“ماريا شنايدر 1983”.. نجمة متوهجة أطفأ بريقها جشع المنتجين والمخرجين

تستوحي المخرجة الأمريكية “إليزابيث سوبرين” قصة فيلمها الوثائقي الجديد “ماريا شنايدر، 1983” (Maria Schneider, 1983) من المقابلة القصيرة التي أجراها “راؤول سونغلا” و”آن أندرو” في البرنامج التلفزيوني “سينما سينما” مع الفنانة “ماريا شنايدر” سنة 1983.
ورغم قِصر المقابلة، فقد كانت غنية بالمحاور والقضايا الأساسية التي تتناول الممارسات المُسيئة في صناعة السينما الغربية على وجه التحديد، والموقف الهشّ والضعيف للممثلات الفرنسيات والأوروبيات اللواتي يمكن أن يتحولن إلى “سلع بشرية” يتلاعب بها المخرجون والمنتجون والموزعون على حد سواء، من دون أن تؤخذ بعين الاعتبار الإساءة إلى كرامتهن الإنسانية ومواهبهن الفنية، وثقافتهن السينمائية والعامة.
“التانغو الأخير في باريس”.. عودة إلى كواليس الماضي
لو لم تكن المخرجة “إليزابيث سوبرين” مهتمة بالنسوية وحقوق المرأة ومناهضة العنف الجسدي والمعنوي ضد المرأة، لما وجد هذا الفيلم طريقه إلى أشهر مهرجانات العالم، خاصة “كان” و”نيويورك” و”إدفا”، وغيرها من المهرجانات السينمائية التي تترقب وصوله لتستمتع بخطابه التنويري الذي يمجّد عقل المرأة المتوهج، ويعانق قلبها النابض بالحُب والحنان، ويلامس شغفها الروحي النبيل.
وقد انتبهت “سوبرين” إلى أن المُحاوِرَين قد دفعا “ماريا شنايدر” للحديث عن الفيلم الدرامي “التانغو الأخير في باريس” (Last Tango in Paris) الذي عرض عام 1972، وجسّدت فيه دور “جين” الفتاة الباريسية الشابة التي ترتبط بعلاقة مع “بول”، وهو مدير فندق أمريكي في منتصف العمر فقد زوجته، وبات يبحث عن تلبية احتياجاته الجسدية في علاقات عابرة لا يكتنفها الحُب ولا يسودها الاحترام.
كما لاحظت “سوبرين” أن المقابلة تنطوي على موضوعات فكرية واجتماعية وأخلاقية، وأن هناك كثيرا مما يحدث تحت السطح، وكأن كل ما قالته وصرّحت به هو الجزء العاشر من جبل الجليد الذي يخبّئ الأعشار التسعة الغاطسة التي لم تظهر إلى العلن إلا بصعوبة بالغة.
وتتمثل بالعودة إلى ما حدث من تفاصيل مجهولة وغامضة، ولا يعرفها إلا نفر قليل من الطاقم الإخراجي والإنتاجي والتمثيلي، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الممثلة “ماريا شنايدر” هي التي “ساعدت في إدخال الجنس الصريح في السينما السائدة”، الأمر الذي أدى إلى تحديد مهنتها التمثيلية وتدمير حياتها اليومية الخاصة.
إعادة تصوير المقابلة.. فيلم يستنطق ذوات الصوت السياسي
لم تُسنِد “سوبرين” مهمة كتابة القصة السينمائية إلى كاتب سيناريو آخر، حتى وإن كان ضالعا ومُحترِفا في هذا الصدد، لأنها تشعر بأن موضوعات المقابلة ومحاورها الأساسية هي من اختصاصها باعتبارها نسوية وناشطة في حقوق المرأة، وأن حساسيتها المُرهفة قادرة على ملامسة أدق التفاصيل التي تشعر بها المرأة أكثر من الرجل، ولعلها -بوصفها امرأة مخرجة- قد تعرّضت أيضا لمشكلات ومواقف متشابهة لما تعرّضت له الممثلة “ماريا شنايدر”.
وقد ارتأت أن تعيد تصوير المقابلة نفسها مع ثلاث ممثلات هذه المرة، وأن تخصص أكثر من سبع دقائق لكل واحدة منهن على انفراد، أملا في استنطاق المواقف الحساسة التي ظلت مخبأة أو غامضة أو عصيّة على التأويل.
وقد اشترطت أن يكون للممثلات الثلاث صوت سياسي، ليس بمعنى العمل الفعلي في السياسة، وإنما في أداء أدوار تمثيلية سياسية، وهذا ما توفر عند منال عيسى الممثلة اللبنانية الفرنسية التي تألقت في فيلم “السباحتان” (The Swimmers) الذي تناولت فيه المخرجة البريطانية المصرية سالي الحسيني قصة فتاتين سوريتين تخوضان مغامرة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، عسى أن تحققا حلمهما في المشاركة بالألعاب الأولمبية.
والثانية هي الممثلة والناشطة الفرنسية المولودة في السنغال “آيسا مايغا” التي اشتركت في أفلام عدة تدور مواضيعها الرئيسية على تداخل الأعراق، كما في فيلم “أسود وأبيض” (Bianco e Nero) للمخرجة الإيطالية “كريستينا كومنتشيني” (2008).
أما الشخصية الثالثة والأخيرة فهي الممثلة والمخرجة الفلبينية “إيزابيل ساندوفال” المقيمة في أمريكا، وقد أنجزت فيلما وثائقيا بعنوان “نظرة سوداء” (اسم الفيلم الأجنبي؟)، فقد رصدت فيه تمثيل النساء السود على الشاشة، أمثال “آديلا نيل” و”فيرمين ريتشارد” و”سونيا رولان”، وغيرهن من نجمات السينما الفرنسية والعالمية، ممن يمتلكن نظرة نسوية انتقادية لصناعة السينما في العالم التي تسخّر جسد المرأة وأنوثتها، لمصلحة شذّاذ الآفاق من المنتجين وبعض المخرجين الذين يلهثون وراء نزواتهم العابرة.
“مهنة المجانين والمهمّشين”.. حديث افتتاحي حول طبيعة المهنة
تكمن خطورة المقاربة السينمائية في هذا الفيلم الوثائقي بأن الأسئلة التي توجّه للممثلات الثلاث متشابهة، مع تغيير طفيف في سؤال واحد للممثلة الثالثة “إيزابيل ساندوفال”، وتتكرر الأجوبة نفسها، لكن طرق البوح والتعبير والإيماءات تكون مختلفة بقدر أو بآخر.
لم تجتز أسئلة المُحاورَين المقتضبة والدالة التي تضرب في الصميم حدود عشرة أسئلة، من ضمنها الاستفسارات الفرعية التي تتناسل من الأسئلة المحورية التي تشكّل متن الحوار، وأولها السؤال الذي يتمحور حول طبيعة مهنة التمثيل التي اعتبرت “ماريا شنايدر” أنها “مهنة المجانين والمهمّشين”، ولا تنصح أي شخص شاب بمزاولتها.
منال عيسى.. ممثلة حفظت المقابلة أتقنت الدور
ربما يكون الدور الذي أسندته “سوبرين” إلى الممثلة اللبنانية الفرنسية منال عيسى هو الأكثر دقة وتطابقا من حيث الأداء والتقمص والحركات الإيمائية اللافتة للانتباه، ويبدو أنها شاهدت المقابلة عشرات المرات، حتى أتقنت كل حركة صغيرة وكبيرة فيها.
وحينما تقول المُحاوِرة إن مهنة التمثيل هي واحدة من أعظم الفنون في عصرنا (عام 1983م تحديدا) ترد منال عيسى قائلة: كلا، حينما تنظرين إلى مصير رومي (شنايدر) والآخرين تبدئين بالتساؤل عن طبيعة هذه المهنة التي تحتاج إلى القوة والصحة البدنية. وهذا العمل من وجهة نظرها يصدّع الرأس، بينما هي في واقع الحال شخص يحب أن يعيش أكثر مما يعمل، فلا غرابة أن تقول إنها لا تُنفق حياتها في العمل، وإن حياتها اليومية ليست مُكرّسة للسينما فقط، وهي لا تستطيع أن تُنجز فيلما إثر الآخر، لأنها تضع فكرة الاستمتاع بالحياة قبل العمل السينمائي، وبهذه الطريقة تستطيع أن تنقذ نفسها من المشاكل الحياتية التي تحيط بها يوميا.

وردا على سؤال المحاورة هل كانت تستمتع حينما تلتقي بممثلين يشبهون الأساطير؟ تجيب مسرعة بأن ذلك يعتمد فعلا على نوع الممثلين. فهناك ممثلون يشبهون الأساطير، لكنك تلتقين معهم بصعوبة، ثم هناك ممثلون أقل شهرة وهم مذهلون وغير عاديين أيضا، لكنها شخصيا تفضّل اللقاء بالممثلة الإيطالية “آنا مانياني” أكثر من “مارلون براندو”، لأنها بالنسبة لها واحدة من أعظم الممثلات التي تأثرت بها وحرّكت مشاعرها.
وفي هذا الصدد لا بد من الإشارة إلى الأداء الواقعي المتفجِّر الذي جسّدته “مانياني” في عدد من أدوارها التمثيلية التي حصدت عدة جوائز، مثل فيلم “وشم الورد” (The Rose Tatto) الذي نالت عنه جائزة الأوسكار لأفضل ممثلة، وغيرها من الجوائز الكثيرة التي لا يسعنا المجال لذكرها جميعا.
نساء السينما.. استغلال الجزء الواهن في الصناعة
قد لا تُجيب “ماريا شنايدر” مباشرة على السؤال المتمحور على المُخرجين الذين يقدّمون لها أدوارا، ويصنعون منها نجمة في خاتمة المطاف، فهي ليست معنية بالنجومية إلى حد الهوس، بل تعترف أنها رفضت عدة أدوار، وهي ترى بأن الأدوار المُسندة إلى النساء قليلة، وقد قرأت كثيرا منها وأرادت أن تُمثلها، لكن النساء خُلقنَ وهن جزء واهن من ثنائية الرجل والمرأة، والرجال لديهم القوة في السينما، على عكس المرأة التي تقف في الطرف الضعيف من هذه المعادلة.
فعندما يموّل المنتجُ الفيلمَ ويقوم الموزع بتوزيعه، فهم يمتلكون القوة التي تجعلهم يقولون للطرف الآخر كلا، من دون أن يشعروا بالحرج أو الارتباك، فالمنتج والموزع هما اللذان يفرضان رأيهما على الممثلين، وليس المُخرج الذي يريد أن يصنع فيلمه بأي شكل من الأشكال، بغض النظر عن الاشتراطات المفروضة عليه.
رسم البورتريه.. تسلل المقابلة إلى حلم الطفولة
ثمة سؤال لم تجب عليه “ماريا شنايدر” مباشرة، حين سئلت هل كانت تريد أن تمثّل في فيلم ما حينما كانت صغيرة، فتجيب بأنها كانت ترسم، لأنها كانت تريد أن تكون رسامة، ثم تُنهي الإجابة بكلمة “المصير” أو “القدَر”، ثم تبادر هي إلى السؤال هل كان ما تسمعه عزفا على الأورغ، فيأتيها الردّ بالإيجاب المُحتمَل: نعم، أظن ذلك.
وانطلاقا من شغفها الطفولي بالرسم، ينبع السؤال الاستفزازي التالي الذي يقول “هل ستكونين بخير إذا رسمنا هذا البورتريه مع خبير من “التانغو الأخير في باريس”؟ فيأتي الرد بالنفي القاطع، لأنها لا تحبّذ استعادة تلك التجربة المريرة التي تنطوي على كثير من الإهانة والإذلال لشخصيتها الفنية والإنسانية.
ثم تقول إنها تفضّل الحديث عن فيلم “المُسافر” (The Passenger) الذي أخرجه “مايكل أنجلو أنطونيوني” (1975)، ويدور حول صحفي أنجلو أمريكي ينتحل هوية رجل أعمال يموت في الغرفة المجاورة له في الفندق الذي يسكن فيه، ثم تأخذ الأحداث منحى دراميا آخر لم يضعه في الحسبان.
“هذا يكفي”.. استفزاز حول نقطة مظلمة من الماضي
يسعى المُحاوران لاستفزاز “ماريا شنايدر” من جديد، بحجة أنها غير قادرة على الفصل بين قوّة الفيلم وما عانته وجرّبته هي شخصيا، فترد بأن “التانغو الأخير في باريس” هو مجرد فيلم، ولا تعتبره باكورة أعمالها الفنية، لأنها مثلت في أفلام عدة من قبل، مثل “شجرة الميلاد” (The Christmas Tree) عام 1969، و”الخادمة القديمة” (The Old Maid) عام 1972، و”أرجل في الهواء” (Les Jambes en l’air) عام 1971.
أما فيلم “التانغو الأخير في باريس” فليس فيلمها الأول، والكل يطالبها بالحديث عنه، لذا تختم كلامها بالقول: “هذا يكفي”، ولا تنسى التأكيد على أنها تفضل الحديث عن فيلم “المسافر” الذي تعتبره الأقرب إلى روحها وشغفها السينمائي.
تنتهي المقابلة بالسؤال عن موقع التصوير، وهل تشعر بالراحة عموما في مسرح الأحداث أم لا؟ فيأتي الجواب مختصرا ومكتفيا بذاته: إذا لم أحب موقع التصوير، فسأعمل شيئا آخرَ بالتأكيد.
إحياء المواجع.. بقايا الحزن الدفين في أعماق الذاكرة
لا جديد في إجابات الممثلة الفرنسية ذات الأصل السنغالي “آيسا مايغا”، فهي تكرار لأجوبة الممثلة منال عيسى التي كررت هي الأخرى إجابات “ماريا شنايدر”، لكن كل واحدة بطريقتها الخاصة، وباللغة الفرنسية ذاتها.

أما الممثلة الثالثة الفلبينية “إيزابيل ساندوفال” فستجيب على الأسئلة باللغة الإنجليزية هذه المرة، ولإحداث بعض التغيير وكسر رتابة التكرار الذي قد يُفضي إلى الملل؛ أضافت هذه الممثلة والمخرجة نقطة جوهرية تتمثل بفعل الاغتصاب الذي لم يحدث في الواقع، لكنه حدث تمثيلا ومحاكاة، مع أنه لم يكن موجودا في السيناريو، الأمر الذي أشعر الممثلة “ماريا شنايدر” بالإذلال، وأفسدَ حياتها برمتها، لهذا فهي لا تريد الحديث عن فيلم “التانغو الأخير في باريس”، لأنه يقلّب في صدرها وذاكرتها المواجع، ويُعيدها إلى حدث لا تريد أن تتخيله مرة ثانية.
ولعلها سامحت الفنان الأمريكي “مارلون براندو”، لكنها لم تغفر للمخرج الإيطالي “برناردو بيرتولوتشي” أبدا، ووصفتهُ ببعض الأوصاف النابية، لأنه لم يفكّر بارتدادات هذا الحدث عليها، وإنما كان يفكر بشبّاك التذاكر والمردودات المالية التي يجنيها من فيلمه الذي تلقفهُ الموزعون، وصاروا يدورون به على صالات السينما الأوروبية والأمريكية على حد سواء.
إدمان المخدرات.. رحلة في المصحات العقلية تحبط الجمهور
لا يستطيع أحد إنكار أن “ماريا شنايدر” قد عاشت عددا من علاقات الحب الصاخبة، وهذا شأنها الخاص، لكن ما أحبطَ متابعيها وجمهورها في كل مكان هو إدمانها على المخدرات، الأمر الذي دفعها أحيانا لقضاء بعض الأوقات في المستشفيات والمصحات العقلية بحجة “أنّ التمثيل مهنة خطيرة”، وأن الفنانة الجميلة والمثيرة قد تكون عُرضة للإساءة والتحرّش من قِبل الممولين وأصحاب القرارات المالية والفنية، مع أن القانون يحميها، ولا يستطيع المخرج أو المنتج أن يُجبر ممثلة على تجسيد دور غير موجود في السيناريو الذي قرأتهُ ووافقت عليه سلفا.
وعلى الرغم من كل الصعوبات التي واجهتها خلال حياتها التي امتدت إلى 58 عاما، فقد اشتركت في تمثيل 42 فيلما سينمائيا و11 فيلما ومسلسلا تلفزيونيا، كما نالت عددا من التكريمات والأوسمة المهمة، من بينها “وسام الفنون والآداب برتبة فارس”، لمساهمتها الفنية في المشهد الثقافي الفرنسي.
“إليزابيث سوبرين”.. حاصدة الجوائز في المهرجانات العالمية
في الختام لا بد من الإشارة إلى أن “إليزابيث سوبرين” هي مخرجة أفلام وكاتبة سيناريو وفنانة بصرية تقيم في بروكلين في الولايات المتحدة الأمريكية، وحاصلة على شهادة الدكتوراه من معهد شيكاغو للفنون سنة 1995.
أنجزت “إليزابيث” حتى الآن ثمانية أفلام، من بينها “شولي” (Shulie) عام 1998، و”الرعاة” (The Caretakers) عام 2006، و”خراب جميل” (Sweet Ruin) عام 2008، وقد حصدت عددا من الجوائز في المهرجانات المحلية والعالمية، كما نالت استحسان النقاد والمتابعين على حد سواء.