“فعل عبادة”.. قصص كفاح المسلمين ضد التمييز العنصري في أمريكا

عندما تطلب السيدة الأمريكية من الموجودين في القاعة أن يكتبوا في أوراق صغيرة عن تجاربهم باعتبارهم أمريكيين مسلمين مع العنصرية في بلدهم، وأن يلصقوا بعد ذلك ما كتبوا على أحد جدران القاعة، سيمتلئ الجدار بقصاصات الأوراق الصغيرة التي تُخبرنا كل منها قصة مؤلمة، وتجارب تركت ندوبا عميقة على أرواح ناس عاديين واجهوا الكره في بلدهم.

ستوطئ مشاهد تلك التجربة الاجتماعية التي نظمتها إحدى المؤسسات الأمريكية للفيلم الوثائقي “فعل عبادة” (An Act of Worship) للمخرجة الأمريكية ذات الأصل الباكستاني “نوشين دادابوي”، وتجارب المخرجة نفسها مهمة كثيرا في سياقات الفيلم، فقد واجهت هي نفسها ما واجهه الكثير من شخصيات فيلمها، ونأت بنفسها عن معارك الحقد والكره من حولها.

ثورة إيران.. كابوس في حياة مهاجرة باكستانية

يجمع الفيلم الوثائقي شهادات أمريكيين مسلمين كثر، تأتي أحيانا عبر تسجيلات صوتية لشخصيات، مثل تلك التي يبدأ بها الفيلم لفتاة باكستانية، تتذكر تبدل مزاج الطلاب الأمريكيين من حولها مع تفجر الثورة الإيرانية عام 1979، فلم يفرّقوا بين أصلها الباكستاني وإيران التي كانت تهمين على الأخبار حينها.

تتذكر تلك الفتاة أن والدها كان يصلي كل صباح صلاة خاصة من أجل أن يحفظ حياة عائلته الصغيرة، وأن يرجع أبناءه وبناته سالمين من المدرسة. ويرافق تلك الشهادة الصوتية مشاهد مؤثرة كثيرا من أفلام فيديو منزلية للعائلة نفسها، وهي تسجل لحظات عائلة حميمية خاصة.

“لماذا عليكم أن تكونوا مختلفين لهذه الدرجة؟”

تميز الأفلام المنزلية هذا الفيلم الوثائقي، إذ أنها تنقل لحظات عائلية من حياة أمريكيين مسلمين، وأحيانا تكون لوحدها ما يشبه الرد على محاولات تشطين البعض لدينهم، ناسيا دورهم في بناء الولايات المتحدة الأمريكية.

يبني الفيلم زمنه وتسلسل أحداثه ليوازي الأحداث الكبيرة التي مرت على العالم ووصل صداها إلى أمريكا، فبعد الثورة الإيرانية يصل الفيلم إلى حرب تحرير الكويت في عام 1991، وقد كانت مؤثرة كثيرا لاشتراك الجيش الأمريكي المباشر فيها.

“لماذا عليكم أن تكونوا مختلفين لهذه الدرجة؟”، بهذه اللهجة المتعجرفة خاطبت مدرسة أمريكية طالبة مسلمة في صفها، حين كانت ترتدي زي بلد آبائها في يوم احتفال في المدرسة. هذه الحادثة ترويها الفتاة نفسها، وتقول إنها بعدها قضت أياما طويلة هاربة من طلاب صفها الذين كانوا يتنمرون عليها، وبأنها لن تلبس أي زي مختلف بعد تلك الحادثة، لكي تندمج مع المحيط من حولها.

فاروق.. تنمر مدرسي أثناء غزو العراق

يقول فاروق العراقي الأصل إن مُدرّسه الأمريكي أوقفه في الصف، وطلب منه أن يصف كيف يكون المرء عراقيا، هذا في الوقت الذي كان الإعلام الأمريكي يُهيج الناس ضد العراق في عام 1991.

وقد قام المدرس نفسه بتغيير اسم فاروق إلى “جيمي”، لتسهيل حياة الصبي في المدرسة، وربما تيسير الأمر للمدرس نفسه الذي لم يكن يريد أن يلفظ اسما غريبا صعبا.

يتذكر فاروق أن أمه كانت تحاول أن تتصل بوالديها في بغداد، ويذكر جزعها أثناء الحرب، والقنوط الذي لفّ حياتهم وهم يشاهدون الطائرات الأمريكية تقذف القنابل على بلد الآباء.

عبير.. ناشطة اجتماعية تتزوج بعيدة عن والدها

في موازاة الشهادات الصوتية التي لا نرى أصحابها على الشاشة، وإنما نرى صورا وأفلاما منزلية لهم؛ يرافق الفيلم ثلاث شخصيات نسائية عبر زمن الفيلم، ويركز على حياتهن ومحنتهن.

عبير في يوم زفافها وبدون والدها

أولى هذه الشخصيات هي فتاة اسمها عبير ذات أصول فلسطينية أردنية، وقد كانت تستعد لزفافها القريب، بيد أن هناك ألما يرافق تلك الاستعدادات، فوالدها يعيش في الأردن بعد إبعاده من الولايات المتحدة بسبب جريمة تهريب.

يصل الفيلم إلى الفتاة الأردنية الأصل وهي في بيتها مع والدتها، بينما تحاول للمرة المئة بأن ترتب تأشيرة لوالدها لحضور زفافها. تتصل بوالدها عبر الهاتف، وتحاول أن تطمئنه باللغة العربية بأنها تبذل كل جهودها من أجل أن يحضر زفافها، وأن عليه أن يبقى متمسكا بالأمل.

عبير ناشطة في المجتمع المسلم في ضواحي مدينة نيويورك حيث تعيش مع والدتها، ويعرض الفيلم مشاهد لها في نشاطات اجتماعية، كما يرافقها وهي تدعو المسلمين في حيّها، للتصويت في انتخابات بلدية قريبة، لكن جهودها لحضور والدها تبوء بالفشل، فيحضر زفافها عبر شاشة الهاتف فقط، ويلقي كلمة مؤثرة، بينما كانت ابنته تكفف دموعها.

“ديني هو هويتي”.. معارك يومية في حياة محامية المظلومين

الفتاة الثانية اسمها أمينة، وتعيش على الطرف الآخر من الولايات المتحدة من عبير، أي في كاليفورنيا، فقد ترعرعت هناك، واختارت أن تلبس الحجاب.

المحامية أمينة أصبحت وجها إعلاميا في الولايات المتحدة الأمريكية

“كلما أتطلع لنفسي في المرأة، أقول كان يمكن أن أعيش حياة طبيعية بدون حجاب، لكنني أقرر أن أسير على طريق النضال هذا”. هكذا تستعيد الفتاة ذكرياتها عن لبسها للحجاب، رغم أنه وضعها في تحديات كبيرة، لكنه رسم الجانب الآخر من مصيرها وشخصيتها، إذ تقرر هذه الفتاة أن تتجه إلى المحاماة لتدافع عن حقوق المظلومين، ومنهم المسلمون في ولايتها.

يرافق الفيلم المحامية الأمريكية المسلمة في حياتها اليومية، ويسجل يوميات من عملها، بالإضافة إلى حياتها المنزلية وحياتها الزوجية مع زوجها وأطفالها، بل إن الفيلم يرافقها في حملها، ويرصد المشاكل الصحية التي صادفتها، وإصرارها حتى في أيام الحمل على مواصلة عملها المتطلب.

كانت أمينة تصرخ في مظاهرات نظمت في أحد المطارات الأمريكية قائلة “ديني هو هويتي”، بعد حظر حكومة “دونالد ترامب” دخول مسلمين من خمس دول الولايات المتحدة، ولم تكن حاضرة فقط في المظاهرة، بل كانت من المنظمين لها، كما أنها ستتبرع للدفاع عن أمريكيين عانوا من هذا الحظر.

خديجة.. مغنية وشاعرة ثورية تصادم المجتمع اليميني

الشخصية الثالثة في الفيلم هي الشابة السودانية الأصل خديجة، وهي تحمل هموما مزدوجة، كما تناضل على عدة جبهات، فهي مسلمة سوداء البشرة ومهاجرة، وكل من هذه الجوانب هذبت شخصيتها الثورية، كما أن لهذه الفتاة المثيرة للإعجاب حقا هموما وطموحات سياسية، فهي تسعى للترشح في منصب إداري في مدينتها الصغيرة.

الشابة السودانية الأصل خديجة عرفت بشخصيتها القيادية والثورية

وكما يفعل الفيلم مع الشخصيتين الأخريين، يرافق الفيلم الفتاة السودانية في حياتها اليومية، وكان معها في حملاتها الانتخابية، فكانت تطرق أبواب ناس عاديين لعرض حملتها الانتخابية.

كما يسجل الفيلم عتابا قاسيا من والدة هذه الشخصية، فقد كانت تعاتبها لتأخرها في الرجوع للبيت، بعد أن قضت اليوم كله في نشاطات سياسية. كانت الأم خائفة على ابنتها التي كانت تتحرك في مجتمع من البيض، كما أنها خائفة من العنف الذي يحدث أحيانا في مدينتها، لأن يصل إلى ابنتها التي ترتدي الحجاب.

يسجل الفيلم مواجهة بين الفتاة السودانية ومنافس يميني في مدينتها، فقد كان ينتقد أصلها العربي، واتهم العرب بأنهم من أوائل من اقتنى العبيد.

كانت خديجة تحب الغناء في شبابها، وتحول حب الغناء لديها إلى الشعر، فصارت تلقيه أحيانا في تجمعات عامة، منها تلك القصيدة التي ذكرت الناس بموقعها كأمريكية مسلمة سوداء عربية أفريقية، وأن هذه الهويات التي تجعل حياة البعض صعبة للغاية، هي التي تغذي غضبها وتدفعها للعمل العام.

أحداث سبتمبر.. عاصفة تقلب حياة الأمريكيين المسلمين

يتنقل الفيلم بين قصص الشخصيات الثلاث وبين قصص أخرى، وستروي ذكريات عبر الصوت فقط، وعبر المواد الأرشيفية المتوافرة من حياتهم في الولايات المتحدة.

كما يواصل الفيلم نقله لأثر الأحداث الكبيرة في الولايات المتحدة على الأمريكيين المسلمين، فحتى انفجار أوكلاهوما في عام 1995 الذي كان الذي يقف وراءه رجل أبيض لدوافع ليس لها علاقة بالإسلام، فقد كان سببا في تعقيد حياة بعض المسلمين الأمريكيين الذين عانوا بسببه.

وعندما تقع العمليات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، يتغير كل شيء، ويبدأ واحد من أكثر الفصول السوداوية في حياة الأمريكيين المسلمين.

طلاب مسلمون في تسجيل أرشيفي عرضه الفيلم

وقد وصفت أمريكية مسلمة مشاعرها في الأيام الأولى للعمل الإرهابي قائلة: بينما كنت أتألم فقدان أمريكيين مثلي في الحادث الإرهابي، بدأت أتلقى اتهامات بقتل ثلاثة آلاف أمريكي.

وكان أمريكي مسلم آخر يرغب في الهروب من الواقع تماما، فاتجه إلى المخدرات، لكي يغيب عن الواقع المعاش الذي لم يكن يعرف كيف يتعامل معه. كما نقلت أمريكية مسلمة أخرى أن والدها مسح عبارة “بسم الله الرحمن الرحيم” من سيارته بعد الحادي عشر من سبتمبر.

بينما يصف شاب مسلم الأشهر الأولى التي تلت الأحداث الإرهابية في 2001 قائلا: كلما أقول لناس لا أعرفهم بأنني مسلم، أشعر أن حفرة سوداء قد فتحت أمامي، وأن عليّ أن أبرر نفسي للآخرين.

“أوباما”.. استراحة لالتقاط الأنفاس بين جحيمين

بعض التجارب التي نقلها الفيلم كانت أكثر سوداوية وعنفا، منها أحداث لتلك الفتاة المسلمة التي تتذكر وصول وحدة خاصة من الأمن الأمريكي إلى بيتها أثناء إفطارهم في رمضان، وأخذ والدها بسبب تهمة انتماء لمجموعات متطرفة، وهي تهمة سيخرج بريئا منها.

وقد كان صعود “أوباما” السياسي وتولّيه رئاسة الولايات المتحدة لفترتين رئاستين، فترةً تنفس فيها الأمريكيين الصعداء، رغم أن التضييق تواصلت على المسلمين الأمريكيين خلال فترة حكمه، ويحمل كثير من مرتادي الجوامع الأمريكية ذكريات أليمة سادت أماكن العبادة لسنوات، وتجارب مع جواسيس وضعتهم الحكومة الأمريكية للتجسس على الأمريكيين المسلمين.

تروي أمريكية ذات أصول صومالية أن الأمن الأمريكي زار مدرستها التي يدرس فيها كثير من الأمريكيين من الأصول المسلمة، وأنه حاول حينها تخويف الطلاب من داعش التي بدأت تصل إلى نشرات الأخبار في الولايات المتحدة الأمريكية.

الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما كانت فترته فترة تنفس فيها الشعب الأمريكي الصعداء

لخّص المشهدُ الصادم لامرأة أمريكية تشتم بعنصرية بغيضة نساء محجبات بالشارع المناخَ العام للولايات المتحدة في زمن الرئيس “دونالد ترامب”، فقد كشف منذ أيامه الأولى موقفه المتشدد من الإسلام والمسلمين.

كما منع دخول المسلمين من خمس دول إلى الولايات المتحدة، وهذا عقّد حياة كثير من الأمريكيين المسلمين الذين لم يستطيعوا استقبال أقربائهم، بل إن بعض الأمريكيين المسلمين الذين لم يكونوا يحملوا الجوازات الأمريكية وكانوا في الخارج وقت إصدار الحظر؛ لم يتمكنوا من العودة إلى بيوتهم في الولايات المتحدة.

تجسيد الأدوار.. ممثلون يحملون القيمة العاطفية للمجتمع المسلم

يستعين الفيلم بممثلين ليمثلوا أدوار شخصيات حقيقية لأمريكيين مسلمين منعوا من رؤية أهلهم أثناء حظر “ترامب” لمسلمين من دخول الولايات المتحدة. وستكون هذه المشاهد مؤثرة بشكل كبير، خاصة أن الممثلين الذين قاموا بالأدوار هم أمريكيون مسلمون، ويعرفون جيدا الثمن العاطفي الذي تكبده ناس مثلهم.

وعلى الرغم من القيمة العاطفية الكبيرة لجميع القصص التي تمر في الفيلم، فإن الجمع بينها لم يكن موفقا دائما، خاصة أن الفيلم كان ينتقل من قصة نسمع فقط صوت الشخصية فيها، إلى قصة واحدة من الشخصيات الثلاث الرئيسية في الفيلم.

يحفظ الفيلم كثيرا من تجارب وقصص أمريكيين مسلمين من النسيان، لتكون دليلا على زمان قاس تعرض فيه مواطنون أبرياء إلى التمييز والعنصرية.

كما يعد الفيلم دليلا على تسامي أمريكيين مسلمين عن الصغائر وارتفاعهم فوق الأزمات، وتسلحهم بقيم رفيعة لمواجهة الظروف المحيطة، ليثبوا أنهم من نسيج البلد والأمة الأمريكية التي تستوعب الجميع، كما ينص قانونها.