“مافيا مومباي”.. معارك تطهير المدينة تخرج عن السيطرة

انتشرت الجريمة المنظمة في مدينة مومباي (بومباي سابقا) في الثمانينيات والتسعينيات، وسيطر رؤساء العصابات على اقتصاد المدينة، وأضحوا يبتزّون كلّ ذي دخل في غياب تام لسلطة الدولة، ومنذ عام 1992 أُطلقت أيادي الشرطة للضرب بقوة على الأيادي العابثة. لكن الأمر انتهى إلى عبث جديد، وإلى مارقين جدد عن القانون.

تلك هي الإشكالية الرئيسية التي يتناولها الفيلم الوثائقي “مافيا مومباي.. الشرطة في مواجهة العالم السفلي” (Mumbai Mafia: Police vs the Underworld) الذي أخرجه “فرانسيس لونغهيرست” و”راغاف دار”، فتضمّن ظلالا كثيرة تحتاج إضاءة تحاول أن تُسلطها عليها هذه المقالة.

داود إبراهيم.. سيد العالم السفلي في مومباي

يفتتح الفيلم بمنبهات سيارات الشرطة، فيجعل منها خلفية صوتية لمشاهده، ويزج بنا مباشرة في سينما الجريمة، ثم يشرع في بسط موضوعه الرئيسي، فيقدم لنا نماذج لرجال خطرين مارقين عن القانون، ولمدينة يُنتهك فيها الأمن في غياب مظاهر سلطة الدولة. يقول الصحفي المختص في تغطية الجرائم “مينتي تيجبال”: لا أحد يراقبك في هذه المدينة، وتلك الحرية المطلقة استغلها المجرمون لنشر جثث القتلى في مطاعمها وحاناتها، ولنشر الذعر في شوارعها.

وتدعم مثل هذه الروايات بلقطات أرشيفية للجثث التي تسيل دماؤها على الإسفلت، أو بإعادة تمثيل درامي لبعض الوقائع. وعامّة يستدرجنا الفيلم إلى عالم مومباي السفلي، وفيه تفضي كل الحكايات إلى رجل واحد هو داود إبراهيم رأسُ عصاباتها، وقد نشأ في عائلة مسلمة متواضعة، لكنه انجذب إلى عالم الجريمة منذ أول عملية سطو سنة 1984، ثم حدث أن قطع أصابع أحدهم فكنّوا عنه بـ”الرّعب”، وهكذا أدرك أهمية العنف في فرض سلطانه، وأدرك أن المشاهد الفظيعة رأس مال رمزي ترغم الجميع على الإذعان له، فانخرط في عالم الجريمة المنظمة وتسيدها.

وليؤكّد بطشه كان يطلب من أعوانه رشق أجساد ضحاياه بزخات من 10 إلى 20 طلقة، وكان من يضبط من رجاله يُحرّر سريعا من إيقافه بعد دفع الكفالة وفق مقتضيات القانون الهندي، فأي شرطي إذن سيتجرأ على ملاحقتهم أو الحدّ من حركتهم؟

وبسبب فظاعة إجرامه استسلمت له المدينة، وأضحت تشتري حياتها منه بما تدفع من مال، ففرضَ إتاوة على كل ذي دخل، وأسّس شركة تحترف التهريب وتبييض الأموال على نطاق دولي، وبلغ عدد العاملين بها نحو 25 ألف شخص.

دخول الشرطة إلى معمعان المعركة.. تقلب المشهد

جمعت مومباي بين الجريمة المنظمة وانعدام الأمن، فانتشر القتل في الشوارع بلا رادع ولا قانون، لكن نقطة التحول الرئيسية ستحدث مع أعمال الشغب الواسعة التي انتشرت في سنتي 1992 و1993، فقد ظهر فريق من ضباط الشرطة المغامرين عُهد إليهم ببسط السيطرة على الشوارع وإعادة التوازن المفقود إلى المدينة، وهذا ما حولها إلى ساحة معركة حقيقية.

يعرض الفيلم وقائع هذه المواجهة من ثلاثة خطوط رئيسية تمثل وجهات نظر رجال شرطة أسهموا في المعارك بفعالية، ويثري الشهادات بمادة أرشيفية غزيرة مستقاة من تغطية الإعلام لمشاهد الصدام بين الطرفين، ولجثث القتلى في كل مكان، وتعرض شهادات قديمة لهؤلاء الأمنيين المستجوبين.

الصحفي المختص في تغطية الجرائم والشاهد على المواجهات مينتي تيجبال

يذكر أحمد خان رجل الشرطة المسلم الذي كان له دور قيادي في مقاومة الجريمة بدايةَ تحقيق الشرطة لتوازن الرعب، فقد كانت معلوماتهم عن عصابة داود وأسلوب عملها وطبيعة هيكلتها قليلة جدا، لعدم انخراط الدولة بجدية في ملاحقة المارقين عن القانون، وكانت الحاجة إلى عمل المخبرين وإلى احتجاز بعض رجال داود رجل لاستجوابهم أكيدة، لكن التحدي الأكبر كان يتمثل في كسر حاجز الخوف الذي يسكن رجال الشرطة، وفي جعل المواطن يثق بأن حياة آمنة ممكنة بعدُ في المدينة.

وكان لا بد أن يكون للصدام الأول وقع بحجم التّحدي، فرصد “ديليب بوا” أحد أخطر رجاله، ومن علامات غطرسته إطلاقه النار يوما على رجل شرطة ودوسه عليه وعبوره بهدوء، تاركا الجثة تسبح في دمائها، فطوّق 200 رجل من الشرطة المكانَ واشتبكوا مع حرّاسه، وقاموا بتصفيته وتصفية رفيق له وخمسة حرّاس.

يعرض الصحفيُّ “مينتي تيجبال” -الذي غطى الحدث- تفاصيلَ الاشتباك وزخات الكلاشنكوف وإلقاء القنابل، ويسهب رجل الشرطة “براديب” في تشخيص الوضع، فيقدّم تفاصيل لمواجهات أخرى، ويعرض “رافيندرا آنغر” وجهة نظر ثالثة، فكانوا وهم يقدّمون شهاداتهم أقرب إلى أبطال مميزين يعرضون حسن بلائهم الذي أعاد إلى المدينة الجزعة قيمها الأصيلة بعد أن تدهورت.

“خضتُ أربع مواجهات في يوم واحد”.. نجوم الشارع

وصلت الفوضى في المدينة ذروتها في الاحتجاجات الشعبية الواسعة سنتي (1992-1993)، ثم أخذت منحى تصاعديا بعد التفجير الذي استهدف بورصة بومباي، فيزور رئيس الوزراء موقع التفجير البورصة، ويقدر أن الإجرام أصاب عصب الاقتصاد، ثم تتعاقب الهجمات وتصيب محطات الحافلات والفنادق والساحات العامة، وكأنّ ضوءا أخضر مُنح عبر هذا التّصريح، فيعلن مفوض الشرطة “آر دي تياغي” لمنظوريه: أريد حدوث المواجهات، لماذا زودناكم بالمسدسات؟ نريد إجراءات صارمة.

“المواجهة” هي مصطلح جديد سرى في إعلام الجريمة، ومعناه الاشتباك الخطر الذي تستهدف فيه الشرطة المجرمين بالقنص والتصفية.

لم يكن السماح الرسمي بقتل المجرمين علنيا أو مباشرا وفق “رافيندرا آنغر”، لكن الجميع التقط رسالة مفوّض الشرطة، فقد أضحى قرار إعدام أحد المشتبه بإجرامهم رهين قرار يتخذه الشرطي، وكبسة منه على الزناد.

ولعل هذا الإجراء كان مفعما بالنيات الطيبة، فكان التقدير بأن تُحارب العصابات بالسلاح نفسه، فيتملكها الذّعر إثر مواجهات عنيفة واستعراضية، فيرى المجرمون دماءهم ودماء شركائهم تسيل على الإسفلت كما يفعلون هم بضحاياهم، وتُبعث رسالة طمأنة للمواطنين بأن واقعا جديدا سيفرض على الأرض.

وجد هذا الإجراء مباركة الإعلام، خاصة بعد أن استطاع رجال الشرطة السيطرة على البيئة العنيفة التي اعتادت عليها المدينة، فتحولوا إلى نجوم يتسابق الإعلاميون للفوز بالحوارات معهم، وأخذ المشاهير يتقربون منهم ليظهروا معهم في الشوارع، واقتبست السينما قصصهم، فتغنّت ببطولاتهم وغذتها بالخيال، فمومباي هي عاصمة السينما الهندية كما نعلم، فعبارة بوليود نحتت من الجمع بين الاسم القديم للمدينة “بومباي” و”هوليود” مركز الصناعة السينمائية الأمريكية.

وقد تنافس رجال الشرطة في عدد المواجهات، وظهر بينهم عدم التعاون والتنسيق أحيانا، فالجميع انبرى يبحث عن عدد أكبر من المواجهات، ويبني مجده الشخصي ويرضي نرجسيته، فيتفاخر “براديب شارما” بكونه صاحب الرقم القياسي في عدد المواجهات، وقد أدرك الرابعة منها بعد المئة، ويتباهى “رافيندرا آنغر” الذي لقبه الإعلام بالطلقة الأسرع في الغرب (مومباي) قائلا بخيلاء خضتُ أربع مواجهات في يوم واحد.

ماذا يحدث عندما يصبح المرء وجها من المشكلة التي يحاول حلّها؟

يعارض بعض الحقوقيين الإعدام في المحاكمات التي تستجيب للمعايير الدولية للعدالة، وحجتهم أن القضاة ليسوا مخوّلين لانتزاع حياة المدانين، وأن البشر ليسوا أجهزة فقدت الصلاحية ويجب أن تتلف، فكيف الأمر بقرار يتّخذه شرطي، فيمنح نفسه الحق بأن يقرّر من يموت ومن يعيش؟

يرصد “أليكس بيري” مراسل جريدة نيويورك تايم أيامَ المواجهات مفارقةً تثير الريبة، فكيف لرجل يخوض مئة مواجهة مسلّحا بمسدس، ويواجه مجرمين عتيدين مجهزين بأسلحة كلاشنكوف، فيقتل منهم العشرات ولا يصاب بأذى؟ وهو بذلك يشير ضمنا إلى أن الأمر يتحوّل إلى اغتيالات، لا إلى مواجهات مباشرة يستعمل فيها الشرطي السلاح، وفق المعايير الدولية التي تحترم الحق في الحياة.

وبعد عشر سنوات من قرار إطلاق يد الشرطة في رقاب المجرمين، وبحلول سنة 2003، كان عدد من قتل من رجال العصابات في لعبة المواجهات المسلية قد بلغ 1100 قتيل، وسرت قناعة أن مواجهات كثيرة كانت تصطنع اصطناعا لتصفية بعضهم في قضايا ثأر شخصي، فأُوقف مثلا “براديب شارما” عن العمل، وحوكم بسبب تلك المواجهات المصطنعة والتصفية خارج القانون، وبات القتلةُ من الشرطة هاجسَ المدينة، بعد أن كانت تعاني من غطرسة لصوصها.

مسجد بابري.. حلقة النزاع الهندوسي لاستعادة المعبد

يصوّر الفيلم أحداث شغب (1992-1993) على أنها عمل همجي يقوم به رعاع يقوّضون الأمن حتى يستولوا على أملاك الآخرين، ولا يشير إلى سبب الاحتجاجات الدامية التي أوقعت نحو ألف قتيل إلا بشكل عابر محتشم.

تشير الوقائع التي يتحاشاها الفيلم إلى أن شرارة هذه الاحتجاجات الدامية تقع خارج دائرة الجريمة المنظمة، وتتنزّل ضمن النزاع الطائفي، فقد هدم غلاة الهندوس مسجد بابري في مدينة أيوديا الذي بني عام 1528، لكن الهندوس أعلنوا في العام 1853 أن المسجد قد بني في مكان ولادة “رام شاندر” أحد آلهتهم، وفي العام 1984 بدؤوا سعيهم لاستعادة المعبد، واستطاعوا في العام 1992 تدمير المسجد. وعلى خلفية هذا النزاع حُرق الأحياء في المنازل والرّكاب في القطارات من الجانبين.

ولا يصل الفيلم بين هذه الأحداث واستدراج داود إبراهيم إلى الإرهاب بحجة الدّفاع عن الملّة، والحال أنه ارتبط وفق المخابرات الأمريكية والروسية بصلات وثيقة مع تنظيم القاعدة وأسامة بن لادن، وصنّف باعتباره إرهابيا عالميا، وباكستان تنكر صلتها به أو حمايته كما تدّعي الهند، وعدّ تسليمه من العقبات الرئيسية في العلاقات الفاترة بين الهند وباكستان.

والجريمة المنظمة والقتل والنهب والإرهاب مدانان بلا شك، لكن من الخطأ الكبير ردّهما إلى العنصر نفسه، فهذا ما يسطح تشخيص الظاهرة ويعسّر فهمها وحلّها.

الشرطي شارما المتهم باصطناع المواجهات

وبالمقابل يفسّر عبور داود إبراهيم من الجريمة المنظّمة إلى الإرهاب تفسيرا ساذجا، ويحمل على أنه انتقام شخصي لمقتل أبرز أعضائه، فيُذكر أن الشرطي “شارما” قتل “شريكانت” عضده الذي يشرف على عمليات تهريب الذّهب في المطارات وينسّق أعمالها في كمين محكم، وبمقتله انهار قسم الرحلات في شركته، وانتكست أعمال داود إبراهيم التي تدرّ الأموال الكثيرة، وبكل بساطة يقرر الانتقام من الدولة. فينفّذ سلسلة من الهجمات الإرهابية تخلف نحو ألف قتيل.

أنصاف المواقف وأنصاف المسافات.. تزييف للحقيقة

لا يبدو الفيلم منخرطا في النزاع الطائفي شأن كثير من أفلام بوليود التي دأبت على منح دور الخير إلى الهندوسي، والشرير للمسلم (الدراسات المختصة غنية بالنماذج التي تبسط ذلك)، ويتجنب الخوض فيه لأسباب مختلفة، منها ربما العمل على استهداف أكبر قدر من الجمهور بعيدا عن الصراع الإيديولوجي.

وقد يكون منها رغبة صانعيه في عدم سكب الزيت على نار لم تخمد بعد، وهذا موقف نبيل، لكن الوثائقي موقف فكري وجمالي يستدعي الجرأة، وحشرُ احتجاجات عامي (1992-1993) ضمن خانة الجريمة المنظّمة يسيء إلى عامّة مسلمي مومباي، ويجعلهم كلهم داود إبراهيم.

وليس أدل على صلة تلك التصفيات بالهويات الدينية الاختلاف الكبير بين المسلمين والهندوس في الموقف منها، ويبدو أنها كانت تستهدف المسلمين أساسا، فيتمسك “براديب شارما” و”رافيندرا أنجري” بنبل الأهداف، ويوافقهما الرأيَ الصحفيُّ “مينتي تيجبال”، وجميعهم من الهندوس، ويستقيل الضابط أحمد خان احتجاجا على القتل خارج شريعة القانون، ويناهض الصحفي الاستقصائي السابق والمؤلف الهندي حسين زيدي أسلوبَ الشرطة في التعامل مع عالم مومباي السفلي، وكلاهما مسلمان.

من المؤكد أن قطع أنصاف المسافات واتخاذ أنصاف المواقف تزييف للحقيقة، وكان أولى بالمخرجين -في تقديرنا- طرح الموضوع في عمقه وبكل خلفياته، أو التخلي عن إنتاج الفيلم كليا، لأن السياق الديني والسياسي الهش لا يسمح بذلك، وفي التّخلي موقف جريء ونبيل أيضا.