“وطننا”.. صرخة سينمائية لإنقاذ الكوكب في اليوم العالمي للبيئة

يحتفل العالم في الخامس من يونيو من كل سنة باليوم العالمي للبيئة، حيث يكون مناسبة لتجديد الحديث عن الأزمات البيئية التي تشهدها الأرض ومحاولة نشر التوعية بين الناس تخص محيطنا.

وكان الاحتفاء هذه السنة (2009) احتفالا كونيا بحدث سينمائي متميز اشتركت فيه الإنسانية في أكثر من 134 بلدا متمثلا في عرض فيلم “وطننا” (Home) للمخرج الفرنسي “يان أرتور بيرتران”. وقد عرضت الجزيرة الوثائقية هذا الفيلم بمناسبة اليوم العالمي للبيئة.

وقد عُرض الفيلم في ذلك يوم 5 يونيو/حزيران 2009 بست لغات (الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والألمانية والبرتغالية والروسية) في القاعات السينمائية، طيلة اليوم، بتعريفة منخفضة بدولارين فقط، ونزل إلى سوق المكتبات والأكشاك في أقراص DVD بسعر مشجع لا يتجاوز 4 دولارات، ووُزعت 20 ألف نسخة مجانا على المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية بفرنسا لعرضها على التلاميذ.

كما عُرض في بعض السجون والساحات العمومية الشهيرة لبعض المدن منها سنترال بارك في نيويورك وترافالغار في لندن على شاشات ضخمة، وكذا على قنوات تلفزيونية عدة في ساعة ذروة البث. وكان للمغاربة حظ مشاهدته ببعض المعاهد الثقافية الفرنسية وعلى شاشة القناة الأولى العمومية.

“يان أرتور بيرتران”.. عاشق الكوكب الذي كرس نفسه للطبيعة

لقد استطاع الفيلم جمع البشرية حوله بشعار “موعد مع الأرض” ليشاهده في نفس اليوم (5يونيو/ حزيران) أكثر من 15 مليون شخص في يوم واحد، من الصين إلى الولايات المتحدة الأمريكية، مرورا بروسيا وفرنسا وغيرها من الأقطار (أكثر من 134 بلدا)، بينما لم يكن مقررا في الأصل إلا 50 بلدا، لتتوسع خريطة العرض حول العالم بعد تبنيه من طرف مؤسسات بيئية وحقوقية موزعة على العالم.

والمخرج “يان أرتور بيرتران” هو فنان فوتوغرافي محترف منذ 40 سنة، فهو بهذه الصفة عضو بالأكاديمية الفرنسية للفنون الجميلة. وقد بدأ حياته الفنية في السينما وهو لم يتجاوز بعد 17 سنة، فوقف أمام الممثلة الفرنسية المشهورة “ميشيل مورغان” سنة 1965 في فيلم “من نقتل؟” (Dis-moi qui tuer)، وشارك في فيلم آخر هو “أو إس إس 117” (OSS 117) سنة 1970. لكنه حين بلغ 21 عاما كرّس عشقه للطبيعة والحيوانات، ليخلدها بعد ذلك في صور فوتوغرافية تُعد مرجعا لكثير من المجلات والجرائد التي عمل معها مثل “باري ماتش” و”جيو”، وكذا البرامج التلفزيونية.

المخرج “يان أرتور بيرتران” هو فنان فوتوغرافي محترف منذ 40 سنة، وعضو بالأكاديمية الفرنسية للفنون الجميلة

من كتبه الفنية المصورة الشهيرة حول الحيوانات والطبيعة “الأسود” و”رؤية الأرض من السماء” الذي سيعتمد عليه كثيرا في فيلمه “وطننا”، وكان من تمويل اليونسكو سنة 1994، وصدر بـ24 لغة وبيع منه أكثر من 3 ملايين نسخة.

وقد حقق هذا الفنان أيضا سلسلة من الأفلام الوثائقية، أغلبها تصور الأرض من السماء من مختلف المواقع. ومن السماء رأى جمال الأرض الذي يندثر وأنها مهددة حقا فأسس جمعية بيئية باسم “غود بلانيت” (GoodPlanet).

“اسمعوا الآن ما سأحكي لكم عن هذه الأرض”

تطلب فيلم “وطننا” ثلاث سنوات من العمل، فقد صور المخرج/المصور 500 ساعة، ليحتفظ في النهاية بساعة ونصف للسينما وساعتين للأقراص والإنترنت.

يبدأ الفيلم برسم الأرض رسما جميلا بفضل الضوء، فتبدو في أبهى صورة حين تكتمل ملامحها، ثم تظهر لنا بعد ذلك تلفها الغيوم التي تحيط بها، إلا وسط أفريقيا المضيئة بالشمس، ثم يبدأ في الحديث عن الأرض بطرحه سؤالا واضحا علينا -نحن المشاهدين- بالصوت فقط أو ما يسمى في لغة السينما “فويس أف” (voix-off) إذ يتوجه إلينا قائلا: اسمعوا الآن ما سأحكي لكم عن هذه الأرض، ثم قرروا بعد ذلك ما تريدون فعله بها.

صورة جوية (بالدرون) لمحاصيل القطن كمنظر طبيعي من تصاوير المصور

يبدأ في سرد قصة الأرض ويتغزل بجمالها ويعرض علينا صور بمثابة لوحات تشكيلية ترسمها الطبيعة من ذاتها وفي ذاتها بتكامل منطقي، فتعطي تعددا في تضاريس أشكالها وألوانها، تتوزع بين الجامدة (مجازا) والمتحركة بفعل حركة الماء والريح والتراب والضوء والهواء في فضاء غير متناه يسافر بمحتوياته نحو آفاق تؤسس لولادة جديدة متجددة إلى ما لا نهاية.

استطاع المخرج/المصور التقاط تلك اللحظات الاستثنائية في الطبيعة، وكأنه يرسمها فوق الشاشة بكاميراته فيُمتّع عيوننا بجمال الأرض حين تشاهدها من السماء، أو تشاهدها بلقطة “بلونجي” (Plongée) بلغة السينما.

ولن ننزل إلى الأرض مع هذا الفيلم بل سنسافر معه طيلة ساعة ونصف، لنمسحها من القطب الشمالي إلى جنوبه مرورا بأفريقيا وأوروبا وآسيا وأمريكا. وسنحيط بأرضنا من كل صوب، وكل لقطة قد نعتبرها الأجمل حتى نفاجأ بأخرى أجمل منها.

ولا يُعرفنا هذا الفيلم بجمال سطح الأرض فقط، بل أيضا بخباياها المدفونة من معادن وطاقة وحياة، علما أننا دائما في السماء نحلق فوقها. فكم هو جميل أن تتعلم أشياء من زوايا مختلفة، فتزيل عن عيونك -وبالتالي عقلك- مسلمات جامدة تقولبك في إطار مغلق جامد.

ترابط الطبيعة.. جنة تدير عناصرها منذ ملايين السنين

ما زاد جمالية الفيلم هو نص التعليق الذي كُتب بعناية فائقة، فلم يكن تعليقا إضافيا أو يفسر لنا ما هو مرئي أمامنا لتحصيل ما هو حاصل، بل النص كان علميا ومفيدا ومقروءا بصوت تتسرب نبراته إلى وجداننا، فيساعدك على ولوج عالم أرضنا ومحيطنا.

فلا يمكنك إلا أن تتعاطف مع النص العلمي (أتحدث عن النسخة الفرنسية التي شاهدتها فلا أدري كيف هي النسخ الناطقة بلغات أخرى). نص غير أكاديمي بل هو تربوي هادف، ولا يحمل نبرة استعلائية، فتخلق حاجزا بيننا، كما هو معمول به في كثير من هذه النوعية من الأفلام.

كما يتحدث الفيلم عن علاقة مكونات الطبيعة ببعضها والارتباط الشديد فيما بينها، وأن كل مُكون منها لا يمكنه أن يحيا بدون المُكونات الأخرى أو يستغني عنها، فكل عنصر يبحث عن العناصر التي ستعطيه الحياة وتطوره، ثم تدمره تدميرا إيجابيا لخلق عناصر جديدة تحتاج لها الطبيعة، وهكذا دواليك، وهو ما يُصطلح عليه علميا بنفي النفي.

يقول لنا الفيلم إنه لا يمكن عزل الماء عن الأرض والسماء والشمس والنار ولا عن الحجر والحيوانات والنباتات، لنستنتج أن هذه الدورة الطبيعية للحياة تتكرر منذ ملايين السنين كشكل الأرض نفسها الدائرية.

وبعد هذه الحكاية الجميلة لمكونات الأرض وتشكلها وكيف عاش فيها الإنسان البدائي ثم الحضارات المتتالية في تناغم كبير، يصدمنا صاحب الفيلم بإخراجنا من هذه الجنة التي أمتعت عيوننا وعقولنا لوضعنا أمام أمر الواقع الحالي، وكأننا كنا في حلم، ليطالبنا بتحمل مسؤوليتنا الإنسانية للحفاظ على محيط هذا الإنسان.. الأرض.

عبث الإنسان.. استغلال عشوائي يكشف الوجه القاتم

ينتهي الجزء الأول من الفيلم ليدخلنا إلى الجزء الثاني منه، فنشاهد نفس الأرض وقد تجردت من “لباسها الطبيعي الأنيق”، لنعاين من خلال كاميراته ما تعرضت له من نزيف وتخريب بسبب استغلال عشوائي وفوضوي لسطح الأرض وعمقها في زمن قياسي ليس أكثر من عقدين.

لقد أفرغت الأرض من محتوياتها ليتكسر إيقاعها الذي شهد خللا في دورته الطبيعية، ومن ثمة أنتجت إفرازات وظواهر تؤثر سلبا في نهاية المطاف على الإنسان نفسه الذي هو السبب الرئيسي في جرائمه ضد ذاته، وبالتالي ضد الإنسانية.

الحرائق وقطع أشجار الغابات تدمر الطبيعة والحياة على الأرض “يان أرتور بيرتران”

فالأرض تحمل فوقها مليارين من السكان، وأكثر من نصف سكانها فقراء يعيشون في أقطار غنية بالثروات التي لا يستفيدون منها، فيربط الفيلم الوضع البيئي بالوضع الاجتماعي أيضا وما يشهده العالم من غياب التوازن، منعرجا من مشاكل الشغل والهجرة من البادية نحو المدن في بداية الأمر، ثم نحو الأقطار المتقدمة صناعيا، خاصة حين أُنشئت ضيعات متعددة الجنسيات تعتمد على الفلاحة الصناعية، مستغنية عن الفلاح التقليدي.

نُذكر القراء بأننا ما زلنا – في الفيلم – نحلق فوق الأرض ونشاهدها من أعلى، من السماء، كأننا نراها بالمجهر الذي اتخذ في هذا العمل الفني شكل الكاميرا.

لاجئو الطبيعة.. زحف التطور يقتلع الغابات ويغير المناخ

في الفيلم نشاهد الناس من ذات الموقع يشكلون جزءا من محتويات الأرض، فهم الذين يتفاعلون معها سلبيا وإيجابيا أو هما معا. وهم الذين يبنونها ويخربونها ويغيرون مصيرها، فقد حصل الخلل في التغذية والاستهلاك، بسبب وتيرة التطور الصناعي الذي تضاعف بشكل مهول في العقدين الأخيرين.

وهذا التطور الصناعي يطالب بمزيد من الطاقة التي يبحث عنها الإنسان المعاصر بأي ثمن من أجل راحته، ليستخلصها مثلا من الشجر كذلك، وبذلك يخبرنا الفيلم عن تحطيم 13 مليون هكتار من الغابات في فترة وجيزة بمعدل 40% من الغابات التي اقتلعت من مجموع المساحة الحرجية فوق الأرض، ليتسبب ذلك بارتفاع إيقاع الحرارة بنسبة 15% في السنين الماضية، إلى جانب الغازات التي تبثها المصانع المختلفة.

تعمل انبعاثات غازات الدفيئة على رفع درجة حرارة الأرض مما يتسبب بإذابة الجليد في الأقطاب

هذا التحول البيئي خلق ما يمكن نعته -حسب الفيلم- بلاجئي الطبيعة، وقد يتجاوز عددهم 200 مليون بعد سنوات مقبلة، خاصة أن المدن في اتساع مطرد، إذ عرض علينا بعض المدن التي لم تكن سوى قرى صغيرة قبل عشر سنوات، لترتفع فيها ناطحات السحاب بشكل مذهل، خاصة في آسيا والخليج العربي الذي تعمق في البناء داخل البحر، وهذا يزيد في الطلب على الماء الصالح للشرب، لذا يترقب العالم أزمة خطيرة على الماء.

لقد تحملت الأرض الكثير ولم تعد ملك ذاتها الطبيعية، كما أن الإنسان لم يعد جزءا منها، بل إن تطوره الفكري هو الذي أهّله لكي يتحكم فيها كما شاء، فغيّر ملامحها، وهذا يظهر جليا بين جزأي الفيلم.

“لنكتب معا قصة حياتنا”.. آخر فرصة لإيقاف النزيف

بعد هذا الجزء الثاني السوداوي، ينقلنا المخرج/المصور إلى الجزء الثالث والأخير من الفيلم ليحدثنا عن المسؤولية المنوطة بنا، متسائلا هل نقبل بالواقع وننتظر نهايتنا؟ هل من حقنا أن نقبل بتدمير ذاتنا ونستمر في هذا التدمير؟ ألم يعد في مقدورنا فعل شيء لإيقاف هذا النزيف الذي تشهده أمنا الأرض؟ سؤال تلو آخر، لعله يوقظ فينا عمقنا الإنساني، ويحركنا للعمل من أجل إنقاذ الأرض قبل فوات الأوان.

يقول لنا المخرج والمصور “يان بيرتران” إنه لم يعد أمامنا متسع من الوقت، فنحن أمام اختيار واحد لا يوجد غيره، وهو أن نذهب نحو بعضنا، لنتعاون من أجل إنقاذ حياتنا (الأرض)، ولم يعد مسموحا لنا أن نتشاءم.

الطاقة النظيفة حلول بديلة للوقود الأحفوري المتسبب بانبعاثات غازات الدفيئة

يقول ويكرر إننا تأخرنا كثيرا على التشاؤم من واقعنا، فلقد فات الأوان عليه (أي التشاؤم)، وإنما ينبغي التحرك الآن قبل غد في اتجاه الفعل الملموس، لأنه لم يبق لنا سوى عقد واحد لإنقاذ الأرض. لنأخذ مصيرنا بين أيدينا.

وبعد لحظة صمت قصيرة جدا لا تتجاوز ثوان معدودة -تعمدها المخرج حتى نفيق من الصدمة- توجه إلينا من جديد بسؤال يقول لنا فيه: ماذا ننتظر؟ وبهذا السؤال أنهى فيلمه ليكتب بالخط العريض على الشاشة السوداء بدون كلام أو موسيقى: لنكتب معا قصة حياتنا.

أبطال الفيلم الحقيقيين.. رسالة إلى عامة سكان الكوكب

يبدأ المخرج فيلمه بالحديث إلينا، ثم يعود ثانية ليحدثنا في نهايته، لتكتمل دائرة الفيلم كدائرة الطبيعة والأرض، ونكتشف أننا نحن المشاهدين -الذين يتوجه بالكلام إليهم- هم الأبطال الحقيقيون للفيلم، وبالتالي ينبغي أن تكون بطولتنا في مستوى الرسالة التي يحملها لنا الفيلم، خاصة أن بناء الفيلم هو بناء مثلث يشمل مقدمة وتحليلا وخلاصة، بمعنى آخر قصة وعقدة وخاتمة، وهو شكل الهرم الذي يعتمد على القاعدة المركزية (الأساس) للواقع لتشييد عالم أفضل بعدها، ففيلم “وطننا” فيلم علمي في جميع مكوناته السينمائية.

ومن مزايا هذا الفيلم تجاوزه للأفلام الوثائقية التقليدية المعتمدة على تصوير تصريحات ومداخلات العلماء والمتخصصين، بتقديمهم على الشاشة، يفسرون الظواهر بلغتهم المعقدة بالمفاهيم والمصطلحات العلمية معززة بالأرقام.

المخرج والمصور الفرنسي “يان أرتور بيرتران”

وعادة ما تتحول إلى أفلام أكاديمية ونخبوية، لكن صاحب هذا الفيلم لم يلتجئ قط لهذه المدرسة، فلم نشاهد عالما يحدثنا مباشرة، بل أناسا غارقين في عملهم وشغلهم، بوصفهم جزءا من الكون دون تحديد ملامحهم بدقة، مؤثثا عالم الفيلم بأصوات موسيقية ونوتات يصعب تحديد هويتها، وبذلك نزع أي جنسية محتملة للفيلم، بقدر ما أكد لنا بأن لا جنسية للأرض، إنها ملك للجميع، وكانت بعض الدلالات في تعليقه تشير إلى أن ما تعاني منه جهة ما تؤثر بالضرورة على جهات أخرى من الأرض.

وما يتعرض له القطب الشمالي -على سبيل المثال لا الحصر- يؤثر سلبا على المحيطات، وبالتالي على باقي العناصر الأخرى في أرضنا، وهو ما يمكن أن نلاحظه أيضا مثلا حول الجفاف في أفريقيا، إذ أن له انعكاسات سلبية على المناخ العام.. إلى آخره. وعليه فلا جنسية للأرض.

فيلم “وطننا” هو رسالة مستعجلة للإنسان بنفس مستوى الخطورة التي تعاني منها الأرض، فيطالبنا بتغيير سلوكنا تجاهها وتجاه نمط حياتنا المعتمدة أساسا على الاستهلاك كسلوك طاغ في كل المجتمعات بدون استثناء. كما يعطينا الأمل في التغيير ويزرعه فينا. فهل استمعنا له؟ وهل استوعبنا الدرس أم نسيه الجميع في صباح اليوم الموالي؟

فأمعن النظر.. وافعل شيئا.