“مش زيّهم”.. باحثة عن الجذور تتسلل إلى ميادين كفاح المرأة في مصر

تستثمر المخرجة المصرية السويسرية نادية فارس في فيلمها الوثائقي الجديد “مش زيّهم” سيرتها الذاتية والأُسَرية باعتبارها قصة إطارية لقصص ومحاور أساسية تشكِّل متن هذا الفيلم الجذّاب الذي يجمع بين سحر الشرق وحلاوته، وجمال الغرب وعذوبته. فالمخرجة تضع قدما على جبال الألب، والقدم الأخرى على ضفاف النيل، وهي تُشبّه نفسها بثمرة الثقافتين العربية والسويسرية اللتين نهلت منهما الكثير، وعزّزت منجزها السينمائي من الأفلام الروائية والوثائقية والقصيرة.

تتمحور القصة السينمائية لهذا الفيلم على قضايا متعددة، وهي النسوية والبطريركية والعنصرية والعدالة الاجتماعية. وثمة آراء وأفكار عدة مبثوثة بين ثنايا الفيلم وتضاعيفه البصرية الجميلة التي تشدّ المتلقي، وتأخذ بتلابيبه حتى اللقطات الأخيرة من الفيلم.

ولو شئنا الدقة فإن هذا الفيلم يروي قصة ثلاثة أجيال من النساء يتمردنَ على السلطة الأبوية في مصر وسويسرا على حد سواء، ويُظهرنَ تقاطعات النظام الأبوي الذي تجاوزته اشتراطات الحداثة بما تنطوي عليه من منظومة قيم جديدة لا تقيم وزنا كبيرا للعادات والتقاليد القديمة التي أكل الدهر عليها وشرب.

نادية.. نشأة سويسرية في غياب الأب العربي المطرود

لا بد للمُشاهد من خلفية يستند عليها لرسم معالم الشخصيات الرئيسية في هذا الفيلم، ويتتبعها بدقة كي يُمسك بالعصب النابض للقصة التي توزعت بين الأجداد والآباء والأبناء. فالمخرجة نادية فارس هي الساردة العليمة التي تروي قصة والديها أول الأمر، وكيف التقت عيونهما عند إشارة حمراء في مدينة برن السويسرية، وسقطا في الحُب الذي انتهى إلى الزواج، رغم الفوارق العِرقية والدينية والطبقية.

تتأنى المخرجة -وهي كاتبة السيناريو أيضا- في سرد التفاصيل التي تعطينا صورة معمّقة عن أبيها عبد الغني فارس الذي ينتمي إلى أسرة كبيرة تتألف من 11 شخصا.

ولعل هذا الأب كان محظوظا جدا حينما بُعث إلى سويسرا لدراسة الصيدلة، وتزوج امرأة سويسرية لا تأبه بالعِرق والدين ولون البشرة، وكانت ثمرة هذا الزواج نادية التي حملت سمات الأم السويسرية البيضاء، وخصائص الأب المصري القادم من أفريقيا السمراء الذي سيتعرّض إلى مؤامرة صهره، ويُطرد في ظروف غامضة، ويرحّل إلى مصر تاركا خلفه الزوجة التي أحبّها، والبنت الوحيدة التي تخلى عنها من دون إرادته في المضارب السويسرية التي تعتز بمنظومة القيم الغربية، وهي تتناقض أحيانا مع القيم العربية التي تمجّد عادات وتقاليد المجتمع العربي والإسلامي.

حين تكبر نادية وتصل إلى العشرين تقرر السفر إلى القاهرة لتكتشف الأب من جديد، وتتعرف على الأسرة الكبيرة برمتها. ومثلما تزوجت أمها ثانية زواجا مُدبرا من رجل ذي عينين زرقاوين فقد اقترن والدها بامرأة أخرى سوف تنجب له ولدين هما أحمد ومحمد، لتتسع دائرة الأسرة وتتناثر في أرجاء المعمورة، موزعين بين سويسرا ومصر وإسبانيا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية.

“البنت زي الولد”.. رحلة استكشافية إلى ميدان التحرير

شاءت المصادفات أن تكون رحلة نادية الاستكشافية إلى مصر بعد بضع سنوات من الربيع العربي، حيث تكتظ القاهرة بنحو عشرين مليون مواطن. ولا بد أن تكون ساحة التحرير هي القِبلة التي ستحجُّ إليها نادية المتمترسة خلف عدسة الكاميرا، أو “العين الثالثة” التي لا يفوتها شيء.

وبما أن النسوية هي إحدى القضايا الرئيسية للفيلم، وتتمثل بالدفاع عن حقوق المرأة، فإن أول ما يصادفنا في ساحة التحرير هي الشعارات والملصقات النسوية التي تقول “أعطني حريتي أطلق يديا”، أو “البنت زي الولد”، وغيرها من الشعارات المألوفة التي تدور في هذا الفلك.

نوران صلاح مؤسسة كايرو سيكلنغ جيكوز تتقدم سرب الناشطات المتطوعات

يضم هذا الفيلم شخصيات نسوية متعددة تنهمك في مضمار حقوق المرأة، مثل الناشطة نوران صلاح ونُهى صبح وأمينة الحلواني، وغيرهن من المتطوعات الشابات اللواتي بلغ عددهن 50 ناشطة يقدّمن الوجبات المجانية للفقراء في شهر رمضان المبارك.

“طفولتي قاسية لأنني فتاة من أسرة ليست غنية”

أطلت الطبيبة نوال السعداوي لوحدها أكثر من عشر مرات في هذا الفيلم الذي تبلغ مدته 86 دقيقة، كما ظهرت في اللقاء الذي أجرته الناشطات الشابات الثلاث اللواتي يعتبرنَ أنفسهنَ نسخة مصغّرة عن الدكتورة نوال السعداوي، ويطمحنَ إلى إكمال مسيرتها التنويرية في المجتمع المصري المعاصر.

ولكي نعيد تقديم هذه الإطلالات بصيغة قصصية لا بدّ من فك الاشتباك الذي أحدثته المخرجة نادية فارس، خصوصا أنها حشرت بعض اللقطات والمَشاهد الجميلة والمُعبِّرة من فيلمين وثائقيين سابقين، وهما “رحلة جيكوس” (The Journey of Geckos) و”مختلط” (Mixed up).

تتحدث السعداوي في إطلالتها الأولى عن حياتها الأُسرية فتقول “كانت طفولتي قاسية لأنني فتاة من أسرة ليست غنية”. وتصف تقاليد المجتمع المصري بالصارمة “لأنه مجتمع طبقي وأبوي وعنصري يرزح تحت وطأة الاستعمار البريطاني”. كما تصف حكم الملك فاروق بالحكم الملكي الظالم، وترى أنّ الشعبَ عبيدٌ للملك وللإنجليز، وأنها مجرد فرد من العبيد في هذا المجتمع المقموع، وقد لعبت هذه المعطيات دورا في تكوين شخصيتها المتحدية العنيدة التي نشأت عليها منذ الطفولة.

ترى نوال أن بعض الأُسر المصرية لا تفرح بمقدم البنت، وهم يفضلون الذكور على الإناث، متناسين أن الأطفال يشعرون بذلك، وهي تتحدث عن تجربتها الذاتية ومشاعرها الخاصة التي ترصد انزعاج الأبوين من إطلالة الأنثى إلى حياتهم العائلية.

نوال السعداوي.. امرأة حررت نفسها في مجتمع أبوي

تُعيدنا نوال السعداوي إلى مصر القديمة التي كان فيها المولود الجديد يحمل اسم أمه، بينما يحمل المولود الجديد في ظل النظام الأبوي والطبقي اسم الأب، ثم تعرّج على الزواج المتعدد الذي أفضى بالنتيجة إلى ختان المرأة وحرمانها من أحد أعضاء لذتها الغريزية، لكي تكتفي برجل واحد تُعرَف من خلاله الأبوة.

الطبيبة والناشطة نوال السعداوي تنوّه إلى أن النسوية موجودة في كل المجتمعات منذ هبوط آدم وحواء على الأرض

تنوّه السعداوي إلى أن النسوية موجودة في كل المجتمعات البشرية منذ أن هبط آدم وحواء على وجه الأرض، لكنها تؤكد في الوقت ذاته بأن البشر والحكومات هم الذين أمروا بقهرها ومصادرة حقوقها، وأنها على الصعيد الشخصي لم يحررها أحد، وإنما حررت نفسها بنفسها، إذ عملت وفكّرت وكتبت ودفعت ثمن حريتها، ولا بد لكل امرأة أن تدفع ثمن حريتها، حتى لو استدعى ذلك أن تضحي بحياتها، لأن الحرية لا تأتي على طبق من ذهب أبدا.

تعترف السعداوي بأن جمال عبد الناصر كان قائدا وطنيا مخلصا أراد أن يحرر مصر من الاستعمار البريطاني، وأن يحرر فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي، وعمل على تحرير المرأة ببعض القرارات، لكنه ما إن مات حتى سقطت هذه القرارات وتلاشت من الوجود.

تتوقف السعداوي عند تأميم قناة السويس، واستعددات الشعب المصري للحرب القادمة، وقررت في ذلك الوقت أن تتدرب على السلاح، لكنهم رفضوا ذلك، وطلبوا منها أن تتطوع ممرضة، لكنها لم توافق لأن لديها وجهة نظر مختلفة ومشوّهة عن تطوّع الممرضات في جبهات القتال.

تُذكِّر بأنّ ابنتها منى التي وُلدت في زمن عبد الناصر قد حصلت هي نفسها على الحرية الشخصية، لكن الوطن لم يتحرر.

“تزوجت ثلاث مرات وطلّقتهم ثلاثتهم”

تسترجع نوال السعداوي ذكريات صباها وشبابها حينما تقدّم إليها عريس طالبا يدها للزواج، فبدلا من أن تتزيّن وتعتني بمظهرها الخارجي، فقد دخلت إلى الحقل ودعكت فمها وأسنانها بالباذنجان، وما إن رآها العريس حتى انصعق وسط دهشة خالاتها وعمّاتها في القرية.

وقد تزوجت ثلاث مرات تعتبرها غير موفقة، مع أن زواجها الثالث استمر قرابة 43 سنة، أنجبت خلالها ولدا وبنتا، وكان الزوج طبيبا وروائيا ماركسيا مرموقا، وصفتهُ هي نفسها بأنه “الرجل النسوي الوحيد على وجه الأرض”. ثم تسترسل في الحديث عن حياتها الأسرية فتقول “تزوجت ثلاث مرات وطلّقتهم ثلاثتهم، ولو عادت حياتي إلى الوراء فلن أتزوج أبدا”.

الناشطات الثلاث اللواتي يوزعن المعونات في الأحياء الشعبية الفقيرة

لم تأتِ السعداوي على ذكر زوجها الأول الذي كان زميل دراستها الجامعية الذي انفصلت عنه بعد سنتين من الزواج، لكنها تحاملت على زوجها الثاني الذي لم تذكر اسمه، واكتفت بالقول إنه كان قاضيا في مجلس الدولة، وحينما طلبت منه الطلاق أخبرها بأن نجوم الظهر أقرب إليها من هذا الطلب.

وبما أنها طبيبة جرّاحة فقد حملت المِشرط وطلبت منه أن يذهب إلى المحكمة ويأتي بورقة الطلاق، وإلا “سيتشرّح ويتقطّع إربا إربا”، وكانت جادة في كلامها، ونجحت في خاتمة المطاف في الحصول على ورقة الطلاق تحت تهديد المِشرط.

وهي تتهم الرئيس السابق أنور السادات بتهم متعددة، مثل تقويض الصناعة المحلية، وتدمير الزراعة، وتخريب العقول، والمتاجرة بالدين وما إلى ذلك. وبما أنها كانت ممنوعة من النشر في الصحف الرسمية، فإنها لم تنشر سوى مقالين في صحيفة معارضة أدخلاها السجن.

نوران صلاح.. جمعية خيرية تنقل المعونات بدراجات الهواء

ترصد المخرجة خارج إطار سيرتها الذاتية والأسرية ثلاث فتيات، هنّ نوران صلاح التي أسست المنظمة الخيرية “كايرو سيكلنغ جيكوز”، وانتظمت فيها 50 عضوة انتقت المخرجة اثنتين منهن فقط، وهما أمينة الحلواني ونُهى صبح، ليتحدثن عن طبيعة هذا العمل الخيري التطوعي.

نوران صلاح هي خريجة إعلام، لكنها تحب الديكور الداخلي، وتعمل فيه نهارا، وقد سافرت إلى إيطاليا واتخذت الدراجة هناك وسيلة نقل، وأحبت أن تنقل هذه الفكرة إلى القاهرة في أثناء عملها التطوعي الذي يقوم على تقديم وجبات الطعام المجانية خلال شهر رمضان المبارك والأعياد والمناسبات الأخرى، وتمكنت من اتخاذ الدراجات الهوائية وسيلة نقل لهذه المعونات للأحياء الشعبية الفقيرة.

نوران وأمينة ونهى يوصلن وجبات الطعام لفقراء القاهرة

واستطاعت نوران أن تستقطب 50 متطوعة حتى الآن، والعدد يتزايد كلما ترسخت التجربة وطال عمر نجاحها.

قصص النساء المتمردات.. صورة مغايرة للفتاة المصرية الحديثة

تحاول المخرجة أن تقدّم صورة مغايرة للفتاة المصرية الحديثة التي تريد أن تستقل بحياتها، وتعيش بعيدا عن أسرتها، لكن الأم ترفض ذلك جملة وتفصيلا، لأن العادات والتقاليد المجتمعية لا ترضى بهذه الدرجة العالية من الانفتاح والتحرر.

أمّا الشابة الثانية فهي أمينة الحلواني التي نشأت وترعرت في السعودية، وحينما عادت إلى القاهرة عملت في التسوّق والديكور الداخلي، ولأنها تحب الدراجات الهوائية والسيارات فقد قررت أن تعمل سائقة “أوبر” لتعزّز دخلها المادي رغم معارضة الأهل لهذه المهنة المُقتصرة على الرجال.

أما الشابة الثالثة والأخيرة فهي نُهى صُبح التي تعمل مصورة في منظمة غير حكومية، وهي متطوعة في مؤسسة “كايرو سيكلنغ جيكوز”، وتقوم بعمل مشابه لصديقتيها نوران وأمينة الحلواني، ومن خلال تنقلهنّ في الأحياء الشعبية نكتشف حجم الفقر لدى شرائح واسعة من الناس.

يمكن أن نضيف شخصيتين أُخريين من الأحياء الشعبية لأنهما تُغنيان قصة الفيلم الرئيسية، الأولى امرأة كبيرة السن، لكنها ما تزال قوية بعد وفاة شريك حياتها، وقد ربّت خمس فتيات وزوّجتهن جميعا، وهي واثقة بأن شباب المحلة يخافون من شجاعتهن إذا ما فكر أحدهم بالاعتداء عليهن. كما أنها مؤمنة بقدرة النساء على قيادة البلد أكثر من الرجال، وأن النساء قادرات على حلّ أكثر المشاكل صعوبة وتعقيدا.

أمّا الشخصية الثانية فتمتلك حسا نقديا عاليا فيما يتعلق بتصورات الناس الظالمة والخاطئة عن نساء المحلة اللواتي لا يرتدينَ “الطرحة”، أو يتحدثن مع رجل من رجال الحي الشعبي، ويتهمون هؤلاء النسوة من دون وجه بسوء النيات، وهي تعتقد أن المجتمع الحديث يفتقر إلى طيبة الناس السابقين واحترامهم لبعضهم.

بين القاهرة ونيويورك.. رحلة العدسة بين الشرق والغرب

تتنقل عدسة الكاميرا في أمكنة عدة في القاهرة، مثل شُبرا وحي المهندسين والقاهرة الجديدة وقرية بني عدي في جنوب مصر. وفي كل مكان تتحدث فيه الأسر المصرية عن العادات والتقاليد الاجتماعية، ولعل أغربها هو الحديث عن ختان الفتيات، إذ يقلن إن كل شيء قد تغيّر باستثناء ختان النساء الذي ظل فكرة مهيمنة، لكنه يحدث الآن في المستشفيات باستعمال التخدير، وعلى أيدي الأطباء والمختصين، الأمر الذي يبعد الفتيات عن دائرة الخطر.

نادية فارس تصطحب الوالد إلى المقاهي الشعبية وهي المرأة الوحيدة وسط الرجال

تفخر الفتاة المصرية بأنها الآن تمتلك صوتا، وصار بإمكانها أن ترفض الزواج أو تقبله، من دون أن يُفرض عليها قسرا، وأنّ الدراسة هي من أولوياتها، وباتت تطمح لإكمال تعليمها العالي لتعثر على وظيفة مناسبة.

كما تنتقل العدسة إلى نيويورك، لأن المخرجة قررت أن تواصل دراستها السينمائية هناك، وتتعرف على مجتمع جديد ومغاير يعيش في الطرف الآخر من الكرة الأرضية. ولا تنسى أن تعود بين آونة وأخرى إلى برن ولوزان وبعض المدن السويسرية، لتتابع حياة أمها وجدتها الطاعنة في السن، وأمها التي اقترنت بزوج أبيض هذه المرة، وإن جاء هذا الاقتران عن طريق زواج مدبر.

ولا تنسى المخرجة أن تفخر بأن عبد الناصر قد منح المرأة حق التصويت في الانتخابات سنة 1956، بينما تأخرت سويسرا عقدا من الزمان كي تُعطي هذا الحق للمرأة السويسرية.

وجها القمر.. ثنائية الضوء والظل في هوية المخرجة

يمثل هذا الفيلم في جانب منه العودة إلى الجذور، فلقد أصرّت نادية أن تبحث عن أبيها وعائلته الكبيرة، وتكتشف بنفسها جذوره الثقافية والفكرية والاجتماعية التي قد تتعارض معها، لكنها لا ترفضها جملة وتفصيلا.

فثمة أعشاب ضارة قد تكون قريبة من تلك الجذور، لكنها لا تستطيع أن تقول إن جذور والدتها السويسرية مشذّبة تماما من الأعشاب الضارة، فأمها تزوجت في المرة الثانية زواجا مُدبرا في العاصمة السويسرية برن، والنساء السويسريات في المجمل حصلن على حق التصويت في الانتخابات بعد عشر سنوات من أقرانهن في القاهرة وبقية المدن المصرية.

لكن المخرجة نادية فارس تُشبِّه هويتها المزدوجة بوجهي القمر، ففي الوقت الذي يكون فيه نصفه مُنارا، يكون نصفه الثاني مُعتِما، لتؤكد لنا فكرة اللعب على ثنائية الضوء والظل التي توجد عند الأمم والشعوب برمتها.

“الطيور التي وُلدت في القفص تعتبر الحرية جريمة”

يتوفر هذا الفيلم على بناء جميل وحبكة رصينة تعتمد على السرد القصصي الذي ينأى بنفسه عن الإسهاب والترهل. وبعد هذه الرحلة البصرية التي تجولت في سويسرا، وغاصت في أحياء القاهرة الجديدة والقديمة، تعود الفتيات المتطوعات الثلاث اللواتي يراهنَّ على الثقافة والمعرفة والتنوير، ويقمنَ بزيارة إلى الدكتورة نوال السعداوي في شقتها بأحد الطوابق العلوية.

المرأة الشجاعة في الحي الشعبي التي تريد أن تمسك البلد وتحل مشاكله المعقدة

هناك يطرحنَ عليها بعض الأسئلة المهمة التي تتعلق بتكملة مسيرتها بوصفها متنوِّرة وروائية وناشطة في حقوق المرأة، وقد سئلت هل الرجال يحترمون حرية المرأة وحقوقها؟ فأجابت: نعم، لكنهم قليلون جدا.

ثم تشتبك الآراء حتى أن بعضهن تلقي اللوم على النساء اللواتي يخلقن هذا النمط من المشاكل، ولا يحترمنَ حقوق المرأة نفسها. وتستشهد بمقولة مُقتبسة هي أقرب إلى الحكمة مفادها أن “الطيور التي وُلدت في القفص تعتبر الحرية جريمة”، بينما ترى السعداوي أن الرجل والمرأة هما ضحية في المجتمع الأبوي والطبقي، وكلاهما جانٍ وضحية، فلا غرابة أن ينضم بعض الرجال إلى الحركة النسوية، ويبدأوا في محاربة الأبوية والطبقية والتميّيز العنصري.

“الثورة لا تعني تجمّع الملايين في الميدان، وإنما هي ثورة في العقل”

لا تجد نوال السعداوي ضيرا في أن تتأذى المرأة ويلحق بها بعض الضرر من أجل تحقيق حريتها، فلقد سُجنت في أيام السادات، ونُفيت في أيام مبارك، لأنّ الحصول على الحرية له ثمن في كل زمان ومكان.

وفي ردّها على النصيحة الأخيرة التي تقدمها لهن كي يواصلن مسيرتها أجابت: اسمعي صوت عقلك وقلبك، وكوني شجاعة، وحافظي على الطفلة الموجودة في داخلك، لأنها مصدر الإبداع.

المخرجة المصرية السويسرية نادية فارس

أما الجملة الختامية التي تفوهت بها السعداوي فتتلخص في قولها: الثورة لا تعني فقط تجمّع الملايين في ميدان التحرير، وإنما هي ثورة في العقل، ومتى ما بدأت الثورة في العقل، فإنه لا يكفّ عن التفكير، لأن المعرفة لا تنتكس أبدا.

نادية فارس.. رصيد فني في حقيبة مخرجة متنوِّرة

من الجدير بالذكر أن نادية فارس من مواليد مدينة برن السويسرية سنة 1962، وقد درست السينما في جامعة نيويورك بين عامي 1987-1995، وعملت مساعدة مع المخرج البولندي الراحل “كريستوف كيشلوفسكي”.

وقد أنجزت عددا من الأفلام الروائية والوثائقية والقصيرة، من بينها “عسل ورماد” و”سراب.نت” و”آمال” و”وُلد في معركة” و”المصوِّر” و”الجيران” و”الخطاط” و”ليالٍ رمضانية” و”باريس مدينة الحب” و”فروقات ضئيلة”، إضافة إلى فيلم “مش زيّهم” الذي عُرض في مهرجان زولوتورن السينمائي السويسري.

إنها مُخرجة متنوِّرة مُتمكنة من تقنياتها، ومُطوِّرة لعدتها الفنية، وتمتلك رؤية إخراجية حِرفية عميقة تشجّعنا على أن ننتظر منها الكثير الذي يصبُّ في دائرة الأفلام المُغايرة والمختلفة على حد سواء.