“أرض الحكاية”.. قصة القدس وفلسطين الممتدة في المستقبل
“أرض الحكاية” هو فيلم تسجيلي طويل، يرصد فيه المخرج رشيد مشهراوي ملامح التغيير والتدمير الذي لحق بمدينة القدس القديمة، وهو الحي العربي التاريخي الكائن في وسط القدس الشرقية، من جراء سياسة الاحتلال الإسرائيلي التي تتبعها سياسة الاستيطان وتشجيع طرد السكان الفلسطينيين من منازلهم القديمة في القس، واحتلال تلك المنازل تمهيدا لتهجير السكان العرب وتهويد المدينة بأسرها.
هذا الخط واضح في الفيلم ولا شك فيه، ويعبر عنه مشهراوي بأكثر من طريقة:
أولا: الحوارات التي يتحدث خلالها عدد من سكان القدس القديمة، عن كم وحجم الإغراءات الهائلة التي يتعرضون لها من جانب اليهود الإسرائيليين، وذلك بالحصول على مبالغ مالية كبيرة مقابل التخلي عن منازلهم. فما يعرض عليهم يزيد كثيرا عن تكلفة شراء مسكن جديد ولكن -بالتأكيد- سيكون خارج نطاق المدينة القديمة التي يعتبرها اليهود الإسرائيليون كيانا يهوديا مقدسا يجب أن يكون ملكا لهم وحدهم، حسب إدعاءاتهم.
وأما الطريقة الثانية: فتصوير ما يتعرض له السكان من تهديدات واستفزازات ومضايقات يومية تصل إلى حد الاعتداءات سواء على زمام البيوت نفسها بشكل مباشر، ما يهددها بالانهيار، أو حتى بالاعتداءات المباشرة.
شهادات مصورة على الاحتلال والتضيق
يدخل رشيد مشهراوي إلى فيلمه البديع في زاويتين: الأولى زاوية التاريخ والحاضر، والصور الفوتوغرافية التي صورها ثلاثة مصورين ينتمون لعائلة مقدسية واحدة يمثلون ثلاثة أجيال من السكان الفلسطينيين الذين إحترفوا فن التصوير وسجلوا بعدساتهم كل تفاصيل المدينة القديمة. وقد أصبحت صورهم شهادة بل ووثيقة حية لما كانت عليه المدينة منذ العشرينيات والثلاثينيات، أي قبل أن تقع نكبة الاحتلال الإسرائيلي بسنوات بعيدة، وما أصبحت عليه بعد الاحتلال.
ومن خلال المصور الفلسطيني الأرمني الأصل، الذي يظهر في بداية الفيلم وهو يصور بكاميرته ما يراه عند المسجد الأقصى وحائط المبكى، راصدا مظاهر الوجود العسكري الإسرائيلي المباشر عند كل زاوية وكل ركن من أركان المدينة، يقدم الفيلم موضوعه برصانة ورونق وشجن خاص، وكأننا نستمع إلى معزوفة حزينة عن المدينة كيف كانت وكيف أصبحت الآن. ويرصده مشهرواي بكاميرته برصانة ومن دون تعليق مباشر.
فيصور الحياة داخل المدينة القديمة، ويتنقل بنا طيلة الوقت بين السكان الفلسطينيين الذين يعيشون في بيوتهم غير آمنين عليها، واعتداءات المستوطنين الذين تم زرعهم داخل أعمق أعماق القدس القديمة التي تصرخ كل أحجار بيوتها رافضة وجودهم، كاشفة عن اغترابهم عن حاراتها الضيقة، وبين وجود تلك الأبراج العلوية التي تحلق فوق بيوت الفلسطينيين.
فتلك البيوت يحتلها سطوحها جندي أو أكثر من جنود الاحتلال الإسرائيلي، يراقبون كل صغيرة وكبيرة في حياة السكان، بل ويسمحون لأنفسهم أيضا بالنزول من أبراجهم لتفقد ما يدور في الحارات وعلى جنبات الطرق الضيقة، بل وأحيانا داخل البيوت بحثا عن أي مبرر لفرض مزيد من التضييق على السكان.
أما الزاوية الأخرى، التي تضمن للفيلم ذلك البناء المتدفق، فهي زاوية متابعة الحياة في القدس القديمة بكل حيويتها رغم حالة الحصار الدائم الممتد الذي ترزح تحته. ويصوره الفيلم من خلال تعقب ذلك “العتال” الذي يستخدم عربة خشبية صغيرة يعمل عليها، ويحملها بالأشياء المختلفة التي يقلها السكان داخل الطرق الضيقة في المدينة التي يستحيل أصلا على السيارات الكبيرة أو سيارات النقل، دخولها.
هذان المدخلان: المصور والعتال، يضمنان للفيلم خطا دراميا يثير الاهتمام، كما يبدوان منسجمين تماما مع طبيعة مادة الفيلم نفسها، فهما من قلب المكان وليس من خارجه (كما لو كانا بدلا من ذلك تمثلا في شخص مصور صحفي مثلا أو فريق تليفزيوني)، فالمصور شاهد على مسار وتغير دروب الحياة، والعتال جزء من حركة الحياة.
صرخة في وجه العالم المتحضر
كثيرا ما ينتابك خلال مشاهدة الفيلم الإحساس بالضيق والاختناق بسبب ذلك الحيز المغلق الذي يضعك فيه الفيلم ومخرجه، وهو نفسه الحيز المحدود الذي يعش فيه السكان وكأنهم أصبحوا داخل معتقل مزدحم خانق تتدهور سبل العيش فيه تدريجيا، وتتدهور حياة السكان، دون أن يملكوا فعل شيء سوى التمسك بالبقاء. فالبقاء حتى في ظل تلك الظروف الخانقة؛ الحصار والاحتلال والاستفزاز والتهديد الدائم، هو جوهر فكرة المقاومة التي تراهن على المستقبل.
لكن الفيلم في الوقت نفسه صرخة تطالب العالم المتحضر، وليس فقط العالم العربي والمجتمع الفلسطيني، بأن يفعل شيئا تجاه إنقاذ ذلك التراث المعماري القديم المعرض الآن للانهيار والذي يعتبر تراثا للإنسانية كلها، ففي انهيارالقدس القديمة، خراب للذاكرة وللتاريخ وللتراث الذي صنعه الإنسان في تلك البقعة التي عرفت تعايشا بين الاديان والأجناس من مئات السنين وحولها الاحتلال إلى بؤرة للكراهية والتناحر والخوف والغضب.
ويعد فيلم “أرض الحكاية” عملا مشحونا بالذاكرة، وبالحزن، وبالرفض وبالعجز وبالاحتجاج، ولكن من دون صوت عال، ولا تعليق مباشر يستجدي التعاطف أو يطالبنا بالثورة، بل من خلال تعاقب خلاب للصور. لكنه في ذات الوقت محزن في كثير من الأحيان.
صحيح أن هناك نعومة في الانتقال عبر أجزاء الفيلم، وهناك لحظات يتوقف فيها الأشخاص عن الحركة أو الحديث أو التعليق، لكي تظل الصورة وحدها تدفعك إلى التأمل والتفكير والإحساس بما تشاهده واستيعابه مهما كانت الجماعة البشرية التي تنتمي إليها، أو الأيديولوجية السياسية التي تحرك أفكارك. وهذا نموذج جيد جدا للفيلم التسجيلي السياسي الذي يملك تأثيرا “كونيا” إنسانيا، أي يمكن أن يشعر بما يقدمه من رؤية، كل إنسان لديه عينان يرى بهما وأذنان يسمع بهما.
القدس وفلسطين.. أرض الحكاية
ولاشك أيضا أن فيلم “أرض الحكاية” هو “نوستالجيا” من نوع خاص جدا، لعصر الصورة بالأبيض والأسود، بجمالياتها التي نفتقدها الآن والتي ترتبط بعالم كان ولاشك، أكثر رحمة وفهما وتطلعا للحلم. أما وقد تلون بألف لون، فقد تاهت معالمه وضل الإنسان طريقه في داخله.
وأما موسيقى الفيلم، فهي تلعب دورا رئيسيا في تكثيف الإحساس بموضوعه، بمأساة سكانه، بما يرقد تحت السطح من ألم ومعاناة وشعور بالحصار. فاستخدام مشهراوي للموسيقى دقيق ومحسوب للتعبير عن المشاعر دون أن تعيق أبدا قدرة المشاهد على التأمل والتفكير.، ولعل هذا من أفضل أفلام مشهراوي التسجيلية أيضا وأكثرها بلاغة وتميزا، ولا شك أنه أصبح مسيطرا تمام السيطرة، على الأسلوب وعلى توليد الفكرة من الصورة، ودفع الفيلم إلى الامام من دون اضطراب ولا وقوع في الاستطرادات.
“أرض الحكاية” في النهاية، هي القدس، هي فلسطين، التي تحكي منذ 65 عاما، حكاية مستمرة لا يبدو أنها ستصل قريبا إلى منتهاها!