صورت أكاذيب سرقة الانتخابات باعتبارها حقائق مدعومة بأدلة. لقد توحدت أكاذيب الدعاية الشعبوية مع أكاذيبه، وتستر عليها قادة الحزب، بالرغم من معرفة 99% منهم كونها مجرد ادعاءات لفقها الرئيس وصدقها مؤيدوه.
لقد اشتركوا معه بصمتهم، وعززوا أيضا مواقف المشككين بديمقراطية بلدهم، هذا بعضٌ من خلاصة توصّل إليها الوثائقي، لكنه يؤكد معها أن فشل الاقتحام كان انتصارا للديمقراطية، وإثباتا على قدرتها للوقوف ضد القوى الراغبة في تقويضها.
لا يقلل المحللون السياسيون أهمية ما جرى بعد الاقتحام، واستعادة المؤسسات السياسية والقضائية لأدوارها، لكنهم لا يقللون أيضا من الخطر الداهم الذي يمثله “ترامب” في المستقبل، ما دام قادرا على تحريك وكسب أغلبية قادة الحزب إلى جانبه.
لجنة تقصي الحقائق.. جلسات تقويم غاب عنها الجمهوريون
قبل أن يختم مساره التحليلي يتوقف الوثائقي عند المراجعة النقدية التي دعا إليها الديمقراطيون من خلال دعوتهم إلى تشكيل لجنة لتقصي الحقائق تتحرى في تفاصيل ما جرى، وتخرج بنتائج تفيد منع حدوثها ثانية. لم يشترك في اللجنة سوى شخصيتين من الحزب، أما البقية فقد تراجعت وراحت تعيد صلاتها بالرئيس المحتمل عودته ثانية للحكم.
ينقل الوثائقي مشاهد من لقاءات وزيارات قادة عارضوه في أوقات سابقة، وأبعدوا بسببها من المشهد السياسي، أمثال “كيفن مكارثي” وغيره، نراهم في ختام الوثائقي يتسابقون لزيارته في ولاية فلوريدا، وكلهم يرغب في استعادة ما اعتادوا على أن يكونوه، إنهم ساسة منتفعون، يتحالفون مع “الكذاب” الكبير، ويتعايشون مع سلوكه الفظ، ويمضون في ذات الطريق التي يسير عليها نحو هدف نهائي لا يرتجى منه خير.