“ستوتز”.. سيرة الطبيب النفسي التي تمس متاهات أعماقنا

الزمن ينحت فينا نحن البشر دوما، يعيد تشكيلنا، يمنحنا من جهة، ومن جهة أخرى يمتحِننا، متغيرا ومُغيرا، قد لا يتطور هو في حد ذاته، لكنه يُطورنا ويُثقِل علينا بمهمة أن نبدو ملائمين لهذا التطور، نعم، فالحقيقة أننا مهما بلغنا من تحضر ومقدرة يظل تطورنا مرهونا بيد الزمن، يظل تقدمنا مجرد نجاح في مواكبة طفرة الزمن فينا، وفي كل شيء حولنا.
في هذه الحقبة التي نحياها نبدو وكأننا قد ابتلعنا جزءا من مُخلفات الزمن، تراكماته، حوادثه بكل ما فيها من انفعالات متضاربة، تاريخه بكل ما يحمله من فخر وخزي، صمته وكَبْته واحتقانه، عمره الشائخ، وخرافاته، طاقته التي أوشكت على النفاذ وشحوبه، وأيضا ما بقي فيه من رمق وجمال.
في هذه الحقبة التي نحيا فيها بتنا نُشبه الزمن، مُنهكين ومستنزَفين ومأهولين بالحكايات التي لم تكتمل، أو تلك التي اكتملت فلم تؤدِّ إلى شيء. بتنا مُثقَلين، عقولنا على المحك، وأبداننا لا تكاد تكون متماسكة.
الواحد منا بعد سنوات قليلة من الولادة يكبر أكثر من اللازم، ثم يُحبَط أكثر من اللازم، وسرعان ما يُصبح غير مستقر بطريقته، ترتبك كيمياء دماغه، وبعدها يضعف جسده، ويتحول لشخص مُتعَب ومُكتئِب، لا يسعه إلا أن يمارس حياته كما لو أنه معافى تماما، وإن كان محظوظا فسوف يحيا لآخر يوم في عمره بغير مضاعفات عضوية لهذا الاكتئاب من أمراض كبد وكُلى ومعدة وصدر وغيرها.
“ستوتز”.. فيلم يغوص في متاهاتنا النفسية العميقة
ثمة كثيرون لم يعودوا يشعرون بأن السينما تعبر عن كل ذلك فيهم، حتى وإن أرادت، فلغة التواصل ذاتها فُقدَت، يمكنك أن تقابل من يحدثك عن كون هذا الفيلم يبهجه نوعا ما، أو يحتل مساحة من تفكيره بشكل أو بآخر، لكن لن تجد من يقول إن هذا الفيلم يعبر عن عالمه النفسي المرتبك، يتحدث بلسانه، ويبلغ أقصى نقطة تعقيد فيه، فيتوحد تماما مع هذه المنطقة المظلمة في داخله، التي قد لا يسعه هو ذاته فهمها أو مجاراتها.
لهذا أعتبر الفيلم الوثائقي “ستوتز” (Stutz) الذي أنتج عام 2022 فيلما فريدا من نوعه، فيلما أراد أن يخوض في تلك المساحة من نفوسنا، واعيا بما آلت إليه منظومتنا النفسية المتهالكة، أو الكلمة الأخيرة المدفونة فينا، التي لم نعد نفقه قولها، ولا نوفق في ذلك إن حاولنا أن نفعل.
أرادت أفلام أخرى كثيرة ذلك أيضا، لكن “ستوتز” كان الأكثر حقيقية ونجاحا، لأنه بدون سابق ترتيب قرر أن يُشبه تلك المتاهة التي بداخلنا، يتهاوى مثلها، يكون صادقا في انهزامه أمامها، يعترف أنها تسلبه منهجه، وتجرده من كافة أساليبه، فتماهى مع عجزه وعريه في مواجهتها، وبات ضعيفا وفوضويا للنهاية، غير متشبث بشيء وغير مبالٍ إلا بكونه صادقا متقبِلا ضعفه إلى آخر رمق أمام وطأتها المُثقِلة.
ليقوده كل ذلك إلى أن يصبح الفيلم الأكثر تأثيرا فيما يخص تلك النقطة، على الرغم من أنه لم يتناول بشكل تفصيلي وجوه العصر الحالي من الاكتئاب والاضرابات ونوبات القلق والذعر، لكنه ضمنيا احتواها فيك أنت وغيرك، حتى وإن كان كل منكما يعاني مع نوع مختلف منها.
“ليونيل لوج”.. صوت الحدس يعالج لعثمة الملك
“فيل ستاتز” بطل فيلم “ستاتز” شخصية مُلهمة، شخصية تُذّكرك بشخصية “ليونيل لوج” التي لعبها “جيوفري راش” في فيلم “خطاب الملك” (The King’s Speech) حينما استطاع وحده (وهو المعالج المعدم الأقل شهرة) مساعدة الملك “جورج السادس” في معاناته مع عِلّة اللعثمة.
كان “ليونيل” متميزا لأنه لم يتبع أساليب الطب المعهودة معها، بل ابتكر أسلوبه الخاص في محاولة فهم الطريقة الأجدى لمحاربتها، ومعرفة سببها الفردي لدى الملك “جورج”، بالعودة لحوادث طفولته وأزماتها، هذا إلى جانب بعض التمارين الحلقية والبدنية التي تعمل على توسيع النَفَس وتقوية النطق.
كان “ليونيل” رجلا ذكيا، ونكتشف في نهاية الفيلم المستوحى من قصة حقيقية أنه لم يكن طبيبا، لكنه كان متمردا كفاية، وواثقا من صوت حدسه، فكان قادرا دون غيره من أصحاب الشهادات الأكاديمية على مساعدة الناس، لأنه أراد مساعدتهم حقا.
“فيل ستاتز”.. بطاقات تحمل المكتئب إلى عالم التعافي
“فيل ستاتز” طبيب حقيقي مُتخصص نفسيا وسلوكيا، لكنه ليس طبيبا اعتياديا، إنه ذلك الطبيب الذي يسأل نفسه بعد مغادرة مريضه، كيف أجعله في حال أفضل؟ يكون جادا في طرح السؤال، وبالتالي تهمّه الإجابة، وتحفزه مشقة البحث عنها لكي يتحدى نفسه، ويتحدى القواعد التي تُملى على الطبيب النفسي في العادة، فيجد في النهاية صوته الخاص، وطريقه الأقرب إلى قلب مريضه، ويكون بطله الخارق.
توصل “ستاتز” لمجموعة من الأفكار أطلق عليها “الأدوات”، وهي عدة نقاط أساسية رسمها بيده لمريضه على مجموعة من البطاقات، تلك البطاقات التي تدله من فوره ما إن هاجمته نوبات اكتئاب حادة، لتكون بمثابة عالمه الموازي الذي يحمله في جيبه دوما، تعينه على القلق والظُلمة والتهاوي، وتذكره بطبيعته الحقة وأصله المعافى، بعيدا عن دهاليز دماغه المضطربة كيميائيا وقتها، وعن الأماكن الموحشة التي ملأت كيانه واعتادت أن تحتله من وقت لآخر.
“ستاتز” يرسم تلك البطاقات بخط مُرتعش، لأنه مريض بداء “باركنسون”، ومُصاب به منذ أمد طويل، لكنه لا يقاومه بشجاعة فحسب، بل إنه يبذل قصارى جهده ليكون عونا لغيره.
“القبول الجذري”.. أدوات الكفاح ضد داء التصلب
في جزء من الفيلم يتحدث “ستاتز” عن أداة من الأدوات أطلق عليها “القبول الجذري”، بمعنى ضرورة تقبلنا لكل ما يحدث لنا في اللحظة الحالية، وغضّ الطرف عن عواقبه السلبية بالتركيز على جانبه الإيجابي.

هذا المشهد يُعرَض لنا بالتوازي مع مشهد آخر يطلب “ستاتز” فيه من طاقم عمل الفيلم أن يسمحوا له بالاتكاء على إحدى معدات التصوير، لكي يقوم بتمارين الضغط، تلك التمارين التي عليه أن يقوم بها باستمرار كي لا يُصلّب داء “باركنسون” جسده، ويعوقه تماما عن الحركة.
اعتاد “ستاتز” أن يقوم بحوالي مئة عَدّة من تمارين الضغط كل حين وآخر من اليوم، حتى يسعه الحركة وكأنه شخصا طبيعيا بالكاد.
هذا الدمج البديع بين المشهدين يمكننا أن نستدل منه ببساطة على المعنى الأعمق لما يقوله “ستاتز” عن “القبول الجذري”، ويمكننا من خلاله أيضا أن نتيقن من كون “فيل ستاتز” بطلا خارقا آخر أنجبته الحياة.
“جونا هيل”.. كوميدي يصنع فيلما عن طبيبه النفسي
“جونا هيل” الكوميدي الأمريكي الشهير الذي يُضحكك وكأنه مولود من رحم الكوميديا هو من قام بصنع فيلم “ستاتز”، بما أنه مريض لدى ” فيل ستاتز” منذ سنوات، وهو أيضا بطل من نوع آخر، فهو الكوميدي الذي تجرأ وقام بمجاراة رغبته في صنع فيلم وثائقي عن طبيبه النفسي.
هذا في البداية، أما شجاعته فنرى المزيد منها حينما يقرر أن يتخلى عن تحفظه بعدم الحديث عن نفسه، لاعتقاده أنه لا بد أن يجعل “ستاتز” أولوية فيلمه فقط باعتباره البطل، لكنه يُفاجئ الجمهور عند نقطة تحول في الفيلم، ويعترف بصراحة تامة عن كونه مخطئا بشأن قراره هذا، ويكشف الستار عن كواليس التصوير التي أوهم فيها الجمهور بأن الفيلم عبارة عن جلسة واحدة طويلة تشاركها مع “ستاتز”، بينما جلساته من أجل التصوير امتدت لشهور.
تجرد “جونا” أمام الكاميرا من شعره المزيف الذي ارتداه طيلة شهور التصوير، حتى يُقنِع الجمهور بأنه في هذا الفيلم لم يجلس سوى مرة واحدة مع طبيبه، كما تجرد أيضا من مخاوفه بشأن الحديث عن ألمه ومعاناته. ففي أحد المشاهد كان “ستاتز” يبوح لـ”جونا” عن هروبه من العلاقات العاطفية في مرحلة ما من حياته بسبب خوفه من النساء، وبسبب إحساسه بعجزه من مرضه، فيجيبه “جونا” قائلا: كلانا يعرف أنه لا سبيل لنجاح العلاقات، إلا بإظهار الضعف الكامل.

هكذا تعامل “جونا” مع فيلمه، فهذا الفيلم أيضا كان بمثابة علاقة بينه وبين الجمهور، علاقة لم تكن لتتحلى بهذا الصدق والدفء والقرب والقدرة على التوحد والتعبير، إلا بإظهار الضعف الكامل والارتياب الحاد الذي كان دافعا لأن يُفضي “جونا” بمكنون صدره، ويعبر عن شكوكه حول قيمة فيلمه، مُتغلبا على هواجسه تلك بالمصداقية التامة، ومعايشة الجمهور كطرف حاضر داخل كواليس صناعته لفيلمه بكل فوضويتها وترددها الآدمي المشروع.
مقابلة الوضع السيئ برد فعل أفضل.. خدعة نفسية
ذلك التسامح في تقبلنا لضعفنا، والعمل على تفهمه كليا، وضم المساحة الهشة المنبوذة التي يحتلها فينا ويعزلها عنا إلى بقيتنا ثانية؛ هو ما يجعلنا نتمتع بميزة القوة التي تكمن في قلبه، لأنه يدفعنا نحو نوع من الاكتمال والاكتفاء.
وكما تتوارى القوة في باطن الضعف، يصف “ستاتز” خط يده المرتعش الذي يرسم به بطاقاته بطريقتين تحسبهما للوهلة الأولى متضاربتين، لكن إن تأملتهما ستجد أنهما يُكملان بعضهما، فنجده يرى رسومَه المتعرجة في مشهد ما دلالةً بصرية على ظله، أو تلك الشخصية المُنهَكة التي يخجل منها فيه، بينما في مشهد آخر يرى أن خطه المرتجف الطاغي على بطاقاته يجعلها أفضل، لأنه يخبرنا أننا لن نربح دوما بالضرورة، وأن المعنى الأمثل لحياتنا يتحقق حينما ندرك أن الألم لن ينتهي أبدا، وأن تعافينا مرتبط بعدم يأسنا بخصوص عملنا الدؤوب أمام أبدية هذا الألم.
يقول “ستاتز”: علينا أن نقول لأنفسنا إننا سنفعل ما بوسعنا الآن، ثم فيما بعد نقولها لأنفسنا مجددا، الأمر يبدو مبتذلا وسطحيا، لكنه حقيقي للغاية. يجيبه “جونا” قائلا: كأنك تقصد أن ما علينا فعله كلما ساءت أمورنا أكثر، هو أن نقابلها برد فعل أفضل. “ستاتز”: بالطبع نعم.
معرفتنا بأنفسنا.. سبيل الخلاص من قيودنا النفسية
لن أحاول تقديم تكثيف وافٍ لأدوات العلاج التي يستخدمها “ستاتز” خلال هذه السطور، وإنما يهمني أن أشير إلى الفلسفة التي تقوم عليها، وهو ما يجعلها في وجهة نظري أكثر فاعلية.

يرى “ستاتز” أن للطاقة مصادر ثلاثة في الحياة، وضعهم في ترتيب هرمي، على قمته تتربع علاقتنا بأنفسنا، أي علاقتنا بما يحدث في لاوعينا، وهي النقطة الغائبة عن السواد الأعظم من الناس، حتى من يدّعي المعرفة منهم فهو يبني دوما علاقته بنفسه من خلال عقله الواعي، متجاهلا حقيقة تضليل هذا المستوى من دماغنا لنا على الدوام، واستمراره في إمدادنا بمعلومات مغلوطة عنّا، لكي يحمينا من خيباتنا أحيانا، أو يُؤّمن لنا طريقا للهروب من الألم، بينما تكمن حقيقتنا كلها في كل ما دفناه ونسيناه داخل عقلنا الباطن.
هذه النقطة التي تنبثق منها أدوات “ستاتز” كلها هي الركيزة الأساسية لحياتنا نحن البشر على الأرض، إنها فكرة قديمة يبدأ منها كل شيء، وينتهي إليها كل شيء، فهي أقدم أفكار الفلسفة، وأعمق الوصايا الحقيقية التي دعت إليها الأديان بمختلف أنواعها، وهي سر حكمة الحضارات القديمة.
معرفتنا لأنفسنا بحق هي الطريق لأن نكون نسخة أكثر أصالة وصحة منا، وهذه هي المعضلة التي قد يعيش المرء ويموت دون الإدراك بأنها وحدَها سبيلُ خلاصه، وحتى إن أدركها فإنه يبقى جاهلا بكيفية تطبيقها والتقدم من خلالها، فثمة من يحيا موهوما بأنه يعرف نفسه جيدا، وثمة من يتقبل أنه لا يعرف عن نفسه شيئا ولا يأبه لذلك، وثمة من يتكبد مشقة معرفته لنفسه، لكن باتباع طرق مضللة.
“كل شيء في هذا الكون يحمل في داخله وجهين”
لخص “ستاتز” حكمة ميلاد الأرض وجوهر الطب النفسي حينما وضع “علاقتنا بأنفسنا” المربوطة بمعرفتنا عن لاوعينا في قمة هرمه، وبالتالي انسابت من بعدها كل أدواته المنحوتة بيده المُرتجفة على بطاقاته الدقيقة، فبدا واعيا ومُذكِرا بالازدواجية التي يقوم الكون على أساسها، بالظلمة والنور، السماء والأرض، الخير والشر، الألم والراحة، وبأننا في داخلنا نحمل ذات المتناقضات، ولا بد أن نعرف أننا سنظل، حتى إن أتى يوم واطلعنا على نواقصنا الخفية التي يحملها لاوعينا، فسوف نكون جاهزين لكي نتقبلها كاملة أولا، قبل أن نعمل على تغييرها.
وهنا نقتبس من “ستاتز” نصا قوله: خُلقنا كي نكون قريبين من الأرض، وفي الوقت نفسه في وسعنا أن نبلغ النجوم أيضا، الجمع بين الأمرين صعب للغاية، لكن هذه هي طبيعة الكون، فكل شيء في هذا الكون يحمل في داخله وجهين.
هكذا يؤكد “ستاتز” بأن صوت الألم فينا لن يغادرنا أبدا، ومهمتنا الوحيدة هي تشبثنا بطريقنا إلى أصلنا، إلى النور في داخلنا، وإلى ما يزيح الغيمة التي ستتجدد دوما لكي تحجب الشمس عنا.
تتوالى رسومات “ستاتز” وبطاقاته وهي تدمج بين تمارين روحية وخواطر نفسية، كخاطرة الظل لـ”كارل يونغ” وغيرها، فتستخلص منهجا علاجيا مُلائما لمدى شراسة الطفرة التي باتت تتميز بها عواصفنا النفسية العقلية المُحاصرة لنا في هذا الزمن.
لذا فإن استطعت شاهد هذا الفيلم، واحتفظ في أقرب مكان منك ببعض بطاقات الطبيب “فيل ستاتز”.