“الإيطالي الذي اخترع أمريكا”.. قصة المخرج الذي أعاد رسم صورة الغرب الأمريكي

– “رامون”: الحياة غالية جدا، من الحماقة أن يخاطر المرء دائما بفقدها.

– “ميغيل”: أظن أن “رامون” محق في هذا، أنا أيضا تعبت من كل هذا القتل.

– الغريب: هذا كله مؤثر جدا.

– “رامون”: ألا تحب السلام؟

– الغريب: من الصعب أن تحب شيئا لا تعرفه.

(من حوارات فيلم “من أجل حفنة دولارات”).

لا يوجد مخرج سينمائي غير أمريكي أعاد رسم صورة أمريكا في أفلامه من وحي خياله الخاص عنها، ومن خلال ولعه بالأفلام الأمريكية، خصوصا أفلام الغرب والجريمة كما فعل المخرج الإيطالي الكبير “سيرجيو ليوني”.

“سيرجيو ليوني”.. ثورة في عالم أفلام الغرب الأمريكي

يصنع “سيرجيو ليوني” أفلامه “الإيطالية” من النوع الذي أطلق عليه البعض في أمريكا “الويسترن إسباغيتي” على سبيل الاستهزاء، وقد نجح نجاحا كبيرا في تغيير نظرة الأمريكيين أنفسهم إلى أبطال الغرب الأمريكي كما صورتهم أفلام “الويسترن” الأمريكية ذات الطابع الرومانسي.

لعل الفيلم الوثائقي الجديد “سيرجيو ليوني.. الإيطالي الذي اخترع أمريكا” (Sergio Leone: The Italian Who Invented America) الذي أنتج عام 2022، نجح في نقل أكثر الصور صدقا في إعادة اكتشاف ملامح سينما “سيرجيو ليوني”، وكيف ظهرت وكيف نجحت في تغيير صورة الغرب الأمريكي، وكيف حققت أفلامه وما زالت تحقق كل هذا النجاح.

وكان “سيرجيو ليوني” في آخر أفلامه “ذات مرة في أمريكا” (Once Upon a Time in America) الذي أنتج عام 1984 قد أصبح مدركا أن مناخ الجريمة وما وقع في عالم الجريمة من متغيرات في أمريكا من أوائل العشرينيات إلى أواخر الستينيات يصلح لرواية قصة “نضج” أمريكا نفسها خلال خمسين عاما من القرن العشرين.

فلم يعد “الكاوبوي” أو بطل “الويسترن” الذي يحمل مسدسه ويجوب الغرب بحثا عن الذهب والثروة والمال هو رمز أمريكا الذي قدمه لنا في أفلام “الويسترن سباغيتي”، بل أصبح الأمر أكثر تعقيدا بعد أن أصبحت السياسة تتداخل مع المال، مع العصابات، مع العمل النقابي.

“الإيطالي الذي اخترع أمريكا”.. مقابلات نادرة في ذكراه الثلاثين

جاء الفيلم الوثائقي “سيرجيو ليوني.. الإيطالي الذي اخترع أمريكا” الذي أخرجه الإيطالي “فرانشيسكو زيبل” بمناسبة مرور ثلاثين عاما على وفاة “ليوني”، وقد عرضه مهرجان البندقية (فينيسيا) السينمائي الماضي ضمن برنامج كلاسيكيات السينما الحديثة.

ويقوم الفيلم على الجمع للمرة الأولى بين مقاطع من أفلام “سيرجيو ليوني” وخبايا تصويرها وعدد كبير من المقابلات مع كل من عملوا معه، وهي مقابلات نادرة سجلت في الماضي ولم تستخدم قط إلا في هذا الفيلم، منها مقابلات مع شخصيات سينمائية مرموقة غادرت عالمنا منذ سنوات، مثل الممثل الأمريكي الشهير “إيلي والاش”، والمخرج الإيطالي المخضرم “جوليانو مونتالدو”، والمؤلف الموسيقي “إينيو موريكوني” الذي كتب موسيقى معظم أفلام “ليوني”، وارتبطت موسيقاه الشهيرة في أذهان المشاهدين بمشاهد أفلامه المثيرة، وأصبحت جزءا لا يتجزأ منها.

ليوني مع الموسيقار الذي كتب معظم موسيقى أفلامه إينيو موريكوني

وفي الفيلم أيضا يتحدث أبناء ليوني الثلاثة “أندريا” و”رافايلا” و”فرانشيسكا” كما يظهر الممثل الشهير نجم هوليوود “كلينت إيستوود” الذي اكتشفه “ليوني” عام 1965، وأسند إليه أول أفلامه في “ثلاثية الدولارات”.

كما يتحدث أيضا مخرجون مثل “مارتن سكورسيزي” و”كوينتين تارانتينو” و”ستيفن سبيلبرغ” و”جاك أوديار” و”فرانك ميلر” و”جيوسيبي تورناتوري” وغيرهم عن تأثير أفلام “ليوني” عليهم، وعن استقبالهم الأول لها عند ظهورها في الستينيات وفيما بعد، وجميعهم أصبحوا من كبار صناع الأفلام، وتجمعهم بأفلام “ليوني” -رغم اختلاف أساليب أفلامهم عنه- ولعُه الشديد بالتأثير من خلال اللقطات القريبة جدا، وحركة الكاميرا الطويلة والدائرية، والعلاقة بين الصورة والموسيقى والمؤثرات، مع النغمة الساخرة التي تتردد على لسان بطله الغامض القادم من المجهول، أي ذلك البطل الفردي الذي لا ملامح له ولا اسم.

السينما والعائلة.. أسطورة صانع الأفلام المركبة

يتضمن الفيلم أيضا لقطات نادرة من أرشيف مدينة السينما في روما، وقد صوّر فيها “ليوني” الكثير من مشاهد أفلامه التي كان يفترض أنها تدور في أمريكا. كما يتناول الفيلم نشأة “ليوني” في أسرة سينمائية، فقد كان والده مخرجا لعب دورا كبيرا في صناعة السينما الإيطالية في بداياتها، وكانت أمه ممثلة.

تتحدث ابنته عن تأثير والدها الكبير عليها منذ طفولتها، وكيف استعان بها للقيام بدور طفلة في فيلمه الشهير “ذات مرة في الغرب” (1969)، وعن النشأة والنضج في كنف ذلك الأب الذي اعتبر أن “السينما هي الحياة”، كما يتحدث كاتب سيرة “ليوني” المؤرخ السينمائي البريطاني “كريستوفر فرايلنغ” عن فلسفة “ليوني” وشخصيته المليئة بالحيوية والطفولية أيضا، وكذلك عن علاقته بالغرب الأمريكي.

سيرجيو ليوني مع ابنته رافايلا في طفولتها

يدور هذا الفيلم الوثائقي الذي يعتبر الأول من نوعه حول هذا المخرج الكبير، حول “ليوني” المبدع السينمائي وعلاقته بأفلامه، و”ليوني” الإنسان وعلاقته بعائلته.

تتحدث “رافايلا” في الفيلم عن والدها، وتقول إن حياته كانت موزعة بين أمرين لا ثالث لهما، هما السينما والعائلة، فقد كان شديد الاهتمام بعائلته، والده ووالدته وأبنائه، ثم تشير إلى أن السبب في بقاء أسطورة هذا الرجل حتى يومنا هذا رغم أنه لم يصنع أفلاما كثيرة، ترجع إلى أنه كان مخرجا صاحب رؤية، وكان يصنع أفلاما مركبة ومعقدة، على العكس مما كان كثير من الصحفيين يظنون وقتذاك.

“كلينت إيستوود”.. مفارقات اللقاء الأول في روما

يروي “كلينت إيستوود” أنه في لقائه الأول مع “ليوني” في روما لم يكن يثق بأن هذا الرجل يمكن أن يصنع فيلما جيدا، ثم يتطرق إلى ظروف وملابسات العمل في الفيلم الأول، فلم يكن هو يعرف شيئا من اللغة الإيطالية، ولم يكن “ليوني” يعرف كلمة من اللغة الإنجليزية.

وكان طاقم العاملين والممثلين من الإسبان والألمان والأمريكيين والإيطاليين، وكلهم كانوا يتحدثون في الخلفية في وقت واحد، بينما كان يجري تصوير المشاهد، لدرجة أنه لم يكن يسمع الحوار الذي يردده (كانت وسيلة الدوبلاج هي المستخدمة وقتها).

الممثل كلينت ايستوود كما ظهر في الفيلم الوثائقي

ويروي “إيستوود” تصوير مشهد خطير من فيلم “الطيب والشرس والقبيح” (1966)، وهو مشهد تفجير جسر حقيقي بُني للتصوير في الفيلم، ويروي أنه اختبأ بعيدا مع “ليوني” ثم فشل المشهد بعد أن تأخر المصور في تشغيل الكاميرا، فاقتضى الأمر إعادة بناء الجسر خلال أسبوعين، ثم أعادوا تصوير المشهد.

“أعرض الغرب القديم كما كان”.. إعادة تشكيل المشهد

نقل عن “ليوني” قوله: أنا أعرض الغرب القديم كما كان، فالسينما تقتبس العنف من الحياة، وليس العكس، لكن الأمريكيين يعاملون الغرب بكثير من الثرثرة والبلاغة.

هذا القول لا يعكس الحقيقة تماما، فالحقيقة هي أن “ليوني” صنع عالمه الخاص أو “غربه” الخاص، أي أنه أعاد تشكيل الغرب الأمريكي كما يتخيله هو ويراه، كحلم منفصل عن التاريخ، لكنه لا يمكن أن يكون منفصلا عن الواقع الذي كان يصنع فيه أفلامه، فقد كان يعكس أيضا على نحو ما الصراع السياسي القائم في إيطاليا في الستينيات، في زمن الإضرابات واليسار والاغتيالات والإرهاب الثوري، والرغبة في هدم القديم والتمرد على مجتمع الصفوة، لكن من دون أن يقحم الهم السياسي الاجتماعي بشكل مباشر.

لقد كان يسلط الضوء أيضا على مواضيع مثل العنصرية والنظرة الأدنى للسكان الأصليين وللمكسيكيين بوجه خاص، كما اهتم بموضوع الثورة المكسيكية، وربطها بالنضال ضد الاحتلال البريطاني في أيرلندا في فيلمه “ذات مرة في الثورة”.

سينما المهرجين.. رؤية ساخرة لأبطال الغرب الأمريكي

كان “ليوني” يقدم أبطال الغرب الأمريكي من خلال رؤية ساخرة تجعلهم يبدون أقرب إلى كائنات كرتونية، فكانوا مضحكين بدرجة كبيرة، ومهرجين يظهرون وكأنهم يمثلون أدوارا تقلد أو تسخر من أداء ممثلي أفلام الغرب الأمريكية من خلال المحاكاة الساخرة، وهي عنصر ثابت في أفلام “ليوني”، حتى أن الحوار نفسه يبدو مصمما لتحقيق هذا الهدف، أي المحاكاة الساخرة والمعابثة، معابثة الشخصيات ومعابثة المتفرج، والمبالغة بدرجة ملحوظة للغاية في تصوير ردود الأفعال من خلال اللقطات الكبيرة جدا للوجوه، وهي ترصد أدق تقلصات الجفون وتعبيرات العيون، حيث القلق والخوف والتردد والوجل، وأخيرا المقامرة بإطلاق رصاصة قد تصيب أو تخيب.

وكان “ليوني” يختار كثيرا من الوجوه الغريبة الأشكال، القبيحة الملفتة للنظر، والتي قد تعاني من عوار أو ندوب بشعة أو سحنة إجرامية، الوجوه الملفتة للنظر بغرابتها التي تضفي خصوصية على الصورة في أفلامه، وتمنح المتفرج إحساسا قويا بالخطر.

إلا أن أفلامه رغم حواراتها التي تتسم بروح الدعابة والسخرية، وبطله البارد المشاعر الذي لا يبدو أنه يهتم إلا بمهمته التي كلف بها نفسه؛ اتسمت بالمغالاة في مشاهد العنف، وكانت غامضةً دوافعُ الشخصيات الرئيسية في هذه الأفلام رغم تركيبتها البسيطة، وحتى من يتصدى من هذه الشخصيات لدعم قضية الثورة المكسيكية مثلا كان أقرب إلى قُطّاع الطرق، لكن العنف كان له طعم خاص غير واقعي، من نسج الخيال الخصب عن الغرب، ولم يكن نابعا من قلب الغرب، وربما لهذا السبب كانت أفلام “ليوني” تتمتع بجاذبية كبيرة.

“ثلاثية الدولارات”.. أفلام تنزع الهالة الأسطورية عن بطل الغرب

يتوقف الفيلم الوثائقي طويلا أمام ما عرف بـ”ثلاثية الدولارات”، أي الأفلام الثلاثة الأولى التي أخرجها “ليوني” وقام ببطولتها “كلينت إيستوود”، وهي التي جعلته نجما كبيرا بعد أن كان ممثلا مغمورا. ولا شك أن وجود “الدولارات” في عناوين فيلمين من هذه الأفلام له دلالة خاصة، فالكلمة تلخص على نحو خافت الولع الأمريكي بالمال والثراء، كما تعكس أيضا النظرة الأوروبية للأمريكي، إذ ترى أن أهم ما يشغل الأمريكي هو “الدولار”، أي قيمة المال.

وكان “ليوني” يرى أن الصراع في الغرب الأمريكي هو بالأساس صراع من أجل المال أو الثراء، والعثور على الكنز المدفون في مقبرة، أو قتل أكبر عدد من الخارجين على القانون بغرض الحصول على المكافأة المالية الضخمة المرصودة لرؤوسهم، أو سرقة بنك، أو قطار ينقل الأسلحة، من أجل بيع الأسلحة وقبض الثمن، وغير ذلك.

ورغم أن بطل ثلاثية “ليوني” لم يكن دائما مدفوعا بنفس الدوافع، فإنه كان دائما قادما من المجهول، فهو بطل غامض لا هوية له، تعتمد حياته على قدرته الفائقة على التصويب الدقيق والقتل قبل أن تنطلق نحوه رصاصة من خصمه تصرعه، وهو من دون مسدسه يصبح ضعيفا يمكن النيل منه، وفي تكوين شخصية البطل- الذي يوصف بأنه لا اسم له- هناك ميل نحو الخطر والتحدي والمغامرة.

إنه يجسد شجاعة بطل الغرب الأمريكي، وفي الوقت نفسه ينزع عنه هالته الأسطورية التي شاعت في أفلام الغرب الأمريكية التقليدية، فقد كانت تصوره صاحب رسالة أخلاقية تتفق مع القيم المسيحية الغربية، فهو يريد إحقاق الحق ووضع الأمور في نصابها الصحيح، وتطبيق القانون ولو كلفه الأمر حياته.

ويرجع جانب من جاذبية بطل “الويسترن سباغيتي” في “ثلاثية الدولارات” إلى قلة كلامه، وتمسكه بالصمت الطويل، فمن يتكلم كثيرا لا يمكنه التركيز، و”إذا أردت أن تقتل، فلا تتكلم بل اقتل”، وهي العبارة الشهيرة التي رددها “إيلي والاش” في “الطيب والشرس والقبيح”، وحفرت في ذاكرة الجمهور والنقاد أيضا.

أبطال “الكاوبوي”.. واقعية تميط اللثام عن الصورة التقليدية

اكتشف “ليوني” عبر “ثلاثية الدولارات” أنه يعبر عن الغرب الأمريكي المترسب في خياله منذ طفولته، أي منذ أن كان يشاهد ويعيد ترتيب أفلام الغرب الأمريكية في ذهنه، خصوصا أفلام “جون فورد”، وقد توصل إلى أن اللقطات القريبة والقريبة جدا للوجوه وتكرار تعاقبها مع المساحات الواسعة التي تفصل فيما بينها في اللقطات البعيدة؛ تساهم في خلق حالة الترقب والقلق والتوتر والتشويق، وتجعل الشخصيات التي تواجه بعضها في دائرة مع الطول غير المعتاد وغير الواقعي للمشهد نفسه.

لقطة من فيلم “من أجل حفنة دولارات”، والتي تميط اللثام عن الصورة التقليدية لرجل الكاوبوي

وأصبحت موسيقى “إينيو موريكوني” التي تبدو قادمة من عالم آخر تمر بلحظة وجودية، يمكن أن يتحدد فيها مصير المرء برصاصة واحدة، فهو وحيد في صحراء شاسعة، حيث لا أحد يمكنه أن ينقذ أحدا، فالإنسان يعيش وحيدا، لحظة موحشة لكنها تمر كالدهر، مليئة بالشعور بالوحدة بالخوف، ترتعش عيناه قلقا في انتظار اللحظة الحاسمة. هل سينجو أم سيفنى؟

وفي الوقت نفسه، تصبح أصوات الرصاصات المنطلقة مثل الصرخات الحادة، ويكثر العنف الذي لا يمكن تخيله واقعيا، فهو عنف سريالي يمتزج مع موسيقى “موريكوني” السريالية التي ترفع أحيانا من حدة الشعور بالصراخ والنحيب، ونلمح في طياتها صوت الأجراس، والصفير الحاد، مع دوران الكاميرا من وراء ظهور الشخصيات التي تواجه قدرها وحدها في صحراء الغربة والجفاف والموت، سواء بالقرب من قرى ميتة أو مقابر شاسعة، حيث يصبح عالم الغرب عالما سرياليا ليس من الممكن تفسيره أو فهمه.

لقد غيّر “ليوني” الصورة التقليدية النمطية لبطل “الكاوبوي” الشجاع المنقذ التي سادت أفلام هوليوود في أواخر الخمسينيات، ليجعله نموذجا لا يتميز بالنظافة والأناقة والرونق، بل هو شخص غير نظيف وغير حليق اللحية بالضرورة، دوافعه الأخلاقية مبهمة.

بل إن “ليوني” يرى أن الغرب صنعه رجال بسطاء يتسمون بالعنف، وهذه القوة والبساطة هي التي يحاول استعادتها، إذ يقول: إنني أعيد تخيل المشهد في الغرب على أنه ساحة معركة وحشية، حيث كانت القاعدة الوحيدة هي أن تصبح ثريا، وأن تكون أكثر مراوغة من خصمك، وأنا بذلك أفجر أسطورة الغرب النبيل في وابل من الدماء والرصاص.